ليسيا لم تتمكن من إغلاق فمها المفتوح من الصدمة وهي ترى دلفينا التي تغيّرت تغيّرًا كاملاً.
لقد اختفى تمامًا ذلك المظهر الذي كانت تعجب به وتُعلى من شأنه كأميرة ولية العهد.
«حسنًا، بما أننا تأخّرنا عن حفل الزفاف، فلا بدّ لي من منحكم عقوبة تتناسب مع ذلك، أليس كذلك؟»
جلس الإمبراطور على المقعد الأعلى وهو ينظر إلى الجميع من علٍ. وإلى جانبه، لم تكن الإمبراطورة، بل دلفينا هي من جلست.
أما الإمبراطورة التي حاولت متأخرة الاقتراب من جانب الإمبراطور، فقد تراجعت مذهولة وأطلقت ضحكة فارغة مليئة بالذهول.
«بما أن العديد من النبلاء وجميع أفراد القصر قد حضروا هذا الزفاف، فسأعلن أمرًا واحدًا.»
قال الإمبراطور ذلك وهو يحيط بيد دلفينا اليمنى بكلتا يديه.
«سأجعل دلفينا دي يلكا الزوجة الإمبراطورية الأولى.»
عند إعلان الإمبراطور، قامت الإمبراطورة لوشينا من مقعدها فجأة معترضة:
«جلالتك! حاليًا عدد الزوجات الإمبراطوريات خمس. وبحسب قانون الإمبراطورية، لا يمكنكم أن تتجاوزوا خمس زوجات إمبراطوريات!»
«إذن، سأخفض رتبة ميدين من زوجة إمبراطورية إلى محظية عادية.»
«جلالتك! لقد خدمت ميدين جلالتك لمدة عشرين عامًا، وكانت تساندني أيضًا. كيف تفعل هذا بها؟»
«لذلك بالضبط، حان الوقت لأن تنزل عن منصب الزوجة الإمبراطورية. وبدلاً من تخفيض رتبتها فقط، سأمنح ابنها، الأمير السادس بينيو هيلدغار، إقليم سوفيرين كأرض له، وأمنحه لقب دوق.»
كان الفرق بين معاملة الزوجة الإمبراطورية والمحظية كالفرق بين السماء والأرض.
في البداية، كانت الزوجة الإمبراطورية ميدين لا تعرف ماذا تفعل في هذا الموقف، لكن حالما سمعت أن ابنها بينيو سيُمنح لقب دوق، قامت فورًا من مقعدها وأدت التحية بكل أدب.
«أشكر جلالتكم على هذه النعمة العظيمة.»
كان عدد الأمراء يصل إلى عشرات، وحتى لو كبروا وتزوجوا، فإن لقب الدوق كان يُمنح فقط لعدد قليل جدًا من الأبناء المفضّلين.
كان بينيو مجرد شخص عابث لا يتمتع بأي قدرات بارزة، فلم يلفت نظر الإمبراطور ولا الإمبراطورة ولا حتى دييغو، وكان دائمًا مصدر قلق لميدين.
لكن أن يصبح ابنها دوقًا مقابل أن تُخفض هي إلى مرتبة محظية! قبلت الزوجة الإمبراطورية ميدين الواقع.
وبما أنها قبلت برضى ارادة الإمبراطور، لم يكن أمام الإمبراطورة سوى التراجع في النهاية.
لم تستطع الإمبراطورة كبح غضبها، فحدّقت في دلفينا بنظرات حادة، لكن دلفينا لم تتجنب تلك النظرات.
«إذن، حان الوقت لتهنئة أبطال اليوم، أليس كذلك؟»
عند كلام الإمبراطور، اقترب رئيس الخدم من كايلوس وليسيا.
«صاحبة السمو الأميرة، تفضلي بالتقدم أمام جلالة الإمبراطور.»
«أنا وحدي؟»
«نعم، صاحبة السمو الأميرة فقط.»
أكد كايلوس مرة أخرى للخادم، لكن الإمبراطور دعا ليسيا وحدها فعلاً.
ورغم أنه لم يهدأ بعد من مشاعره، إلا أن كايلوس ربت عدة مرات على كتف ليسيا المتوترة جدًا.
