1
وقفتُ على الخشبة المرتفعة، كأنني أمام مسرحٍ عظيمٍ صُمِّم خصيصًا لعرض نهايتي. مئات الأعين تتشبّث بي ببرودٍ وقسوة، تراقبني كأنني وحش غريب أُحضر ليُذبح أمامهم. الحبال الخشنة تلتف حول معصميّ وساقيّ، تشدّ جسدي إلى عمودٍ خشبيٍ في المنتصف، فتمنع عني أي حركة، حتى أنفاسي بدت ثقيلة وكأنها تتعثر في القيود.
ارتفعت أصوات الحشد كالموج العاصف:
“اقتلوا تلك الشريرة!”
“لقد حاولت قتل العائلة الإمبراطورية! خائنةٌ للمملكة!”
الكلمات اخترقت أذني كسكاكين صدئة، لكنها لم تُصِب قلبي بقدر ما أصابه منظر أمي. كانت جالسةً على عرش الإمبراطورة، ظهرها منتصب كأنها جبل لا تهزه الرياح، خدّها مسنودٌ إلى يدها، وعيناها تتأملانني بنظرات باردةٍ متجمدة. لا غضب، لا رحمة… فقط صمتٌ قاسٍ يذيبني أكثر من أي لعنة. بجانبها جلس أخي الأصغر …… أو لعلّه لم يعد أخي، بل الإمبراطور …… ملامحه متصلبة، ملامح حاكمٍ لا شقيقٍ، كأن الدم الذي يجري بيننا لم يعد يعني شيئًا.
تساءلت في داخلي: كيف وصلتُ إلى هذا الجحيم؟ أنا التي لم أعصِ لهما أمرًا يومًا، كنتُ أتحرك على وقع كلمات أمي وأخي، أظن أن طاعتي لهم هي الحماية الوحيدة لي. فكيف أقف الآن متهمة بالخيانة؟! أقسم أني لم أفعل شيئًا… لم أمدّ يدي إلى أحدٍ بسوء. أنا التي أخاف من إيذاء قطة، كيف يمكن أن أتجرأ على قتل إنسان؟!
انهمرت دموعي، قطرات ساخنة تحرق وجنتيّ أكثر من الحبال التي تشق جلدي. نظرتُ إليهما …… أمي وأخي …… أبحث في وجهيهما عن ذرة تصديق، عن أي بادرة رحمة. لكن نظراتهما كانت كالجدران: صلبة، عالية، لا ينفذ منها بصيص ضوء. أدركتُ حينها أن كلماتي لن تغيّر شيئًا، وأن صوتي سيظلّ غارقًا وسط صيحات الجمهور.
بدأت الحجارة تتساقط عليّ، قطعةً تلو الأخرى، تتبعها أشياء صلبة لا أعرفها. كل ضربةٍ كانت توقظ ألمًا جديدًا في جسدي، وكل ارتطامٍ كان يدوّي في أذني كالرعد. أحسست بالدماء تختلط بدموعي، بالجلد يتورّم تحت الحبال المشدودة. ارتجف جسدي كله، لكني ظللت مرفوعة الرأس، كأن شيئًا في داخلي يرفض الانكسار رغم كل العذاب.
صرختُ بأعلى صوتي، صرخةً خرجت من أعماق صدري، من قلبٍ محطَّم لم يعد يحتمل:
“أرجوكم… أوقفوا هذا الجحيم! أنا لم أفعل شيئًا!”
لكن صرختي تلاشت وسط هدير الأصوات، وسط موجات الغضب التي لم يكن لها شاطئ. شعرتُ أن العالم قد اتفق على إعدامي، وأن الحقيقة التي أصرخ بها قد دُفنت تحت أكوام الكراهية، بلا شاهدٍ ولا منصف.
“بحقِّ الجحيم… لماذا هذا؟ على الأقل كنتُ أريد ميتةً هادئة، لا أن أموت بهذه الطريقة!”
