كان موقع إقامة احتفالات يوم التأسيس هو ساحة ترافول، التي بُنيت خصيصًا لتُطل مباشرة على شرفة القصر الإمبراطوري. من هناك، يخرج جلالة الإمبراطور ليُعلن عن يوم التأسيس، ويهتف الجمهور بعدها ثلاث مرات بحياة الإمبراطور.
وبحسب التقاليد، كان من المفترض أن تنطلق في اللحظة نفسها عشر عربات من داخل القصر الإمبراطوري، لتجوب العاصمة في عرض مهيب، ناشرة الذهب والعملات على طول الطريق.
لكن في ذلك الحدث التاريخي، اقتُطع جزء من تلك الطقوس لأجلي.
كان تسلسل المراسم على النحو التالي: يظهر الإمبراطور أولًا ويلقي خطابه، ثم أخرج أنا لأعرض جوهرة روزانهير وأُجري العرض التجريبي لها أمام الجميع، ثم يظهر الإمبراطور مرة أخرى ليُعلن رسميًا عن يوم التأسيس، لتنطلق بعد ذلك عربات الاستعراض من القصر كما هو مقرر.
وقد صُممت شرفة القصر المطلة على ساحة ترافول لتكون فسيحة بما يكفي لمثل هذه المناسبات، لكنها، مع ذلك، كانت محدودة من حيث عدد الأشخاص الذين يمكنها استيعابهم.
لهذا السبب، كان من المعتاد أن يقتصر الوقوف على تلك الشرفة على أفراد العائلة الإمبراطورية وكبار النبلاء، بمن فيهم والدي.
ولكن بما أنني كسرت التقاليد بدخولي إلى ذلك المكان، فقد كان ديوان الاحتفالات الملكي، المسؤول عن تنظيم المراسم، متحسسًا جدًا حيال هذا الأمر، وأبدى تشددًا واضحًا في التعامل معه.
“هل فهمتِ، يا آنسة؟ على الشرفة، عليكِ الالتزام الكامل بتعليماتنا.”
“أنا على علم بذلك.”
“الأمر الوحيد الذي يسمو فوق تعليمات ديوان الاحتفالات هو أمر جلالة الإمبراطور نفسه. فإذا ما غيّر جلالته رأيه في أثناء الحدث، وطلب منكِ الانسحاب، فعليكِ الامتثال فورًا.”
“نعم، فهمت.”
أجبتُ مرارًا، حتى بدا على مركيز ديميل، المشرف على ديوان الاحتفالات، أنه ارتاح أخيرًا وأومأ برأسه.
“يوري.”
مدّ والدي ذراعه نحوي، فيما بقي كل من كاليكس وإيليني في الغرفة الداخلية المتصلة بالشرفة.
في الحقيقة، مجرد دخول تلك الغرفة يُعد امتيازًا لا يُمنح إلا لأفراد قلة من النبلاء الرفيعين، بحسب ما أوضحه المركيز ديميل.
“أختي، كوني حذرة في ذهابكِ. إيليني، ألا تودين توديع أختكِ؟”
“…نعم، يا أخي.”
قالت إيليني بنبرة توحي بعدم الرغبة، لكنها ما لبثت أن التفتت إليّ وقالت:
“عودي سالمة، رجاءً.”
“بالطبع، سأعود.”
أمسكتُ بذراع والدي وصعدت إلى الشرفة.
“وااه!”
يا إلهي…
مجرد ظهوري على الشرفة كان كافيًا ليُشعل حماسة الحشود الغفيرة التي ملأت الساحة بأكملها.
تداخلت أصوات الصفير والتصفيق والهتاف بحياة الإمبراطور في ضوضاء صاخبة كادت تُصيب أذنيّ بالطنين.
<النظام> أنتِ تقفين أمام حشود غفيرة!
<النظام> نظرًا لتجاوز قوة إرادتكِ 250، تحافظين على هدوئكِ وثباتكِ.
