نهضت ليسيا من مقعدها دون أن تشعر. كانت تحدق في كايلوس بشرود.
كان شعور الارتياح لنجاتها، والامتنان الذي لم تستطع تقبّله، يدوّخانها.
شعور لم ترغب قط في أن تحس به تجاه كايلوس ديمون بالتحديد، جعل أنفها يتشنج. شعرت أنه لو لم تفعل ذلك، لانفجرت بالبكاء في أية لحظة.
وكان منظرها وهي تحاول حبس دموعها، مثيرًا للضحك، حتى إن كايلوس أطلق ضحكة عالية وهو يرفع قناع وجهه.
رفع سيفه الضخم نحو السماء وهتف مرة أخرى بصوت جهوري:
“اقتلوا كل جنود يلكا الذين يحاولون إيذاء الأميرة!”
حين لم يبادر المتمردون بمهاجمتهم، بدأ جنود نوكت، الذين كانوا يراقبون الموقف بحذر، بالتحرك بناءً على أوامر قائدهم.
“احموا السيدة ديمون! إذا أصيبت السيدة ديمون بأذى، فستكون العقوبة شديدة!”
وبانضمام دييغو أيضًا إلى إصدار الأوامر، بدأ جنود نوكت يهاجمون المتمردين. واندلعت المعارك في أرجاء الغابة.
“أميرةنا! العربة قادمة!”
كانت العربة التي تقل الأميرات قد اقتربت إلى حافة الجرف. وأسفل ذلك الجرف السحيق، كان هناك نهر عميق وعريض.
ربما ظنّ المتمردون أن ليسيا كانت بداخل العربة، فشنّوا عليها هجومًا عنيفًا.
صعد جنود نوكت ليس فقط حول العربة، بل حتى إلى سطحها، ليصدوا وابل السهام المتساقط باستخدام دروعهم المعدنية الثقيلة.
كان ثيورد يقود ليسيا بينما يصد السهام القادمة باستخدام السحر. ولكن يبدو أن المانا لديه كانت ضعيفة، فكان سحره يتجلى ويختفي بصعوبة.
“هذه هي الأميرة ليسيا دي يلكا! افسحوا الطريق!”
قال ثيورد بلهجة مستعجلة أمام الجنود المحيطين بالعربة. وكانت ليسيا تقف بجانبه، ممسكةً من معصمها كما لو كانت طفلة صغيرة.
غطّت رأسها بغطاء معطفها حتى لا تُكشف، وظلت تتلفّت حولها، منكمشة الجسد خوفًا من أن يلاحظها المتمردون.
لقد نجت بصعوبة، ولم تكن تريد أن تموت هكذا.
“إنها الأميرة ليسيا هناك!”
“تبا!”
تسلّم ثيودور درعًا حديديًا من أحد الجنود وأخفى ليسيا خلف جسده.
لم يتبقَ سوى القليل للوصول إلى العربة. إن تقدموا أكثر قليلًا، فسيصلون. كانت ليسيا قد عقدت العزم على الوصول إليها.
على الأقل، إلى أن سمعت ذلك الصوت.
“ليسيا دي يلكا! كيف أمكنك أن تخونيني وتدنّسي نفسك بين يدي العدو؟!”
ماريـوس تانشي. اقترب ماريـوس حتى صار صوته مسموعًا عن قرب.
كان من الممكن تفهّم إهانة باقي أبناء يلكا لها، لكنها لم تتخيل أبدًا أن ماريـوس بالذات سيكون من بينهم.
“أنت من خنت أولًا!”
هتفت ليشيا بغضب، وأزاحت غطاء رأسها، وخرجت من خلف الدرع.
وحين رفع ماريـوس يده، توقف المتمردون عن إطلاق السهام مؤقتًا.
“يا… أميرة…”
رغم أن شعب نوكت لا يؤمن بالحاكمة، فقد أراد ثيودور أن يسأل حاكمة القارة، ديـتا.
لماذا فرضتِ عليّ مهمة مرافقة أميرة بهذه العشوائية؟
وفوق ذلك، كان سيدي يركض نحوه، لا، بل نحو الأميرة، وقد غمره الغضب من بعيد. أطلق ثيودور تنهيدة عميقة.
“أردت فقط أن أعيش! كل ما أردته هو البقاء حيّة. عندما أرسل جلالة الملك وثيقة خطبتي إلى نوكت، أين كنت أنت؟ ماذا كنت تفعل؟”
لكن ماريـوس والمتمردين لم يكونوا مستعدين للاستماع إلى كلماتها.
“ليسيا، مهما كانت أعذارك، لا يمكنني أن أسامحك. لقد خنتِ وطنك.”
