تمتم كاميل كأنما يزفر تنهيدة:
“لا داعي للثرثرة… سأفيق قريبًا.”
وكان ذلك صحيحًا.
حتى بعد تناوله جرعة كبيرة من الأدوية، ما إن يبدأ مفعولها بالاستقرار، حتى يستعيد وعيه بسرعة.
آه…
رغم أن الأمر لم يكن خاليًا من الأسى من منظور إنساني، إلا أنه لم يكن بالإمكان تركه على هذه الحال.
أن يعتمد شخص ليس بكامل وعيه على العقاقير بهذه الصورة… لم يكن أمرًا مقبولًا أبدًا.
قال هايلن بلهجة حادة نوعًا ما:
“بما أنك تزيد الجرعة يومًا بعد يوم، فمن الطبيعي أن يصبح مفعولها أقصر فأقصر.”
كانت نصيحة قاسية، لكن كاميل لم يبدُ عليه التأثر.
بل ابتسم قليلًا، بابتسامة غريبة بدت وكأنها مزيج بين التهالك والنشيج.
“إذًا… سأزيد الجرعة مرة أخرى.”
فرد هايلن بنبرة صارمة:
“إن كان مسكنًا فربما، لكن حين يتعلق الأمر بالمثبتات، فلا يمكنك زيادة الجرعة بلا حدود. لقد كنت على وشك التعرض لخطر كبير مؤخرًا…”
فقاطعه كاميل، ببرود:
“لكن الأمور حُلت في النهاية، أليس كذلك؟”
“لا يجوز أن تتحدث بهذه الطريقة بعد وقوع الأمر، وكأن النتيجة تبرّر كل شيء.”
“أنا بخير…”.
أيّ خير هذا؟ تنهد هايلن في نفسه.
تمتم كاميل، بصوت متراخٍ لا تكاد الكلمات تتضح منه، وكأن أطراف عباراته تتلاشى في الفراغ.
“…حتى لو لم يكن… بخير…”.
“عفواً؟ ماذا قلت الآن؟”
بدلاً من الإجابة على سؤال هايلن، لوّح كاميل بيده في الهواء، كأنه يأمره بالخروج.
“…دعني… وشأني…”
سقطت يده المتثاقلة التي كانت تتلوّى في الهواء بلا حول، وأطبقت جفونه، التي بالكاد كانت مفتوحة، بهدوء.
زفر هايلن أنفاسه بصمت.
على ما يبدو، هذا أحد الأيام النادرة التي يمكنه فيها أن يحظى بقليل من النوم، حتى وإن كان نوماً خفيفاً.
لم يكن بيده حيلة.
أرجأ هايلن الأمر الذي جاء من أجله، وتراجع بحذر إلى خارج الغرفة، متفادياً شظايا المزهرية المحطمة.
***
في وقت لاحق…
“هل تحسّنت حالتكِ مع الزكام؟”
“عذرًا؟”
رفعتُ بصري بصعوبة عن الأوراق التي كنت أراجعها. كان إيان يبتسم ابتسامة خفيفة تحمل شيئًا من الدعابة.
“كنت أسألكِ إن كنتِ قد تعافيتِ من الزكام.”
“آه، نعم… بفضل الأدوية التي أرسلتها لي…”
كنت على وشك الرد بأسلوب رسمي، لكن سرعان ما تذكّرت كل تلك الأعشاب الغريبة والكائنات المجففة التي بعث بها، فعدّلت جوابي.
“لأكون دقيقة… مجرد النظر إلى ما أرسلتَه كفيل بأن يجعلني أستفيق من غيبوبتي.”
“هاها، أحقًا؟”
“لست أمزح، إيان. من الذي قرر أن عقارب العقارب المجففة تصلح كدواء في أي مكان من القارّة؟!”
“في مناطق الصحراء الجنوبية، تُعدّ منشطًا شهيرًا، صدّقي أو لا تصدّقي.”
قالها وهو يبتسم بمكر.
“لم يكن سيئًا لو جربتيها.”
“حتى لو كنتُ مصابة بالسلّ، لما فكّرتُ بتجربتها.”
“يا للأسف. إذن عليكِ أن تحافظي على صحتكِ حتى لا تمرضي مجددًا.”
قالها مبتسمًا بلطف، لكن كلماته حملت في طياتها صدقًا عميقًا ومباشرًا، أربكني للحظة.
‘…من أين له أن يفاجئني بهذا النوع من الجديّة وسط دعابة؟’
لكنني لم أستطع قول ذلك علنًا، فتنحنحت قليلًا وأجبت ببرود مصطنع:
“سآخذها بعين الاعتبار.”
“يسعدني سماع ذلك.”
ثم تابعتُ قائلة:
“وبهذه المناسبة، بخصوص صفقة شراء الدانتيل العمودي من جبل نوازي…”
“نعم.”