«لن يحدث شيء. فلا ترتجفي بهذا الشكل المخزي.»
بمساعدة الخادم، تقدمت ليسيا أمام الإمبراطور.
انصبّت أنظار جميع الضيوف الذين كانوا يستمتعون بالوليمة في القاعة الكبرى عليها.
«أيتها الأميرة، أهنئك بالزواج.»
«كل هذا بفضل جلالتكم. أشكرك على السماح لنا بإقامة الزفاف في القصر الإمبراطوري.»
«لذلك أريد أن أقدم للأميرة الجميلة هدية تهنئة بالزواج. سأمنح الأميرة بنفسها فرصة اختيار أرض دوقية ديمن.»
«ماذا؟»
أخذ رئيس الخدم الأميرة ليسيا المذهولة إلى ستارة عازلة أُعدّت في جانب المقعد الأعلى.
كان الجميع يشاهدون هذا الموقف وكأنه لعبة مسلية ويستمتعون به.
لكن كايلوس وقبيلة ديمن وحدهم كانوا قلقين. فالإمبراطور لم يكن ليعطي أرضًا جيدة بسهولة.
خلف الستارة التي أُعدّت كغرفة صغيرة، كانت هناك خريطة كاملة لقارة ألوس.
كانت «نوكت» في أقصى شمال القارة طويلة أفقيًا وعريضة جدًا. وعليها ثلاث نقاط حمراء.
النقطة الأولى كانت مباشرة فوق العاصمة، محصورة بينها وبين إيديلس.
من الخريطة، كانت قريبة من العاصمة، وفيها سهول وأنهار، ومساحتها شاسعة جدًا.
النقطة الثانية كانت في أقصى شرق نوكت، ملاصقة للبحر، ومن الخريطة تبدو صحراء خالية من الأخضر تمامًا.
أما النقطة الثالثة فكانت في أقصى جنوب نوكت، صغيرة جدًا. أصغر حتى من قصر نوكت الإمبراطوري.
فكرت ليسيا طويلاً. بدلاً من الصحراء أو الأرض الصغيرة جدًا، بدت الأرض الشاسعة القريبة من العاصمة التي تحتوي على جبال وأنهار وسهول بشكل متوازن هي الأفضل على الإطلاق.
«هل اخترتي؟ هذا الاختيار لا رجعة فيه، لذا يجب أن تكوني حذرة.»
«سأختار هذه.»
كانت هناك خرائط أيضًا في غرفة نوم الضيوف الخاصة، وكانتلريسيا تفتح خريطة نوكت بجدية مع كايلوس مؤخرًا لتفكر أي أرض سيحصلان عليها.
كانت تعرف كيفية قراءة الخريطة، وبما أنها ليست المنطقة التي توقعتها مع كايلوس تمامًا، إلا أن ليسيا كانت راضية جدًا عن اختيارها.
لقد اختارت أفضل أرض، ألن يهدأ قلب كايلوس قليلاً الآن؟
بهذا التفكير، نظرت إلى رئيس الخدم بفخر وابتسامة.
حتى تلك اللحظة، كانت لا تعلم مطلقًا أن الإمبراطور قد لعب بها خدعة واحدة.
من النظر إلى الخريطة فقط، كانت «ديادين» التي اختارتها ليسيا تبدو الأفضل على الإطلاق.
لكن الوحوش السحرية لم تكن مُسجّلة على الخريطة.
أرض ال99 أرض الموت التي لا يستطيع إنسان العيش فيها لأنها مليئة بـ«فيتون»، أخطر الوحوش السحرية وأكثرها صعوبة في كامل قارة ألوس… تلك كانت بالضبط «ديادين».
«اسم هذا المكان هو ديادين.»
«نعم.»
ابتسم رئيس الخدم الذي كان بلا تعبير حتى تلك اللحظة ابتسامة خفيفة وأومأ برأسه.
شعرت بيسيا ببعض الارتياح عند رؤية ابتسامةوبها رئيس الخدم. يا رب، أرجو ألا يكون اختياري خاطئًا…
سرعان ما خرج رئيس الخدم من الستارة وأعلن اختيار ليسيا. فعلت تنهيدة عميقة في القاعة الكبرى بأكملها.