“واو…”
كان المشهد مهيبًا بحق.
في الصف الأمامي من الشرفة وقف الإمبراطور، وخلفه مباشرةً كان الأمير إيان والأميرة سيسيليا.
وعندما تجولت بعينيّ، رأيت الارشيدوق كاميل واقفًا في مكانه المخصص أيضًا.
“يحيا الإمبراطور! يحيا الإمبراطور!”
لوّح الإمبراطور بيده طويلًا، حتى بدا أنه أرضى الجماهير بما يكفي، ثم فتح فاهه بالكلام:
“يا رعايا إمبراطورية كاسيس…”
ساد صمت مطبق كأنما سُحبت الأرواح من المكان.
“حين أرى وجوهكم في هذا اليوم المبارك من ذكرى تأسيس الإمبراطورية، تتزاحم في قلبي مشاعر كثيرة.”
تلت ذلك خطبة لم تحمل شيئًا استثنائيًا؛ بدأ بتمجيد مناقب الإمبراطور الأول، وتحدث عن عظمة أسلافه من الأباطرة، ثم ختم بالقول إنه هو مَن يحمل اليوم ذلك المجد.
وبرغم بساطة الخطاب، بدا أنه حرّك مشاعر الناس، إذ بدأت أصوات البكاء تتعالى من هنا وهناك.
“والآن…”
أخيرًا، أنهى الإمبراطور خطبته.
“في هذا اليوم، أرغب في استدعاء شخصية مميزة إلى هذا المقام.”
بدأت الهمهمات تنتشر في أرجاء الساحة، متعجّبة من هذا الخروج عن المألوف.
“تلك الشخصية هي، الأميرة يوري إيروز، الساحرة المقدسة التي ورثت دماء روزانهير بعد مئتي عام!”
“وااه!”
حتى أولئك الذين لا يعرفون من أكون، أطلقوا هتافاتهم الحماسية استجابةً لكلمات الإمبراطور.
“يا آنسة.”
أشار الإمبراطور إليّ بيده، فتقدّمت حتى وقفت في مقدمة الشرفة.
“وااه!”
بلغت الهتافات ذروتها، حتى شعرتُ أن أذني ستنفجران من شدة الضجيج.
“يا إلهي…”
بل تجاوز الأمر الإبهار إلى حدٍّ أشعرني بالرهبة.
الوقوف أمام هذا الكمّ من الناس استنزف طاقتي النفسية أكثر مما تخيلت.
‘هل سأتمكن من أداء المهمة جيدًا؟’
حتى هذا النوع من الأفكار بدأ يتسلل إلى رأسي.
“والآن…”
ما إن تحدث الإمبراطور مجددًا، حتى خيّم الصمت المطلق مرة أخرى.
“ستعرض الأميرة يوري إلروز، أمامكم جميعًا، الجوهرة التي فُكّ ختمها للمرة الأولى منذ مئتي عام.”
“وااه!”
“هاه…”
ابتلعت ريقي وأطلقت زفيرًا عميقًا.
راحت كفاي المرتجفتان تتعرّقان وهما تحتضنان الجوهرة. رفعت يديّ المضمومتين ببطء أمام الجمهور.
انفجرت الساحة مجددًا بالهتاف.
‘أستطيع فعلها…’
فتحت راحتيّ ببطء، فبدأت الجوهرة، التي تفاعلت مع المانا التي ضخختها فيها، تُشع وهجًا أحمر ساطعًا.
وفي خضم طنين أذنيّ، شعرت وكأنني لا أسمع شيئًا. بحذر، رفعت الجوهرة من بين راحتيّ حتى استقرت في الهواء.
وفي توقيت مثالي، هبّت نسمة من الريح.
تطايرت أطراف حجابي، وازدادت الجوهرة توهجًا.
انطلقت موجة من الهتافات أقوى من أيّ سابقة، حتى شعرت أن الأرض تهتز تحت قدمي.
