تلاقت نظرات الارشيدوق، ذات الابتسامة والعينين الحمراوين، بنظرات الإمبراطور ذات البريق الذهبي، في تقاطع حادّ متوتر.
لم تدم سوى لحظة، لكنها كانت كافية ليمرّ في عيني الإمبراطور بريقٌ بارد لم أرَ له مثيلاً من قبل.
‘كنت أعلم أن الارشيدوق سيتمرد يومًا… لكن هذه أول مرة أشهد فيها عداءً مباشرًا كهذا بينه وبين جلالة الإمبراطور.’
وفوق ذلك، لم أتخيل أن الارشيدوق سيتجرأ إلى هذا الحد، فيستخفّ بأمرٍ إمبراطوري وكأنه مجرّد هراء يُقال في أزقّة العامة.
في خضم هذا الجو الثقيل المتجمد، قال الإمبراطور:
“أجل… لقد نسيتُ تمامًا ما تمر به من ظروف. يبدو أنني بحاجة إلى أن أطلب العذر من الآنسة إيليني.”
“نعم، سيكون ذلك أفضل، يا جلالة الإمبراطور.”
“…”
“…”
سادت لحظة صمت، ثم ما لبث الإمبراطور أن التفت إلى إيليني بنظرة متحرّجة وابتسامةٍ حاول أن يطبعها بالمودّة.
“إيليني يا عزيزتي.”
“نعم، يا مولاي.”
قال الإمبراطور:
“يؤسفني أن الأمور آلت إلى هذا، لكن يبدو أنه لا مفرّ من الأمر.”
وبمجرد أن تفوّه بتلك الكلمات، بدأ الهمس يدبّ بين الحاضرين.
“هل يُعقل أن يكون ارشيدوق مثله لم يرقص منذ أن كان في الخامسة؟”
“ألا يبدو كأنّه اختلق عذرًا سخيفًا لمجرد رفضه الآنسة إيليني؟”
“مستحيل، فهي فاتنة بهذا الشكل!”
“ربما هي ليست من النوع الذي يروق له، لا أكثر.”
كانت كلماتهم تحمل تهكّمًا خفيًّا، امتزج بالسخرية.
ورغم أن إيليني لا بدّ أنها سمعت همساتهم، إلا أنها استعادت هدوءها سريعًا، وأجابت بابتسامة رقيقة:
“لا بأس، يكفيني أن جلالتك خصّصت هذا الاهتمام من أجلي.”
فقال الإمبراطور بلطف:
“ما دام قلبكِ طيبًا كوجهكِ الجميل، فسرعان ما سيظهر من يقدركِ حق قدركِ.”
وفور انتهاء كلماته، علا صوت الموسيقى مجددًا، وبدأ الحضور يلتقطون الإشارات، فتقدّموا فرادى وأزواجًا نحو منتصف القاعة.
بدا للجميع وكأنّ ما جرى بين إليني والدوق قد طُوي، لكنني، كما إيليني، كنت أعلم أنّ الحقيقة ليست كذلك.
دون أن أشعر، وجدت نفسي أنظر إلى الارشيدوق.
‘كنت أظنه سيقبل…’
كان كاميل يرمش ببطء كمن يشعر بالنعاس.
‘أمره غريب…’
هل يكره الإمبراطور إلى هذا الحد؟
فجأة، تسلّلت إلى ذهني تساؤلات لم تخطر ببالي من قبل:
‘لماذا يتمرّد الارشبدوق أصلًا؟ ما الذي يدفعه لذلك؟)’
وفيما كنت أحدّق فيه، التقط نظرتي، ووجّه إليّ بصره مباشرة.
“!”
ارتجف كتفي دون إرادة، لكنه اكتفى بابتسامةٍ عابرةٍ بعينيه.
‘مـ… ما هذا؟’
لعلّ وسامته المفرطة هي ما جعلت تلك الابتسامة تبدو آسرة، فاتنة بشكل لا يُطاق.
‘تماسكي، هذا الرجل مثل الفطر السامّ!’
وما إن فكرت بذلك، حتى أزحت نظري عنه سريعًا.
لكن بعد لحظات، دفعتني غريزتي لأتفقده مجددًا، فألقيت نظرةً نحو حيث كان يقف.
‘!’
كان لا يزال ينظر إليّ.
‘آآآه…’
احمرّ وجهي من شدّة الخجل. وفي تلك اللحظة، شعرت بكاليكس يراقبني بعين حذرة.
فاستغللت الفرصة وقلت له:
“هل هناك ما تودّ قوله؟”
“لا، ليس تمامًا…”
“آه…”
فهمت ما يعنيه.