بدأت دموعي تنهمر بغزارة، اختلطت بأنفاسي المتهدجة وأنا أراقب المشهد أمامي يتشوّه أكثر فأكثر.
رغم ذلك، كنت أعتقد أن الموت أفضل في النهاية… كنتُ سأموت على أي حال بسبب المرض، والآن الجميع قد أجمع على موتي، لا بأس… سينتهي هذا الجحيم قريبًا.
وفجأة، انطلقت صرخةٌ من بعيد، صرخةٌ مزّقت ضجيج الحشد.
رفعتُ رأسي بصعوبة، ودموعي ما تزال تنساب على وجهي، لأرى المشهد الذي جعل أنفاسي تتجمد في صدري.
“أماريل!”
وللحظةٍ لم أستوعب ما أراه… شعرٌ أزرق، وعيونٌ بلون السماء… أليس هذا…؟
نظريتي تجمدت، قلبي توقف عن الخفقان للحظة، وأنا أحدّق في المشهد.
كان ذلك أخي غير الشقيق، دوريفان.
كان يمسك بسيفه، يندفع بين الجنود بخطواتٍ سريعةٍ وغاضبة، والفرسان يهاجمونه بسيوفهم محاولين إيقافه، لكنه كان يستل سيفه في وجههم بلا تردّد، يصدّ ضرباتهم ويطعنهم واحدًا تلو الآخر.
كانت الدماء تتناثر عليه، على شعره، على ملابسه، وحتى على وجهه الذي غطّاه لون الدم القاني، حتى بات مظهره مرعبًا… ومع ذلك، لم أستطع أن أشيح بنظري عنه.
كنتُ في حالة ذهولٍ تام، الدموع ما تزال تتساقط على خدي، وقلبي يتخبط بين الخوف والارتباك والدهشة.
اقترب مني، وأنا ما زلتُ مربوطةً إلى الوتد، عاجزةً عن الحركة أو الفهم.
كان الدم يلطّخ وجهه بكثافةٍ حتى بدا كقناعٍ مخيف، ومع ذلك… وسط تلك الفوضى، رأيت في عينيه شيئًا لم أتوقعه أبدًا — نظرةَ شفقةٍ، وحزنٍ، وحبٍّ خالصٍ موجع.
لماذا…؟
لماذا هو؟
ولماذا الآن؟
“أماريل… هل أنتِ بخير؟”
كان صوته مضطربًا، لاهثًا، وهو يفك الحبال عن معصمي بسرعةٍ مرتجفة. كانت يداه ترتعشان من شدّة العجلة، بينما أقدامه تلتف حول الخشبة، يبحث عن أي عقدةٍ يمكن أن تُنقذني.
لم أستطع الوقوف… الحبال كانت قد تركت آثارًا عميقة على جلدي، وكأنها حفرت في لحمي. كل محاولة لتحريك قدمي كانت تُشعل الألم من جديد في أطرافي.
“أختي… هل أنتِ بخير؟”
تجمدت عيناي عليه، وكأن الزمن توقف عند كلمته تلك.
أختي؟
لماذا يناديني هكذا… بعد كل ما حدث؟ بعد كل ما فعلته — أو ما اتُهِمتُ به؟
اختلطت الدموع بتراب وجهي، وأنا أنظر إليه في صمتٍ عاجز، لا أجد ما أقوله.
“أماريل، توقفي عن البكاء الآن… فلنهرب بسرعة، قبل أن يحدث شيء!”
اقترب أكثر، عينيه تلمعان بالقلق. “سأحملك… لن تستطيعي المشي بهذه الحالة.”
كانت الكلمات تصلني كأنها من عالمٍ آخر، بعيدة، مشوشة.
أحاول الرد، لكن صوتي لم يخرج. حلقي كان جافًا كالصحراء، وأنا لم أذق طعامًا ولا ماء منذ يومين في السجن.
حتى التفكير أصبح مؤلمًا… ما الذي يحدث؟ لماذا انقلب كل شيء رأسًا على عقب؟
“أماريل!”