لم تكن ردة الفعل عادية. شعرت ليسيا بالخوف يتسلل إليها، فترددت في الخروج من الستارة.
ظن الخادم العائد أن جسدها ثقيل من التوتر، فدعمها بنفسه.
عندما خرجت من الستارة، كانت ردود الفعل نوعين: قبيلة ديمن أظهرت خيبة أمل كبيرة، أما البقية فكانوا يبدون سعداء ومستمتعين بهذا الموقف.
«لقد اختارت الأميرة ديادين. أرض الظلام التي يسكنها فيتون… إنها تناسب ديمن تمامًا. أيتها الأميرة ليسيا، أرجو أن تحكمي ديادين جيدًا مع كايلوس من الآن فصاعدًا.»
«……نعم، جلالتك. سأردّ الجميل لهذه النعمة.»
كانت ليسيا تخشى العودة إلى المكان الذي يتجمع فيه كايلوس وقبيلة ديمن.
كلما اقتربت، بدأت تسمع بوضوح أصوات الهمهمات والتذمر.
«ديادين؟ كيف يمكن أن يعطونا عشّ فيتون…؟»
«وفوق ذلك، أليست أرضًا ميتة تمامًا! أرض لا يمكن زراعتها بسبب فيتون، ويمنحونها لنا!»
«ما هي الأراضي التي كانت مرشحة؟»
«كان هناك ميناء التجارة شورين، وتشيكمن التي فيها مناجم الألماس.»
«وتركوا تلك الأراضي وأعطونا ديادين!»
«لماذا اختارت صاحبة السمو الأميرة ديادين بالذات؟»
«أليست قريبة من العاصمة؟ على الأرجح، بما أنها أميرة، فهي تفضّل ما هو قريب من العاصمة.»
رغم أن «نوكت» نفسها تقع في شمال القارة، إلا أن العاصمة كانت في منتصف البلاد تمامًا، أرض معتدلة ذات فصول أربعة واضحة وسهلة العيش.
أما ديادين التي تقع مباشرة فوق العاصمة، فكانت هضبة محاطة من كل الجهات بسلاسل جبلية عالية ووعرة، حصن طبيعي.
لكن الشتاء فيها كان قارسًا وطويلًا بشكل استثنائي.
والمشكلة الأكبر من أي شيء آخر كانت وجود الوحش السحري فيتون.
كل من ولد في نوكت يعرف السمعة السيئة لديادين، لكن ليسيا التي جاءت من يلكا لم يكن بإمكانها أن تعرف.
الجميع تجاهلوا هذه النقطة واعتبروا ليسيا مجرد أميرة طائشة جاهلة.
«آه… ماذا أفعل…»
عضّت ليسيا شفتها السفلى المرتجفة بقوة وكتمت كلماتها لنفسها.
لم تعد تشعر أنها تمشي من شدة الارتباك. ذراعاها وساقاها تتحركان من تلقاء نفسيهما وهي تتجه نحو كايلوس.
كان وجه كايلوس الذي يظهر من بعيد متصلبًا إلى درجة مخيفة. حالما رأته، شعرت أن الدموع على وشك أن تنهمر.
كايلوس وقبيلة ديمن، الجميع يبدو وكأنهم يلومونها هي وحدها فقط، وهذا كان ظلمًا كبيرًا بالنسبة لها.
لكن بما أنها هي من تسببت في كل هذا باختيارها، فلم يكن بإمكانها أن تعترض.
«هذا صحيح. في مثل هذه الأوقات يجب أن نجمع قوتنا أكثر، أليس كذلك؟»
«نعم. لقد تغلبنا حتى عندما صُودرت جميع ألقابنا وأراضينا. ألم ننسَ بعدُ تلك الأيام التي كنا نجوع فيها في شوارع كابو؟ الوضع الآن أفضل من تلك الأيام.»
لم يكن الجميع يلومون ليسيا. بدأ بعض الشيوخ في تهدئة أفراد القبيلة.
عندما عادت ليسيا إلى المقعد بجانب كايلوس، أمسكت ببطنها وانهارت كأنها تتهاوى في مقعدها.