“أنا بخير، لذا اذهب وكن بجانب إيليني.”
“… لا، سأبقى هنا بجانبكِ ما دمتِ لستِ على ما يُرام.”
“لكن، ألا تعتقد أن سمعة إيليني الآن أهم من حالتي الجسدية؟”
بطبيعة الحال، لم يكن في نيتي القلق الحقيقي على إيليني، بل كنت أبحث عن ذريعة لإبعاد كاليكس عني.
وبعد أن بدا وكأنه مصمّم على ملازمتي حتى نهاية الحفل، تنهد أخيرًا وقال:
“فقط، كوني حذرة.”
“بالطبع.”
“هاه…”
تنهد بحيرةٍ وكأنّه لا يثق بكلامي.
لكن، لم يكن باستطاعته تجاهل وضع إيليني، التي مُنيت بإحراج علني، فاضطرّ رغم تردّده إلى الابتعاد عني.
راقبته وهو يتجه إليها ليطلب منها رقصة، بينما كنت أبحث بنظري عن شيء آخر.
والدي كان مُحاطًا بنفر من النبلاء، يتزاحمون عليه شوقًا للحديث معه، وأما الارشيدوق…
‘هم؟’
لقد اختفى.
وفجأة…
<النظام> تم الدخول إلى “فعالية الصداقة: ذكريات يوم التأسيس”!
إذا رقصتِ مرةً واحدةً مع كل من: إيليا ماراكش، سيدريك إستيفان، أدريان كاسيس، وكاليكس روزانهير قبل نهاية الحفل، ستحصلين على المكافآت التالية:
الشهرة +300
الجاذبية +50
اللياقة الأرستقراطية +50
فرصة لعرض الجوهرة السحرية.
…أوه؟
‘فرصة لاستعراض الجوهرة السحرية؟’
ما الذي يعنيه ذلك؟
‘حسنًا… ما دام ذلك يُعتبر من المكافآت، فلا بد أنه أمر جيّد، أليس كذلك؟’
لم أكن أفهم تمامًا ما المقصود بفرصة استعراض الجوهرة، لكنني قررت أن أتعامل مع الأمر بإيجابية وأتركه جانبًا.
على أي حال، كان لزامًا عليّ إتمام فعالية “الصداقة”، بغضّ النظر عن تفاصيل المكافآت.
…رغم أن أمر الارشيدوق لا يزال يؤرقني، عليّ الآن التركيز على إتمام الفعالية أولًا.
‘حسنًا، لنبدأ بالبحث.’
تظاهرت بالتماشي وسط الحشود دون لفت الأنظار، بينما كنت أفتّش عن الأشخاص المستهدفين.
<النظام> تنبيه! قد يرفض الطرف الآخر دعوتكِ للرقص أو يمتنع عنها، تبعًا لمدى المودة و”الطبع/الميول”.
‘هممم، هكذا إذًا…’
لا أظن أن مستوى المودة يمثل مشكلة، لكن كلمة “الطبع” أقلقتني قليلًا.
‘على كل حال، لا بأس. سأجرب.’
وبينما كنت أبحث وسط الزحام، سرعان ما التقطت بصري…
‘ها هو!’
رأيت خصلات شعرٍ بلون السماء.
“سيد إيليا!”
“!”
كان إيليا ينظر حوله بوجهٍ متجهم بعض الشيء، لكنه ما إن سمع صوتي حتى التفت نحوي مباشرة.
استغربت من ردة فعله وسألت:
“هل كنت تبحث عن أحد؟”
“…قليلاً، نعم.”
من مظهره، لا يبدو عليه أن له معارف في مثل هذه التجمعات، لكن يبدو أن له صديقًا قريبًا بما يكفي ليبحث عنه هنا.
“هل تودّ أن أتركك لتتابع البحث؟”
“لا، لا حاجة لذلك.”
أنكر الأمر بسرعة.
“لكن ألم تقل إنك كنت تبحث عن شخصٍ ما؟”
“صحيح… لكن بعدما فكّرت بالأمر، لم يعد من الضروري أن أجده.”
“…؟”
ما معنى أن “لا ضرورة” للعثور عليه فجأة؟
‘حقًا، من يستطيع فهم هذا الرجل؟’
“إذًا، سيد إيليا، أنت الآن متفرغ، أليس كذلك؟”
“من هذه الناحية… نعم.”
“جيّد. هل تودّ أن ترقص معي؟”
“هاه؟”
تجمدت ملامح إيليا بالكامل، وأعاد السؤال وكأنه لم يسمعني جيدًا:
“ترقصين؟ تقصدين رقصة؟”
“نعم، رقصة.”
“أعتذر. أكره هذا النوع من الأمور.”