رفعتُ بصعوبةٍ رأسي نحوه، وفي تلك اللحظة… رأيت شيئًا خلفه — ظلّ رجلٍ يحمل سيفًا ضخمًا يلمع تحت ضوء النار. حاولت أن أصرخ، أن أُنذره، لكن الصوت لم يخرج.
“انتبه!” أردتُ أن أقولها، لكن شفاهي لم تتحرك، فقط الهواء خرج بلا صوت.
وفي ثانيةٍ واحدةٍ، سمعْتُ الصوت الحاد يخترق الهواء — طعنةٌ نظيفة، قاسية.
السيف اخترق صدره من الخلف، وغاص ببطءٍ في جسده حتى خرج من الجانب الآخر.
جحظت عيناي، وامتزجت الدماء التي تناثرت منه بدموعي المتساقطة على وجهي.
لم أتحرك… لم أتنفس… فقط نظرت إليه وهو يترنّح أمامي.
“دوريفان…”
خرج اسمه من بين شفاهي كهمسٍ محطم، كأن روحي نفسها قد انكسرت معه.
تراجع خطوة، وقطرة دم سالت من فمه، نظر إليّ — تلك النظرة الأخيرة التي لا تُنسى، خليط من الألم، والحب، والوداع.
“أماريل… آه… ربي… بسرعة!”
كان صوته يتلاشى بين الذعر والألم، بينما جسدي بالكاد يستجيب. لم أكن أستطيع الحركة، ركبتي ترتجفان، وكدت أسقط وأنا ما زلت واقفة.
كل شيء بدا ضبابيًا… رأسي يدور، وصدري يعلو ويهبط بصعوبة، والدماء التي كانت تغمر المكان جعلت الهواء ثقيلاً على صدري.
رغم أن حلقي كان جافًا تمامًا، خرجت مني صرخة داوية مزّقت الصمت من حولي…
صرخة تحمل كل الألم، الخوف، والانهيار الذي كتمته داخلي طوال هذا الوقت.
“تواااافقوا!!! أرجوكم… توافقوا… أنا تعبت من هذا…”
كانت الكلمات تتساقط من شفاهي كأنها أنين… أناديهم، أرجوهم، أريد أن يتوقف هذا الجحيم الذي لا ينتهي.
دموعي تساقطت بغزارة، تغسل وجهي الملطخ بالتراب والدم، بينما كنت أتحرك نحوه بخطواتٍ متعثرة.
كل خطوة كانت كطعنة، كأن الأرض نفسها ترفض أن تحملني.
“دوريفان…” همست باسمه بصوتٍ مبحوح، وامتدت يدي نحوه ببطء…
وفجأة، قبل أن أستطيع الوصول إليه…
اخترق شيءٌ حاد صدري. جاء بسرعةٍ خاطفة، لدرجة أنني لم أشعر بالألم في البداية.
نظرت أمامي بذهول، أحاول استيعاب ما حدث… ثم بعد لحظاتٍ معدودة، عندما اخترق السهم الجهة الأخرى مني، اجتاحني الألم كالنار التي تلتهم الجسد.
شهقت بصوتٍ مكتوم، أنفاسي انقطعت، ويدي ارتجفت وهي تحاول الإمساك بالسهم المغروس في صدري.
عيناي اتسعتا، وكل ما رأيته كان السماء تتشوه أمامي، وضوء النار يبهت شيئًا فشيئًا…
كان الألم لا يُحتمل، كأن قلبي يُمزق ببطء.
سقطت على ركبتي، وصوت ارتطام جسدي بالأرض اختلط بصوت أنفاسي المتهالكة…
سقطتُ أرضًا، غير قادرةٍ على تحريك أي شيءٍ في جسدي. الألم كان يمزّقني من الداخل، لكني رغم ذلك بدأت أزحف ببطءٍ شديد، أزحف نحو الأمام في محاولةٍ يائسةٍ لبلوغ دوريفان.
كانت الدماء تسيل منه بغزارة… دماؤه تختلط بدمائي التي كانت تنهمر بدورها على الخشبة، فتشكل معًا بقعًا داكنةً تنزلق عليها يداي المرتجفتان.