ساد الهدوء مؤقتًا. فعدد المتمردين لم يتجاوز العشرات على أية حال.
ولم يكن بإمكانهم مواجهة عشرات الآلاف من جيش نوكت.
“لماذا تعاملني بهذه الطريقة…؟”
وفي النهاية، لم تستطع ليسيا كتمان دموعها وانفجرت بالبكاء. وبينما كانت تخفي وجهها بيديها، همس أحدهم في أذنها:
“ابنة سالين… وأختي، ليسيا…”
كان الصوت خافتًا للغاية، حتى إن أحدًا غير ليشيا لم يكن ليستطيع سماعه.
رفعت رأسها بوجه مبلل بالدموع، وتفحصت المكان من حولها.
كان جميع المتمردين يضعون أقنعة بيضاء وأغطية للرأس. ثم خفض أحدهم الغطاء قليلًا.
وبما أن وجهه كان مغطى، لم تستطع تمييز ما إذا كان رجلًا أم امرأة، لكن عينيه الخضراوين كالغابة كانتا واضحتين.
وخصلة الشعر الأحمر، التي انزلقت من تحت الغطاء كقطرة دم…!
هوية من ناداها… كانت بالتأكيد شقيقتها من الأم والأب، كارين.
ثم جاء همسٌ آخر، خافت جدًا، فركزت ليسيا كامل حواسها للاستماع إليه.
فالجنّ، أكثر من أي أحد، يمكنهم رؤية البعيد وسماع أضعف الأصوات.
“لن نموت بهذه السهولة… لذلك، ارمي بنفسك من على الجرف… سننقذك…”
كارين، التي حدثتها والدتها عنها، جاءت لتُنقذها.
شعرت ليسيا أن صدرها سيمتلئ من شدة الانفعال، إذ التقت أخيرًا بأفراد عائلتها الذين ظنّت أنها يجب أن تبحث عنهم أولًا.
وإن خطت خطوات قليلة فقط إلى الوراء، فستكون عند حافة الجرف، كما قالت كارين.
“ليسيا، نلتقي في الحياة القادمة. في الحياة القادمة، سأحرص على الزواج بك. لا خيار لديّ سوى القضاء عليك الآن. سامحيني.”
ما هذا الهراء؟ ولماذا سأتزوج بك؟ وفي الحياة القادمة، أيضًا؟ تمتمت ليسيا، بينما كانت تنظر سريعًا نحو الجرف.
مع انتهاء كلمات ماريـوس، انهال وابل جديد من السهام، وأُقيم درعٌ سحريّ ضعيف أمام ليسيا من قبل ثيودور.
وبعدها مباشرة، أطلق ماريـوس صرخة احتضار.
ألقى ظلٌ أسود ضخم بظلاله خلفه. كان كايلوس
وبوجه خالٍ من التعابير، استخرج كايلوس سيفه من جسد ماريـوس.
وفي لحظات، قُتل ماريـوس، وتبعه المتمردون واحدًا تلو الآخر، على يد جنود نوكت.
ظلّوا، حتى وهم يموتون، يوجهون سهامهم نحو ليسيا حتى اللحظة الأخيرة.
ومع نفاد المانا لدى ثيودور، بدأت الحاجز الدفاعي يضعف شيئًا فشيئًا.
ثم اخترق أحد السهام الحاجز متجهًا نحو ليسيا.
نظرت ليسيا، وقد أصابها الذعر، إلى أختها.
أشارت لها كارين بإيماءة من رأسها. عندها، ابتسمت ليسيا ابتسامة مشرقة.
“كا… كارين…”
“نعم. فقط اسقطي من على الجرف هكذا…”
أُصيبت ليسيا بسهم في كتفها، ثم اختفت مباشرة من على حافة الجرف إلى الأسفل.
وحين تأكدت كارين من أن ليسيا سقطت من الجرف، لبست عباءتها وتوارَت بين جنود نوكت.
❖ ❖ ❖
في الوقت ذاته، كان كايلوس غير بعيد، يسترجع سيفه المغروز في جسد ماريوس تانشي، متأكدًا من حال ليسيا.
وفي تلك اللحظة، رأى السهم يخترق الحاجز الدفاعي ويصيب كتف ليسيا.
“كا… كايل…”
نادته ليسيا باسمه. كان شكل فمها ينطق به.
وفي آخر لحظات حياتها، نادته دون شك.
تلك الفتاة الهشة، كانت ترتجف وهي تنظر إليه، ثم ابتسمت له ابتسامة صافية، للمرة الأولى والأخيرة.
ثم اختفت من أمام عينيه.
ألقى كايلَروس خوذته من رأسه على عجل وقفز من على فرسه.
