فالشخص الذي كان يشعر بالخجل بوضوح هو سيدريك، ولكن ما إن التقت عيناي بعينيه الرماديتين المرتجفتين قليلًا، حتى شعرت وكأن مشاعره انتقلت إليّ، وصرتُ فجأة أشعر بالخجل وكأنني أنا من ارتبك.
“ذاك… سيدي.”
“نعم.”
“أنت ترقص ببراعة تفوق ما توقعت. أعني، ما أقصده هو… أن الأمر…”
بدأت أتكلم عشوائيًا بدافع الحرج، إلا أن سيدريك اكتفى بالنظر إليّ بثبات، ثم قال بصوت هادئ وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة:
“… حقًا؟”
ثم أضاف بنبرة تنم عن ارتياح:
“يسعدني أنني لم أسبب لكِ أي إزعاج.”
‘هذ… هذا الرجل…’
هل يمكن أن يكون ماهرًا فعلًا في التعامل مع الآخرين، رغم كل شيء؟
تسللت هذه الشكوك إلى ذهني فجأة، لكنها بدت منطقية بشكل غريب.
ولمّا كنتُ غارقة في هذا التفكير، عاد سيدريك إلى ملامحه الجادة المعتادة، دون أن يدرك ما كان يدور في ذهني.
في الوقت المتبقي، قادني سيدريك بحركات دقيقة كأنه جندي يؤدي تدريبات العرض العسكري. ظللنا نرقص لبعض الوقت وكأننا نموذج مثالي يمكن إدراجه في كتاب تعليمي.
وأخيرًا، انتهت الموسيقى.
<النظام> لقد رقصتِ مع سيدريك إستيفان!
<النظام> “حدث الصداقة: ذكرى مهرجان التأسيس” نسبة الإنجاز الحالية: 50٪
ما إن توقفت الموسيقى، حتى تعالت التصفيقات الاعتيادية التي تُؤدى كتحية مجاملة. صفقتُ بدوري، ثم قلت لسيدريك:
“لقد استمتعتُ كثيرًا، يا سيدي.”
“وأنا كذلك.”
“حسنًا، إذًا، هل نذهب لـ…”
كنت على وشك دعوته لاحتساء شيء ما بعد الرقص، إذ بدأ العطش يتسلل إليّ، غير أن صوتًا باردًا قاطعني فجأة:
“… كنتِ هنا، أختي.”
ارتجفت كتفاي لا إراديًا من وقع نبرته الجافة.
“كا… كاليكس؟”
“…”
حين التقت عيناي بعينيه الزرقاوين اللتين حدّقتا نحوي بصمت، شعرت فجأة وكأنني اقترفت خطأ ما، رغم أنني لم أفعل شيئًا خاطئًا.
“لقد أخبرتكِ بأنه عليكِ أن تنتبهي لصحتكِ.”
قالها كاليكس وهو يرمق سيدريك بنظرة حادة دون أن ينظر إليّ. لكن سيدريك لم يُبدِ أي انزعاج من تلك النظرة، بل بدا وكأنه منشغل بأمر آخر تمامًا.
“آنسة، هل كنتِ مريضة؟”
تجهم حاجباه فجأة بشكل مخيف، فسارعت إلى التلويح بيدي نافية:
“لا، بالطبع لا! لقد كنتُ طريحة الفراش بسبب الزكام منذ فترة، لكنني شُفيت تمامًا. كاليكس يبالغ في القلق لا أكثر.”
“أهكذا هو الأمر؟”
أجاب سيدريك، لكن نظراته بقيت حذرة، وكأنه لم يقتنع تمامًا.
‘هل فقدتُ مصداقيتي إلى هذا الحد؟’
كانت نظراته كفيلة بأن تجعلني أراجع نفسي للحظة.
“ماركيز إستيفان، إن كنت قد أنهيت حديثك مع شقيقتي، فهل تسمح لي بأن أرافقها؟ أود أن أجعلها ترتاح قليلًا في قاعة الاستراحة.”
“نعم، سيكون ذلك الأفضل على الأرجح.”
“ماذا…؟”
لم أصدق ما يجري، لكن كاليكس لم يمنحني فرصة للاعتراض، إذ بدأ بمرافقتي على الفور.
“كاليكس، أنا حقًا بخير.”
“حتى الآنسات اللواتي يشعرن بصحة جيدة، في مثل هذه المناسبات، يفضلن أخذ قسط من الراحة في قاعة الاستراحة من حين لآخر.”
“لكنني لم أرتدِ حذاءً ذا كعبٍ عالٍ اليوم. هل تريد أن أريك؟”
“ماذا…!”