كنت أزحف بصعوبة، كل حركة كانت انتزاعًا من أنفاسي الأخيرة، وكل شبرٍ أقطعه كان يبدو وكأنه مسافة عمرٍ كامل.
أمام عيني، كان جسده ممددًا بلا حراك… جثةً هامدةً صامتة، كأن الحياة قررت مغادرته دون وداع.
“دوريفان…”
خرج صوته من بين شفتيّ مرتجفًا، تملؤه الندامة والرجاء.
“أنا… آسفة… آسفة… على كل ما فعلته بك… أرجوك، لا تجعلني أموت وأنا أحمل ذنبًا أكبر…”
حاولت أن أواصل الحديث، لكن حلقي كان جافًا، وكأن كل قطرة ماء في جسدي قد تبخرت.
“أخبرني… لماذا… أنقذتني؟”
الكلمات خرجت متقطعة، يكسوها النزيف والاختناق.
ألمٌ حارق اجتاح حلقي، والدم بدأ يتدفق من فمي بصوتٍ مكتوم، جعل كل محاولةٍ للنطق أشبه بطعنةٍ جديدة.
لم أعد أستطيع الزحف أكثر، توقفت يداي عن الحركة، وفقدت القدرة على رفع رأسي. حاولت الوصول إلى يده، لكن المسافة بيننا بدت أطول من أي وقتٍ مضى.
بدأ نفسي يتباطأ، وكل شهيقٍ كان أثقل من الذي قبله، حتى شعرت أن صدري سينفجر من العجز.
نظري بدأ يتشوش، والعالم من حولي صار يذوب كحلمٍ يحتضر.
وفجأة… دوّى صوت ضجيجٍ آتٍ من الأسفل.
خطواتٌ كثيرة، صراخٌ متداخل، وأصوات حديدٍ يُسحب.
بدأ رجالٌ كُثُر يصعدون إلى الخشبة، ضباب المشهد يتكثف أمامي… ولم أعد أميّز إن كانوا يأتون لإنقاذي… أم لإنهاء ما تبقّى مني.
لكنّي لم أكترث إن كانوا أعداءً أم حلفاء… لم يعد يهمّني شيء سوى أن يفعلوا أمرًا واحدًا فقط.
“أ…ر…جُوكم… أ…خي… أنقذوه…”
خرج صوتي متقطّعًا، بالكاد مسموعًا، كأن كل حرفٍ فيه يذوب قبل أن يكتمل.
رأيت رجلًا يندفع نحونا بسرعةٍ كبيرة، ركع بجانب دوريفان ليتفحّصه… لكن بصري كان ضعيفًا، كل شيءٍ من حولي بدا ضبابيًا، كأن الضباب احتلّ العالم بأسره.
لم أعد أرى سوى ظلالٍ تتحرّك أمامي ببطءٍ ثقيل، وأذناي لا تلتقطان سوى أصواتٍ مشوشةٍ ومتقطعة… إلى أن اخترقت أذني جملة واحدة، واضحةٌ كالسهم:
“يبدو أنه مات…”
تجمّدت أنفاسي.
ظننت أن مجيئهم قد يكون فيه الأمل الأخير، أن أحدهم قد ينقذه… لكن لا… يبدو أن القدر قرر أن يسدل الستار قبل أن أصل إليه.
بدأت دموعي تنهمر بعنف، رغم أن أنفاسي كانت متقطعة، متقطعة لدرجةٍ جعلت الهواء يرفض الدخول إلى صدري.
كنت ألهث كمن يغرق، وقلبي يخفق بجنونٍ وسط كل هذا العجز.
اقترب الرجل الذي كان بجوار دوريفان مني… انحنى قليلًا، وصوته بدا قريبًا كأن العالم كله صمت ليستطيع أن يُسمع.