اقترب الإمبراطور مني خطوة واحدة، وكأنه يعلن أن هذا القدر كافٍ.
…لكن، ما حدث بعد ذلك كان خارجًا عن التوقعات.
“!”
من دون أن أضخ أيّ مانا إضافي، بدأ الضوء الأحمر المنبعث من الجوهرة يزداد سطوعًا.
“ما، ما الذي يحدث!”
“يا آنسة، أرجوكِ، توقفي عند هذا الحد…!”
سمعت صوت الماركيز ديميل من خلفي، يصرخ بشيء ما، لكن من المؤسف أن الجوهرة لم تكن تحت سيطرتي بعد الآن.
‘لِمَ… لماذا يحدث هذا؟’
لم تكن الطاقة السحرية المتدفقة من الجوهرة صادرة عني، بل كانت تتفجر من داخلها هي، وتنتشر في كل اتجاه بقوة مذهلة.
بدأت عاصفة هوجاء تعصف بالمكان، فتطاير حجابي في الهواء إلى جهةٍ مجهولة، وارتفعت خصلات شعري تتلاعب بها الريح بجنون.
يا له من سيلٍ جارف من المانا، طاغٍ ومهيب.
‘عليّ… أن أسيطر على هذا.’
إن انفجرت هذه الطاقة دون ضوابط، ستكون العواقب كارثية.
سمعت صوت أحدهم، بدا أنه إليا، يصرخ بشيء من خلفي. خمنت أنه يطالبني بإيقاف الأمر، فبدأت أبذل كل ما أملك من جهد للسيطرة.
لكن… بلا جدوى.
في تلك اللحظة بالذات، بدأت الجوهرة، التي كانت تطفو في الهواء، تتحرك دون أن تكون لي سيطرة عليها.
“!”
صرخت قائلة:
“ابتعدوا!”
رحت أراقب الجوهرة وهي تتجه إلى مؤخرة الشرفة. سارع الواقفون في اتجاهها بالتنحي والابتعاد في فوضى.
لكن…
“…!”
شخصٌ واحد فقط… لم يتحرك من مكانه.
إنه الارشيدوق.
كانت عيناه الحمراوان تتسعان بدهشة وذهول، كأنه لا يصدق ما يرى، يحدق في الجوهرة وهي تقترب منه شيئًا فشيئًا.
“سمو الارشيدوق!”
مدّ يده وكأنه مسحور، فاستقرت الجوهرة المتألقة على راحة كفه كما لو كانت تنجذب إليه بمغناطيس خفي.
وفي اللحظة التالية…
“لا… هذا مستحيل…”
بدأت الجوهرة تُمتص إلى داخل كفه، وتختفي تدريجيًا في جسده.
وقف الجميع مبهوتين، عاجزين عن الحركة أو الكلام.
ولم تلبث أن اندمجت الجوهرة بالكامل داخل جسده. وسرعان ما هدأت الرياح.
“…”
‘كيف… يمكن أن يحدث هذا؟!’
<النظام> تم تسجيل نسبة تحقيق هدف “الحلقة الخفية: الساحرة المقدسة للإمبراطورية” بـ 0%!
<النظام> فشل تحقيق الحلقة الخفية: “الساحرة المقدسة للإمبراطورية”.
لن يتم رفع قدراتكِ.
فشلت في الحصول على “عفو الإمبراطور” (استخدام لمرة واحدة).
لن تتم ترقية لقب “المُظهرة للقوة المقدسة” إلى “الساحرة المقدسة للإمبراطورية”.
وكان آخر ما ظهر من رسائل النظام هو…
<النظام> الحلقة الخفية: “طريق القديسة” لم تنتهِ بعد.
‘…إيذانًا ببداية جديدة.’
***
“وااه—!”
تعالت الهتافات مجددًا بصخبٍ شديد.