“آه، كما توقعت…”
كنت أعلم أن الأمر لن يكون سهلًا، لكن أن يُقابل طلبي بالرفض القاطع هكذا…
‘همم… ما العمل؟’
حسنًا، ربما من الأفضل أن أرقص مع شخص آخر أولًا، ثم أعود إليه لاحقًا لأطلب مرة أخرى.
‘نعم، لا أعتقد أنه سيرفض طلبي مرتين.’
وإن فعل، فحينها…
‘لا مفرّ، سأضطر لاستخدام بعض الإزعاج اللطيف.’
بعد أن اتخذت قراري، أومأت برأسي.
“حسنًا، كما تريد، سيدي.”
“كنت أودّ أن أقول لك إننا يمكن أن نذهب إلى… هاه؟”
“ما دمت ترفض، فلن أضغط عليك. سأذهب وأرقص مع شخصٍ آخر.”
“…هاه؟”
“إلى اللقاء.”
ابتسمت بلطف، وانحنيت له تحية خفيفة. بدا إيليا مذهولًا وكأنه على وشك قول شيء ما، لكن شخصًا ما سبق كلماته بوخزة خفيفة على كتفي.
“من…؟ آه، إيان؟”
“أجل، أميركِ إيان.”
رفعت رأسي على عجل، فإذا به ينظر إليّ بابتسامةٍ مشرقة كزهر الربيع.
“كنت أبحث عنكِ لأدعوكِ إلى رقصة، لكنكِ اختفيتِ فجأة، فأصابني الارتباك.”
“آه، حقًا؟”
جاءت في وقت مناسب تمامًا. كنت قد رُفضت للتو وأبحث عن شريكٍ جديد، فهززت رأسي فورًا بالإيجاب.
“يسعدني ذلك. أنا أيضًا كنت أرغب في الرقص مع سموك.”
“أحقًا؟ يا لها من سعادة.”
مدّ إيان يده إليّ بحركةٍ انسيابية كأنها مرسومة بريشة فنان.
وعندما أمسكت بيده، حاول إيليا أن يعترض قائلًا: “انتظري”، لكن الأوان كان قد فات.
“نعم؟ سيد إيليا؟ هل لديك ما تودّ قوله؟”
“…لا، لا بأس.”
بدا صوته متحفظًا، وقد ارتسمت على وجهه ملامح انزعاجٍ واضح. أردت أن أسأله عن سبب تردده، لكن إيان شدّني إليه برفق، فالتفت لأنظر إليه، فوجدته يبتسم لي بمودة أكبر من المعتاد.
“هل نذهب؟ لقد بدأت الموسيقى.”
“أجل، لنذهب.”
قادني بلطف إلى وسط القاعة، وكلانا يشعر بنظرات الحاضرين تتبعنا.
“انظري، الآنسة يوري ترقص أول رقصة مع سمو ولي العهد…”
“أوه، الآنسة يوري؟ أليست أخت الآنسة إيليني التي رُفضت قبل قليل؟”
“نعم، أختها الكبرى. يبدو أن سموّ الأمراء يميلون إلى أختها أكثر…”
مررنا وسط الهمسات حتى وصلنا إلى مكانٍ مناسب للرقص.
بدأت الأوتار تعزف المقدمة. فرفع إيان رأسه قليلًا وأجاب على وقع الألحان:
“آه، هذه…”
“هل تعرف هذه المقطوعة؟”
“نعم. كنت أرقص على أنغامها كثيرًا مع والدتي وأنا صغير.”
ثم أضاف وهو يلفّ ذراعه حول خصري بسلاسة:
“كنت أدهس قدمَي والدتي مرارًا بسبب خطواتي السريعة.”
“يا لك من طفل لطيف. كنت هكذا إذًا وأنت صغير.”
“كنت طفلًا في النهاية.”
قالها بابتسامة خجولة لا تشبهه كثيرًا، فأثار ذلك فضولي، فسألته بمزاح:
“وهل عليّ أن أستعد لدهس أقدامي اليوم أيضًا؟”
“أبدًا، أعدكِ أن ذلك لن يحدث. لقد تدربت كثيرًا. أستطيع أن أقسم بأن قدميكِ ستكونان سالمتين.”
ضحكت رغماً عني على نبرة صوته الجادة والمبالغ في الرسمية.
“إذن، عليّ أن أشكر جلالة الإمبراطورة على تدريبها لك.”
“أتمنى ذلك.”
وما إن أنهى كلامه، حتى بدأت الموسيقى تُعزف بإيقاعٍ سريع، معلنة بدء الرقصة الحقيقية.
التعليقات لهذا الفصل " 92"