“سموّ الأميرة… تماسكي، رجاءً…”
نظرت إليه، لكن الرؤية كانت تبهت أكثر فأكثر… لم أعد أميز ملامحه، فقط رأيت بريقًا خافتًا من شعره بلونٍ برتقاليٍ يشعّ وسط الضباب الذي يبتلع كل شيء.
بدأت أنفاسي تتقطع أكثر، صدري يعلو ويهبط بصعوبةٍ موجعة، وأطرافي فقدت الإحساس تدريجيًا.
أغمضت عينيّ ببطء… ليس استسلامًا، بل لأحتفظ في آخر لحظةٍ بوجه دوريفان في ذاكرتي، قبل أن يبتلعني السكون الكامل…
كيف وصلت حياتي إلى هذه الطريقة؟
سؤالٌ ظلّ يتردّد في رأسي، كأنني أحاول فهم سلسلةٍ من الأخطاء التي قادتني إلى هنا…
والدي، الذي كان آنذاك وليّ العهد، كان عليه أن يتزوج من إحدى العائلات العُظمى في الإمبراطورية.
ورغم أنه كان يحب امرأةً أخرى… إلا أنه اضطرّ لتركها، من أجل مصلحة العرش والإمبراطورية.
اختار الواجب بدل القلب، كما يفعل جميع من يعيشون في قصرٍ لا يحقّ لهم فيه أن يختاروا الحب.
وحينها، تزوج والدتي.
لم يكن بينهما حبّ، لكن كانت تجمعهما علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، علاقة مثالية في نظر الجميع، خالية من الشغف لكنها مليئة بالواجب والهيبة.
لكن المشكلة الحقيقية… بدأت بعد ذلك.
المشكلة كانت أنا.
بطبيعة الحال، كان على الإمبراطور أن يضمن استمرار السلالة، ليحافظ على استقرار الإمبراطورية…
لكن أمي أنجبتني بصعوبةٍ بالغة، كادت تفقد حياتها لأجلي، ومنذ تلك اللحظة لم تعد قادرة على الإنجاب مجددًا.
ليت الأمر توقف عند هذا الحد…
إلا أن المشكلة الأكبر كانت أنني وُلدتُ مريضة، ضعيفة الجسد إلى حدٍ جعل الجميع يدرك أنني لن أكون أبدًا الوريثة التي ينتظرها العرش.
طفلةٌ هشة، لا تصلح لاستلام الحكم، ولا حتى لمواجهة العالم الذي وُلدت فيه.
أبي… ذلك الرجل الذي لم يرَ فيّ يومًا أي نقص، كان يحبني حبًا خالصًا، نقيًا لا تشوبه شفقة ولا تمييز.
بينما أمي كانت شديدة القسوة عليّ، قاسيةً في كلماتها ونظراتها وحتى صمتها…
لكنني لم أكرهها يومًا، بل أقنعت نفسي أني أستحق تلك القسوة، وأن ما تفعله ليس كرهًا… بل محاولة لتقويني. كنت أظن أنها تفعل كل ذلك من أجلي أنا.
لكن في ظل تلك الظروف، اضطر والدي إلى الزواج مرةً أخرى… من أجل السلالة، من أجل الإمبراطورية…
وحينها تزوج المرأة التي أحبها منذ البداية.
لاحظت أمي التغيّر في تصرفاته… كان ما يزال يعاملها بالاحترام نفسه، وبالهيبة التي تليق بالإمبراطورة الأولى، لكنه لم يعد يخفي حنانه ومودّته تجاه الإمبراطورة الثانية.
نظراته، صوته، حضوره بجانبها… كلها كانت تفضحه.
غضب أمي حينها كان كبركانٍ مكتوم، انصبّ عليّ أنا، وكأنني كنتُ الجدار الذي امتصّ كل نقمتها وصمتها. تحملت كل ذلك بصمتٍ طفلةٍ لا تفهم سوى أنها السبب في كل شيء.
وعندما بلغت الخامسة من عمري، أنجبت الإمبراطورة الثانية طفلها… دوريفان.
كان الجميع يحتفل بميلاده، وكأن الإمبراطورية استنشقت الحياة من جديد.
