“لقد دُمّرت حياتي بسبب الختم الذي رُسِم بيني وبينك. كان يجب أن ألتقي بامرأة أفضل منك. امرأة ذكية وقوية… وتحبني، تحبني أنا فقط… وليس مثلكِ.”
كان كايلوس يخرج كلماته بصعوبة من بين أسنانه المضغوطة، وكأنه يقاوم الغضب المكبوت.
شعرت ليسيا وكأنها أصيبت بصدمة برق فجائية، فرمشت بعينيها الخضراوين الكبيرتين.
هل كان الختم الذي يربط بينهما بهذا القدر من الكراهية بالنسبة له؟
لقد عاملها ليلة البارحة كما لو كان عاشقًا، مما جعلها تسيء الفهم. لكنها أدركت الآن أنها لم تكن بالنسبة له سوى غنيمة حرب.
“أنا حقًا نادم على أنني ارتبطت بختم معك. لو كان بإمكاني التراجع عنه، لتراجعت.”
قبض كايلوس على قبضته بشدة حتى أصبح لون بشرته المتناسق يميل إلى الشحوب.
امتلأت عينا ليسيا بالدموع وهي تنظر إلى كايلوس. وعضّت على شفتها السفلى بشدة محاولة منع نفسها من البكاء.
لم ترد أن تُظهر ضعفها أمام رجل يحتقرها.
مسحت دموعها، ورتبت شعرها الأحمر المتساقط خلف أذنيها، وتظاهرت بأنها لا تبالي.
هي من أغوته عمدًا لأغراض أخرى، ودخلت معه في علاقة.
ومع ذلك، فهي تلوم نفسها لأنها شعرت بخيبة أمل وانكسر قلبها بسببه.
“نادِ ثيودور.”
بعد أن خرج كايلوس من الغرفة، مدت ليسيا يدها نحو رأس السرير.
وحين تأكدت من أن الخنجر لا يزال في مكانه، غطت نفسها باللحاف حتى رأسها، وانفجرت بالبكاء.
ثيودور، الذي جاء لخدمة ليسيا، أصيب بالصدمة عندما رأى حالتها، فاستدعى الطبيب.
جسد ليسيا، الذي كان يعاني أصلًا من ارتفاع في الحرارة، أصبح الآن كأنه كتلة من النار.
لكن لا الطبيب الذي جاء، ولا سحر الشفاء الذي استخدمه ثيودور، استطاعا أن يخففا من حالتها.
ولأن ثيودور لم يعد قادرًا على تأخير الرحيل، فقد أجبر نفسه على رفع جسد ليسيا ومساعدتها على الوقوف.
“سأساعدكِ في الوصول إلى العربة.”
“لا أريد الركوب في العربة…”
تفاجأت ليسيا بشدة عند ذكر العربة، وأصرت على الرفض.
“سموكِ. يجب أن تركبي العربة.”
“لا أريد…”
بدأت تبكي كالأطفال، متشبثة بثيودور، رغم أنها بالكاد تستطيع الوقوف.
شعر ثيودور وكأنه سيجن. لم يكن يعلم لماذا غضب كايلوس مجددًا، لكنه تخلّى عن ليسيا بالكامل.
والآن، ها هي ترفض ركوب العربة أيضًا… جعلت ثيودور عالقًا بين الاثنين، لا يدري ماذا يفعل.
“سأذهب سيرًا.”
“سموكِ الأميرة. أرجوكِ…”
أراد ثيودور أن يصرخ: “أرجوكِ! استمعي لما أقول!”، لكنه لم يستطع ذلك بالطبع.
وفي النهاية، استسلم لرغبتها.
الطريقة الوحيدة التي استطاع التفكير بها هي وضع ليسيا في عربة البضائع.
فلم يكن هناك عربة إضافية، ولا يمكن أن يسمح لها بالمشي، لذا كان هذا هو الحل الوحيد.
جلست ليسيا في عربة البضائع وهي ترتدي عباءة بنية، وكانت محشورة بين الأمتعة.
بدا منظرها كأنها مجرد قطعة من الأمتعة، وأحست بالحرج إن رآها أحد.
「مولاي، أعتذر. سموّ الأميرة لا ترغب في ركوب العربة المخصصة لها.」
「لا بأس. هذا يناسب مستواها تمامًا.」
مر كايلوس بالعربة وسخر من منظر ليسيا، وقد كان مختلفًا تمامًا عن البارحة عندما كانت تتوسل إليه وهي قلقة.