احمرّ وجه كاليكس على الفور، فأدركت خطئي.
‘آه، صحيح… نحن في عالم يعتبر فيه كشف المرأة لقدميها أو ساقيها أمرًا غير لائق.’
“كنت أمزح فقط.”
“حتى لو كان مزاحًا…!”
رغم محاولتي السريعة لتدارك الموقف، كان الأوان قد فات. فقد ارتفع صوت كاليكس غاضبًا، وكأنه على وشك الانفجار.
“حتى ولو كان مزاحًا…”
لكن حين نظر إلى ملامح وجهي، خفتت نبرة صوته شيئًا فشيئًا.
“على أي حال… لا ينبغي لكِ قول مثل هذه الأمور.”
“همم، سأنتبه، أعدك.”
أومأت برأسي وأجبت بنبرة جادة، غير أن كاليكس لم يبدُ مقتنعًا تمامًا بما سمعه، فقد ظلّت نظراته مرتابة.
شعرت بضرورة تغيير الموضوع وتحويل انتباهه إلى شيء آخر.
“كاليكس؟”
وهذا الموضوع بدا مثاليًا تمامًا.
“نعم؟”
“ما رأيك أن نرقص؟”
“… ماذا؟”
توقّف كاليكس عن السير فجأة، فرفعت كتفيّ بتوتر.
‘لا شك أنه سيوبخني لأن من المفترض أن أكون في حالة راحة.’
لاحظت دهشته، فأعاد سؤاله بوجه متبلّد بعض الشيء:
“ماذا قلتِ؟”
“آه؟ فقط قلت إننا… نرقص؟”
“أنتِ… تطلبين مني ذلك؟”
“نعم… قلت ذلك بالفعل.”
“…”
حدّق بي كاليكس لحظة بصمت، كأن الزمن توقف.
فهمهمتُ بتردد:
“إن لم تكن راغبًا…”
“لستُ رافضًا.”
جاء رده غير المتوقع مباشرة وبلا تردد. ثم أردف بعجلة:
“لستُ رافضًا، أبدًا.”
“أه… صحيح؟”
“نعم.”
أمسك بيدي بلطف، لكن بإحكام خفيف، فنظرت إليه للحظة وقلت:
“إذًا، لنذهب؟”
“… سأقودكِ.”
“حسنًا.”
‘هاه…’ تنفستُ الصعداء داخليًا وأنا أتبعه.
‘ظننتُ أنني سأتلقى الرفض وسيسحبني فورًا إلى قاعة الاستراحة.’
خلافًا لإيليا، كان كاليكس حازمًا جدًا، فإذا رفض مرة فلا مجال للتراجع.
‘سعيد بأنني نجحت.’
قادني كاليكس نحو وسط القاعة بخطوات بدا فيها شيء من التصلب الغريب.
ولأن الموسيقى لم تبدأ بعد، وقفنا نتقابل وجهًا لوجه. وضع كاليكس يده اليمنى على صدره من الجهة اليسرى وانحنى باحترام.
أمسكتُ بطرف تنورتي وانحنيت بسرعة بدوري.
وفي توقيت مثالي، بدأت الموسيقى، فأمسك كاليكس بيدي بلطف وقادني.
قبل بدء الرقص كان متصلّبًا بلا حدود، لكنه ما إن بدأ حتى بدا بارعًا إلى حدٍ لا بأس به. ليس بمهارة إيان، لكن من الممكن أن يبلغ مستواه إن بلغ سنه يومًا ما.
رغبتُ في الثناء عليه بالقول إنه “أصبح ماهرًا فجأة”، لكن خفت أن يتجمّد مجددًا، فآثرت الصمت.
“كاليكس.”
“نعم، أختي.”
“يبدو أنك أصبحت أطول قليلًا، أليس كذلك؟”
شعرت أن مستوى نظره بات أعلى قليلًا مما كان عليه في رقصة مهرجان الصيد سابقًا.
“أنا في سنّ النمو، بعد كل شيء.”
أجاب ببساطة. أومأت برأسي مقتنعة.
“بما أن والدنا طويل القامة، لا شك أنك ستنمو لتكون مثله.”
“على الأرجح.”
ردّ ببرود وهو يُخفض عينيه ليتجنب نظراتي.
‘هل كان ذلك تعليقًا لم يسره؟’
لا أعلم كيف أصفه، لكن على خلاف سيدريك، وإيان، وإيليا، بدا أن كاليكس يملك حساسية مرهفة.
‘ربما لأنه لم يبلغ سن الرشد بعد؟’
… لو قلت ذلك بصوت عالٍ، فحتماً سيثور غضبًا.