وبعد عامين فقط، حدثت المعجزة… أمي أنجبت أخي الأصغر، ڤاسكال، رغم أن الأطباء أكدوا أنها لن تستطيع الإنجاب مرة أخرى.
وهكذا أصبحت عائلتنا تتكوّن منّا نحن الأربعة: أبي، أمي، دوريفان، وڤاسكال.
لكن السعادة لم تدم طويلًا…
فقد ماتت الإمبراطورة الثانية بعد ذلك بوقتٍ قصير، ورحل معها جزءٌ من والدي.
تحوّل إلى رجلٍ غارقٍ في صمتٍ طويل، يختبئ وراء واجبه الإمبراطوري بينما روحه تذوب في الحزن.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ الشرخ الحقيقي بيننا.
والدي الذي انطفأ داخله شيءٌ لا نعرفه، وأمي التي ازدادت برودًا وجفاءً، وأخي الأصغر ڤاسكال الذي أصبح حذرًا بشدة من أخيه غير الشقيق…
أما أنا… فكنت فقط أراقب بصمت، أحاول أن أفهم في أي لحظةٍ تحوّلت العائلة التي وُلدت فيها إلى مسرحٍ من الجليد…
أبي… الذي أنهكه المرض حتى صار طريح الفراش، لا يقوى على الحركة، ولا يسمع صوته إلا همسًا متعبًا.
وأمي… التي استغلت غيابه لتصبح صاحبة القرار في كل شيء.
رغم أن أخي دوريفان كان من المفترض أن يتولى العرش من بعده، فإن الجميع اتفق على أن يكون فاسكال هو الوريث، لأنه ابن الإمبراطورة الأولى.
الغريب أن دوريفان لم يعترض أبدًا، لم يظهر غضبًا أو طمعًا، فقط اكتفى بالصمت، ذلك الصمت الذي كان أثقل من أي احتجاج.
أما أمي… فقد أصبحت تتحكم بكل ما يدور في القصر والإمبراطورية.
وأنا؟ كنت أنفذ أوامرها دون أي اعتراض، كأنني دمية تتحرك بخيوطٍ خفية.
كانت أمي لطيفة معي أحيانًا، قاسية أحيانًا أخرى، لكنها كانت دومًا تضعني بين نقيضين… دفء اللحظة وثلج الخوف بعدها.
ثم جاء اليوم الذي غيّر كل شيء.
أمرتني أمي… وأخي أيضًا… أن نفعل أمرًا لا يُغتفر.
أن نضع سحرًا أسود في غرفة دوريفان… كي يُتّهم بالخيانة ويُنفى من الإمبراطورية.
رفضت. رفضت بكل ما أملك من قوة.
لكن لا أحد يستطيع أن يرفض الإمبراطورة الأولى.
أجبروني… أقنعوني بأن هذا لمصلحتنا جميعًا، قالوا إن دوريفان سيسعى إلى العرش عاجلًا أم آجلًا، وإنه سيؤذينا جميعًا من أجل الحكم.
ولأنني كنت ضعيفة… خضعت.
خنتُه بيدي.
أنا التي كان يجب أن تكون آخر من يطعنه، كنت أول من فعل.
والآن… أنا الوحيدة التي تقف أمام الموت، وهو… مات من أجلي.
يا ليتني أستطيع العودة… فقط لو أستطيع أن أمحو ما فعلت…
“سموّ الأميرة… استيقظي… هل أنتِ بخير؟”
سمعت الصوت يأتي من بعيد، كأنه يأتيني عبر الماء.
فتحتُ عينيّ ببطء، جسدي مثقل، أنفاسي متقطعة، وشعورٌ غريب يسري داخلي.
“أين… أنا؟”
صوتي خرج واهنًا، بالكاد يُسمع.
“مهلًا… ألم أمت؟ أين… أنا الآن؟”
Chapters
Comments
- 1 - ذنب لا يغتفر منذ 3 ساعات
التعليقات لهذا الفصل " 1"
يمهه😭