سار ثيودور خلف عربة البضائع يراقب ليسيا.
بعد انطلاق الموكب المتجه نحو العاصمة بنصف نهار تقريبًا، دخل جيش الفتح طريقًا غابيًا تحيطه أشجار الصنوبر العالية.
كانت عربة البضائع التي تحمل ليسيا تتقدم بصعوبة وسط الغابة، حيث تغطي الصخور والأحجار الطحالب.
وكانت تتأوه من الألم، إذ كانت تُضرب مرارًا وتكرارًا بالأمتعة التي حولها.
عرض تيورد عليها مجددًا أن تنتقل إلى العربة، لكنها رفضت حتى النهاية.
وحين اقتربوا من وسط الغابة، بدأ الضجيج ينتشر فجأة من كل اتجاه.
فتحت ليسيا عينيها بصعوبة، وكانت بين النوم واليقظة بسبب الحمى.
“هاجموا!”
بدأت الصيحات والصراخ تتردد من كل مكان.
قفز ثيودور بسرعة إلى عربة البضائع.
“اللعنة. في هذا الوقت بالتحديد، وقد نفدت مني المانا تمامًا…”
كان قد استخدم معظم طاقته السحرية صباحًا لعلاج ليسيا، والآن لم يتبقَّ شيء.
وها هو العدو الكامن قد هاجمهم في أسوأ توقيت.
“ما الذي يحدث؟”
“بقايا جيش يلكا يهاجمون! هذا المكان خطر. يجب أن تذهبي معي إلى العربة التي فيها سموّ الأميرات.”
لكن، وإن كان هؤلاء أعداء لثيودور، فإنهم ليسوا كذلك بالنسبة لليسا.
دفعت تيورد بعيدًا، رافضة أن يساعدها.
ثم وقفت بصعوبة فوق عربة البضائع المهتزة. كانت ساقاها ضعيفتين وكأنها ستسقط في أي لحظة.
حاولت بكل ما لديها من تركيز أن تتفقد محيطها.
وحينها، لمحت شخصًا تعرفه جيدًا من بعيد.
كان ماريُوس.
رغم تأخره، إلا أنه يبدو وكأنه جاء أخيرًا لينفذ وعده بإنقاذها.
كان يمتطي جواده ويندفع بأقصى سرعة نحوها. مدّ يده نحو جعبة السهام على ظهره وهتف بصوت عالٍ:
“اقضوا على ليسيا دي يلكا، خائنة الوطن التي أصبحت زوجة للعدو!”
ظهر مارييوس ومقاتلو المقاومة من بين أشجار الصنوبر الكثيفة والصخور العملاقة.
اتخذ جيش نوكت وضعية دفاعية ضد الهجوم المباغت من قِبل المقاومة. ومع ذلك، لم يبادروا بالهجوم أولاً، نظرًا لقلّة عدد المقاومين.
“اقبضوا على ليسيا دي يلكا! اقتلوا عدوة يلكا، ليسيا دي يلكا!”
ردّد مقاتلو المقاومة من يلكا خلف مارييوس بصيحات مدوّية:
“لا تخافوا! اهجموا!”
“اقضوا على نوكت! اقضوا على الأميرة ليسيا!”
“هاجموا الغزاة وثأروا لوطنكم!”
“فلتخلد يلكا إلى الأبد!”
كانت ليسيا تغطي رأسها بقلنسوة بنية بالية، منحنية الرأس، وقابضة على قبضتيها بإحكام.
لم يستطع ثيودور، الذي كان يراقبها عن كثب، أن يتخيل مدى الذل والإهانة التي تشعر بها الآن، وهي التي كانت ذات يوم تعيش كأميرة.
حتى لو صرخت أو بكت، لكان الأمر أهون. شعر تيورد بالحزن واقترب منها خطوة واحدة.
لكن ما حدث كان بعيدًا تمامًا عن توقعاته.
“ذا، ذاك، ذلك الوغد المجنون!”
رفعت ليسيا رأسها فجأة، وأشارت بأصبعها إلى مارييوس، وصرخت بألفاظ نابية.
العدو الذي ينبغي على مارييوس أن يقاتله هو نوكت، لا هي.
حتى مقاتلو المقاومة من يلكا هاجموا جيش نوكت، ومع ذلك، كان مارييوس وحده يستمر في توجيه التهم والصراخ عليها.
بل إن بعض الجنود تأثروا به وانساقوا خلفه.