لم يستطع السير فورًا، بل ترنّح واقترب متمايلًا من حافة الجرف السحيق.
“يا سيدي! لا يمكنك ذلك!”
أمسكه ثيودور، الذي كان مصدومًا من عدم قدرته على حماية ليسيا، وقد فقد وعيه للحظة.
“القائد!”
“سيّدي!”
تدافع المساعدون نحوه، كلٌّ يناديه بلقبه، محاولين منعه بجِد من أن يخطو نحو حافة الهاوية.
“الأميرة سقطت من الجرف…”
قالها بصوت منخفض متهدّج.وكان في صوته شعورٌ عميق بالهزيمة لعدم قدرته على حماية من يحب.
“كايلوس… سنُرسل فرقة تفتيش أسفل الجرف، لذا رجاءً تماسك…”
قال دييغو، الذي وصل لتوه، محاولًا منع كايلوس الذي بدا أنه سيلحق بليسيا في أية لحظة.
لكن كايلوس أبعد يد دييغو وضحك بسخرية.
“دييغو… سيكون الأوان قد فات حينها.”
ثم، دون أدنى تردد، ألقى بنفسه من فوق الجرف.
“يا سيدي!”
جمع ثيودور ما تبقى له من مانا وغطّى جسد كايلوس المتساقط بها.
ورغم أنه لم يستطع منعه من السقوط في النهر، إلا أنه استطاع تقليل سرعة سقوطه.
وبفضل ذلك، طفا كايلوس على سطح الماء وبدأ بالسباحة.
“جنون… جنون بحق. لقد فقد صوابه تمامًا.
ثيودور، هل أنا وحدي من يظن أن ابن عمي جُنّ بسبب الأميرة؟”
قال دييغو وهو يضع يده على صدره متنهّدًا بغضب.ولعلّ كل من كان حاضرًا حينها، شعر بالمثل.
وحتى تلك اللحظة، كان الجميع يعتقد أن كايلوس ديمون سيتمكن بسهولة من إنقاذ الأميرة.
❖ ❖ ❖
حين استعادت ليسيا وعيها، كان الليل قد حلّ.
وكان الظلام حالكًا لا يُرى فيه أي شيء.
لكن رائحة الأعشاب كانت تملأ الأجواء، وأصوات الحشرات ترنّ في الأذنين، إلى جانب أنفاس ثقيلة ومتسارعة.
كانت تُحمَل على ظهر أحدهم وهو يصعد بها الجبل.
الشخص الذي كان يحملها طويل القامة، عريض المنكبين، وكان رجلًا.
“…كايلوس؟”
“ليسيا؟ هل استعدتِ وعيك؟”
اقتربت منها امرأة ذات شعر أحمر قانٍ، تمامًا مثل شعرها وشعر والدتها، وعينان خضراوان داكنتان، وأخذت تراقب حالتها.
“…أختي؟”
فابتسمت كارين ابتسامة مشرقة، ولمست شعر ليشيا الأحمر بيد خشنة لكنها حنونة.
“نعم، أنا. أبي! ليسيا استعادت وعيها! الحمد لله.”
ضمّت كارين ليسيا، التي كانت على ظهر والدها.
لكن بعد لحظة، غابت ليسيا عن الوعي مرة أخرى.
❖ ❖ ❖
كان دييغو يتنهد بعمق وهو ينظر إلى ابن عمه المقيّد بالسلاسل من رأسه حتى قدميه.
كايلوس، الذي ظل طوال اليوم في الماء بحثًا عن ليسيا، كان مبلّلًا تمامًا.
وساد الصمت أرجاء الخيمة.لم يكن يُسمع فيها سوى صوت النار المشتعلة،
وقطرات الماء التي كانت تتساقط من جسد كايلوس.
وبعد صمت طويل، فتح دييغو فمه قائلًا:
“كايلوس… موت الأميرة لا يعني نهاية حياتك.
هناك الكثير من النساء في هذا العالم. سأتحدث مع والدتي، ونختار لك واحدة من أخواتي…”
“لقد وسمتني الأميرة.”
كان دييغو قد رفع كوبًا من النبيذ الساخن إلى فمه، لكنه تفاجأ وتفل الشراب فورًا.
ثم، وق
د فَقَدَ شهيته، سكب ما تبقى من النبيذ على أرضية الخيمة الترابية.
رفع كايلوس رأسه ونظر إلى دييغو.كان شعره ووجهه مبللين. لم يكن ذلك بسبب الدموع… لا، دييغو كان يأمل ألا تكون دموعًا.
“ليسيا دي يلكا حاولت قتلي.”
“تلك المجنونة، كيف تجرؤ…!؟”
التعليقات