“وماذا عن إيليني؟ أين ذهبت؟”
“أوصلتُها إلى الشرفة بعد انتهائها من الرقص. قالت إنها بحاجة إلى بعض الراحة.”
“همم، فهمت.”
رغم أن أخاها طلب منها الرقص لتحفظ كرامتها، فإن ما حدث معها اليوم لا يمكن محوه بسهولة.
ربما كان من الأفضل لها أن تبتعد قليلًا عن الأنظار بدلًا من أن تظل وسط نظرات الناس وسخريتهم الخفية.
“أختي…”
“نعم؟”
أجبتُ وأنا أدور بخفة تحت قيادته.
“ما الأمر؟ هل تود سؤالي عن شيء ما؟”
“… أما زلتِ تكرهينني أنا أو إيليني؟”
“هاه؟”
ظننت أنني سمعت خطأ، فأعدتُ السؤال، لكنه لزم الصمت هذه المرة.
‘على ما يبدو… لم أسمع خطأ.’
بدأتُ أفكر، وأنا أخطو خطوات الرقص بتأنٍ.
ما الجواب الأنسب لهذا السؤال؟
“قد يبدو جوابي غريبًا، لكنني… لا أفكر كثيرًا في الأمر.”
“…”
“أنتما، إيليني وأنت، تبقيان إخوتي.”
ربما يمكنني القول إنني لا أبالي طالما لم يؤذِني أحد منكما.
‘صحيح أن إيليني تنتهز الفرص دائمًا لتضربني من الخلف…’
لكني لا أكرهها حد النفور.
‘إن بادرتْ بالهجوم، فسألقّنها درسًا، لكنني لا أنوي التحرك من تلقاء نفسي.’
“قولكِ هذا…”
رغم أنني أجبت بأنني لا أكرههما، بدا على كاليكس مزيد من الحزن.
“هل تقولين هذا… لأنكِ راحلة على أية حال؟”
“آه، نعم، ربما لهذا السبب.”
في الحقيقة، لم يتبقَّ من السنة سوى حوالي تسعة أشهر.
فترة قصيرة، لا تستحق أن أستهلك فيها مشاعري.
كره شخص ما أو استياء المرء من أحدهم يتطلب جهدًا عاطفيًا كبيرًا.
“…”
الغريب أن كاليكس ازداد حزنًا رغم أنني أجبته بصدق. حتى أنه بدا شاحبًا تحت عينيه.
‘آه يا إلهي.’
يبدو أن كاليكس الطيب والحساس أكثر مما يبدو، يشعر بنوع من الذنب لأني سأرحل. ربما يظن أنني أهرب لأن والدته تكرهني.
‘ليس الأمر كذلك حقًا…’
لكن لو أخبرته أنني أرحل لأنني “سوف أموت إن بقيت هنا”، سيظن أنني مجنونة، أليس كذلك؟
‘… الأفضل أن أصمت.’
رغم شعوري ببعض الأسى، لم يكن أمامي خيار آخر.
فكاليكس يعتقد بالفعل أن صحتي الجسدية سيئة، ولو ظن أيضًا أن صحتي النفسية منهارة، فسيزداد اهتمامه بي بصورة خانقة.
تراكمت في ذهني أفكار كثيرة، ومع ذلك أكملنا الرقص بصمت.
وأخيرًا، انتهت الموسيقى.
<النظام> لقد رقصتِ مع كاليكس روزانهير!
<النظام> “حدث الصداقة: ذكرى مهرجان التأسيس” نسبة الإنجاز: 75٪
أخيرًا، أنهيتُ الرقص مع ثلاثة أشخاص!
‘حسنًا، حان الوقت للبحث عن إيليا.’
لكن كاليكس لم يُفلت يدي.
‘أوه…’
ترددتُ قليلًا، ثم قلت بحزم:
“أقولها لك مسبقًا، لن أذهب إلى قاعة الاستراحة.”
“أعلم ذلك.”
تنهد كاليكس وقال:
“حتى إن لم تذهبي إلى قاعة الاستراحة، فماذا لو تناولتِ شيئًا على الأقل؟”
رغم أن نبرته بدت وكأنه يواسي طفلًا صغيرًا، لم أجادله وبدلًا من ذلك أجبت باقتضاب:
“… حسنًا.”
‘لقد قدّم كاليكس ما يكفي من التنازلات، في نهاية المطاف.’
توجهنا معًا نحو الطاولات المُعدّة في أحد أروقة قاعة الحفل.
التعليقات لهذا الفصل " 94"