غضبها كان طاغيًا لدرجة أنها لم تعد قادرة على الحفاظ على هيبتها كأميرة أو كرامتها.
أما ثيودور، فظل فاغرًا فاهه من الصدمة، غير قادر على قول شيء.
كان مارييوس، الذي لم يكن وريثًا لدوقية العائلة بل الابن الثاني،
قد اقترب أولاً من ليسيا في وقت كانت فيه وحيدة ومنهكة.
كان الناس ينتقدون مارييوس ويقولون إنه ماكر. فبما أن قانون يلكا لا يسمح إلا للابن البكر بالوراثة،
لم يكن لمارييوس أي لقب أو مكانة، لكن لو تزوج من ليسيا، لكان الملك سيمنحه لقبًا حفاظًا على كرامته.
ليسيا كانت تحاول دومًا نفي تلك الأقاويل. لكن يبدو أن كلامهم كان صحيحًا؛ فبسبب الوفاة المفاجئة لأخيه، أصبح مارييوس وريثًا، ثم خانها.
والآن، هو نفسه ينعتها بالخائنة ويحاول قتلها.
الغضب منحها قوة لم تكن تملكها، وأنساها حتى الألم.
“سموكِ؟”
تمسّكت ليسيا بعباءة ثيودور السوداء.
“ثيودور، اقتله. يمكنك أن تفجر رأسه بسحرك، أليس كذلك؟”
أبعدها ثيودور عن نفسه بنظرة متضايقة.
“تفجير الرأس…؟ لا يمكن استخدام السحر بدقة على هذه المسافة.”
“إذًا سأكون الطُعم. عندما يقترب ذاك الوغد، اقتله أنت!”
خلعت ليسيا القلنسوة التي كانت تغطي رأسها. فانسكبت خصلات شعرها الأحمر الناري حتى خصرها، وانكشف وجهها.
كان مشهدًا لافتًا للنظر لدرجة أن ثيودور التفت بسرعة ليتفقد ما إذا كان أحد قد رأى.
“لديه قوس، لذا لن يقترب. أعيدي القلنسوة بسرعة.”
“ذلك الوغد كان أول حب لي.”
قالت ليسيا ذلك، وقد بدا على وجهها النقي أثر تشوّه، تنظر برجاء إلى ثيودور.
وضع ثيودور يده على جبينه.
كيف انتهى الأمر بسيدي وهو يرتبط بختم مع امرأة كهذه؟
“… إذًا سيكون من الأفضل القضاء عليه لأجل سيدي.”
بما أن ختم قد نُقش، فإن كايلوس سيحب الأميرة ويعتبرها شريكة له مدى الحياة.
مما يعني أن من يقترب من الأميرة هو عدو لثيودور أيضًا.
“استدراجكِ له بنفسكِ أمر خطير. من الأفضل العودة إلى العربة. سأخبر سيدي بالأمر وسيتصرف.”
كان مارييوس كالمجنون، لا يفكر إلا في إيجاد ليسيا.
استمر في الصراخ بلا انقطاع: خائنة الوطن، ليسيا دي يلكا. العاهرة التي باعت جسدها للبقاء. الفاجرة التي أسقطت الدولة.
وعندما سمعت ليسيا هذه الكلمات من شخص أحبّته يومًا، شعرت وكأن كل حياتها التي عاشتها طوال عمرها قد تم إنكارها بالكامل.
ما الذي ارتكبته من خطأ؟ كل ما فعلته هو أنها وُلدت. لم تكن هي من اختارت أن تولد كأميرة غير شرعية.
جلست ليسيا على الأرض، وغطت وجهها بيديها، وبدأت تبكي بحرقة كالأطفال. اجتاحها شعور بالوحدة القاسية من رأسها حتى قدميها.
“احموا الأميرة!”
في تلك اللحظة، دوّى صوت خشن ومرتفع يملأ غابة الصنوبر.
رفعت ليسيا رأسها بسرعة لتتبع مصدر الصوت. وكان صاحبه كايلوس، راكبًا على حصان أسود.
تحت أشعة الشمس التي انعكست فوق درعه الفضي، كان رداؤه الأسود يرفرف بعنف في مهب الريح.
شعر على ما يبدو بنظراتها، فأنزل واقي وجهه. نظر إلى ليسيا لبرهة، ثم تبسم.
كانت تلك الابتسامة تبدو وكأنها تقول: “لن أدعكِ تموتين، فلا تقلقي.”
التعليقات