لم يعد لدى ليسيا قوة لتحمل المزيد. كل ما كانت تتمناه الآن هو أن ينتهي حفل الزفاف هذا بسلام وبسرعة.
في تلك اللحظة، بدأت دلفينا تهمس بشيء في أذن الإمبراطور.
فمدّ الإمبراطور يده وهو يبتسم كأنها لطيفة، يداعب خدّها وقال:
«تقول الزوجة الإمبراطورية دلفينا إنها تريد إلقاء كلمة تهنئة. تفضلي يا دلفينا، تكلمي.»
قامت دلفينا ببطء من مقعدها بحركات دلوعة ومغرية، ثم جلست ومسحت نظرها على الحضور.
ثم رفعت ذقنها وعدّلت كتفيها وخصرها. كانت عادة اكتسبتها من أيام خطاباتها كأميرة ولية العهد.
«جلالتك، أشكرك على منحي فرصة التهنئة. أتقدم بالشكر إلى دوق ديمن الذي اتخذ أختي الصغرى، أميرة يلكا ريسيا دي يلكا، زوجة له. ليسيا التي وُلدت كابنة غير شرعية لم تتلقَ الحب في يلكا. والسبب أن يلكا لا تحتقر الأبناء غير الشرعيين فحسب، بل تستعبد الجنيات أيضًا. ليسيا التي كانت أمها جنية وعبدة، كانت دائمًا في وطني…»
كلما استمرت كلمة التهنئة من دلفينا، كلما اصطبغت وجوه أفراد قبيلة ديمن بالذهول والارتباك.
«أم صاحبة السمو الأميرة جنية؟»
«مستحيل. أليست الجنيات غير قادرات على حمل طفل من ديمن؟»
«لكن صاحبة السمو الأميرة حامل…»
«حتى بعد اختفائها لم تبحث عن الدوق. إذن السبب في ذلك…»
بدأت الأجواء بين أفراد قبيلة ديمن تتحول إلى جو عدائي في لحظة.
فجأة صاح شخص ما، لا يُعرف إن كان من قبيلة ديمن أم من ضيف آخر:
«الأميرة كذبت!»
خفضت ليسيا رأسها من شدة حدّة نظرات الضيوف.
طفلها هو بالتأكيد طفل كايلوس. كانت تستطيع أن تقسم باسم الإلهة ديتا. لكن لماذا؟ لماذا بالضبط؟
عندما رفعت ليسيا رأسها، كان كايلوس الذي كان بجانبها قد اختفى تمامًا.
لم تعد تستطيع البقاء في ذلك المكان أكثر. استغلت هي الأخرى الفوضى وخرجت من القاعة الكبرى.
كان عليها أن تجد كايلوس وتشرح له كل الحقيقة.
كان عليها أن تعتذر عن خطئها اللحظي بإعطاء دبوس الشعر اللؤلؤي لأصلان، وأن تقول له إنها لم تخنه أبدًا وأن الطفل في بطنها هو ابن كايلوس.
لكن لماذا لا يظهر كايلوس؟
وبينما كانت ليسيا تتجول في ممرات القصر ذهابًا وإيابًا، نظرت من نافذة كبيرة تطل على الحديقة الخلفية.
ربما يكون كايلوس في الحديقة.
بدأت ليسيا تركز ببطء على حواسها. هكذا هي الجنيات. يمكنهن سماع أصغر صوت، ورؤية أبعد مسافة. إذا أرادت، يمكنها أن تشعر.
«أنا أيضًا أحبك…»
دغدغ أذنيها اعتراف حب بصوت مألوف جدًا. صاحبة الصوت كانت بشكل مفاجئ دلفينا.
لكن اعتراف الحب هذا لم يكن موجهًا للإمبراطور الذي لا يزال في القاعة الكبرى. إذن من هو الطرف الآخر؟
وبي
نما كانت ليسيا تفحص أنحاء الحديقة بعينيها، رأت دلفينا التي تحول شعرها إلى ذهبي لامع كأنه ذهب مذاب. وأمامها…
عندما تأكدت من هوية الرجل الواقف أمام دلفينا، تجمدت ليسيا في مكانها. ارتجفت شفتاها الحمراوان السميكتان.
التعليقات لهذا الفصل " 49"