يبدو أن الناس في الساحة اعتقدوا أن ما حدث كان مجرد عرضٍ مدهش ومخطط له مسبقًا.
‘ربما لأن الاؤشيدوق كان يقف داخل الشرفة، فلم يره أحد من عامة الحشود.’
على أية حال، كان من الأفضل أن أنسحب في هذه اللحظة.
ما إن اتخذت خطوة إلى الوراء…
“أهغ…!”
“!”
رأيت الارشيدوق فجأة يضع يده على صدره، مترنحًا، يكاد يسقط.
ثم ظهرت فجأة رسالة مألوفة في رأسي:
<النظام> تحذير! تم رصد “الطاقة السحرية المشوّهة”!
<النظام> هل ترغبين باستخدام قوة التطهير؟ نعم أو لا.
‘لماذا الآن بالتحديد؟’
بذهول، رأيت طيفًا أسود قاتمًا يلتف حول الارشيدوق. كان أكثر سوادًا، وأثقل ظلمة، وأشد رهبة من أي طاقة شعرت بها من قبل.
‘هل… هل عليّ تطهيره؟’
كلا… هذا مستحيل.
بينما كنت أتردد، نهض الارشبدوق ممسكًا بالجدار ليستند إليه بصعوبة. ثم خرج مباشرة من الشرفة دون أن ينطق بكلمة.
استقر نظر الإمبراطور عليه للحظة، لكنه، على ما يبدو، آثر أن يُكمل المراسم دون توقف. فتقدم خطوة إلى الأمام وصرخ بصوت عالٍ:
“لنُرسل تحية حارة وتصفيقًا للأميرة يوري التي أظهرت لنا مهارة مذهلة!”
انفجرت الساحة بتصفيقٍ مدوٍ، أما أنا، فكنت واقفة أراقب المكان الذي غادره الدوق بقلقٍ لا أستطيع إخفاءه.
“وبهذا، نكون قد احتفلنا بتأسيس الإمبراطورية…”
‘لا… لا يمكنني البقاء هنا.’
دفعت بنفسي وسط الحضور، وعدت إلى الغرفة الداخلية. صاح أبي بدهشة،
“يوري!”
لكني لم أكن في وضع يسمح لي بالرد.
نظرت حولي… لم يكن الارشيدوق هناك. لكن بابًا خلفيًا كان مفتوحًا.
‘من هناك غادر.’
أسرعت نحو الباب واندفعت خارجه.
كان هناك صوت من خلفي، بدا أنه كاليكس، يناديني. لكنني لم أتوقف.
خرجت من الغرفة إلى ممر طويل. كانت السماء صافية، ومراسم إعلان الإمبراطور قد أوشكت على نهايتها، لكن لم يكن هناك أي أثر للدوق.
‘أين يمكن أن يكون قد ذهب في هذا الوقت القصير؟!’
ركضت، متخطية ثقل الثوب الفاخر الذي كان يعوق حركتي، حتى بدأ نفسي يضيق.
سرعان ما وجدت نفسي في ممر ناءٍ، طويل وظليل، لا تكاد تُرى فيه الأرواح.
لكن لم يكن هناك وقت للقلق بشأن ذلك.
‘أيّ اتجاه أختار؟’
انقسم الممر أمامي إلى فرعين. تباطأت خطواتي، مترددة.
وفي تلك اللحظة…
“!”
شعرت بيدٍ تمسك بمعصمي من الخلف فجأة.
“ما هذا…!”
وقبل أن أتمكن من الصراخ، شعرت بنفسٍ ساخن ينسكب على عنقي.
شهقت، وارتعشت كتفاي، والتفتّ برأسي إلى الخلف.
وهناك… كان يقف.
“…سمو الارشيدوق؟”
وسط الظلمة الحالكة، عيناه الحمراوان تتوهجان بحدة، والارشيدوق يقف أمامي بكل جلاله… وغموضه.
التعليقات لهذا الفصل " 97"