رغم أنه علم أنني أتعمد تحويل الحديث إلى الشؤون العملية، إلا أنه سايرني بسهولة دون أن يبدي أي اعتراض.
وانهمكنا معًا في مناقشة حماسية حول خطة توريد الخامات لمشغل أزياء روزيتا.
وحين بدأت المناقشة تقترب من نهايتها، قال إيان فجأة:
“بالمناسبة…”
“نعم؟”
“هل ستشاركين في مهرجان تأسيس الإمبراطورية هذا العام؟”
هززت رأسي بالإيجاب دون تردد:
“إنه حدث لا يمكنني التغيّب عنه كمواطنة من رعايا الإمبراطورية.”
“حسنًا، هو فعالية تقام سنويًا. وإن لم تكوني في صحة جيدة، فغيابكِ لن يكون مشكلة.”
“أنا أريد الحضور.”
“…حقًا؟”
عندما نطقتُ برغبتي في الحضور، خفّت نبرة صوته فجأة.
رفعتُ بصري مجددًا لأقابل عينيه الذهبيتين، وفوجئت بأن الابتسامة التي اعتدت رؤيتها في عينيه، قد اختفت تقريبًا.
“إيان؟”
“قولكِ إنكِ ترغبين في حضور مهرجان تأسيس الإمبراطورية، هل يمكنني أن أفسّره بأنكِ حددتِ شريككِ مسبقًا؟”
“نعم؟”
‘مهلًا، ما الذي يقصده الآن؟’
رمشت بعينيّ في حيرة، غير مستوعبة ما قاله فورًا، فما كان من إيان إلا أن ابتسم ابتسامة باهتة وشرح مجددًا:
“كنت أتساءل إن كنتِ ستحضرين المهرجان بسبب شريك معين.”
آه، إذًا كان يقصد ذلك؟’
‘
أجبت وأنا أرفع كتفي بلا مبالاة:
“لا، لم أحدد شريكًا بعد.”
“حقًا؟”
“نعم، أنوي حضور المهرجان من دون شريك هذه المرة.”
ولم يكن ذلك عبثًا. كما كان الحال في مهرجان الصيد سابقًا، فإن لفعالية الصداقة ضمن مهرجان التأسيس أيضًا شروطًا محددة لتفعيلها.
الشرط الأهم: أن أشارك دون اختيار أي شريك.
بالطبع، كانت هناك شروط تفصيلية أخرى، كأن تتجاوز درجات مودة الذكور الرئيسيين حدًا معينًا، لكن الشرط الأساسي ظل كما هو.
“من دون شريك… أليس كذلك؟”
قال إيان وهو يلمس ذقنه بتفكير، ثم سرعان ما ابتسم قائلاً:
“حسنًا، لا يبدو ذلك خيارًا سيئًا.”
“قد أبدو مثيرة للشفقة بعض الشيء إن حضرت وحدي.”
“…كلا.”
قالها إيان بنبرة نادرة الحسم:
“لن يستطيع أحد أن ينظر إليكِ بتلك النظرة.”
“نعم؟ ولم لا؟”
“لا أعلم. لديّ شعور قوي بأن أحدًا لن يجرؤ على التقليل من شأنكِ.”
قال ذلك بابتسامة مشرقة، رغم غرابة ما قاله.
حسنًا، لا بأس، طالما لم تكن كلمات سيئة.
“شكرًا لك على كلماتك.”
“لم أقل سوى الحقيقة.”
“وهل قرر سموّك شريكًا تحضر معه؟”
لم يكن سؤالي بدافع الفضول الحقيقي، بل مجرد رد لجميل سؤاله السابق، من باب اللباقة.
فأجابني بابتسامة عريضة وهو يضيّق عينيه:
“…ما رأيكِ؟”
“طريقة كلامك توحي بأنك عقدت وعدًا مع شريك رائع بالفعل، أليس كذلك؟”
“خطأ. الإجابة الصحيحة: أنا أيضًا لا أملك شريكًا.”
“سموّك؟!”
“نعم.”
“هذا غير متوقع…”
أن يحضر ولي العهد مهرجانًا بهذه الأهمية من دون شريك؟
لكنه في اللعبة كان يصطحب شقيقته، أليس كذلك؟ أم أنني أتوهّم؟
“هل كنتِ تظنين أن لديّ شريكًا آخر؟”
“نعم.”
أومأت برأسي سريعًا ردًا على سؤاله، ولاحظت للحظة أن وجهه بدا كأنّه ازداد كآبة.
…هل أتخيّل؟
“ومن ظننتِ أنني سأصطحب؟”
“كنت أظن أنك ستحضر مع سموّ الأميرة سيسيليا.”
“آه.”
انفرجت ملامحه قليلًا وكأنّ ضوءًا مرّ على وجهه.
“هكذا إذًا.”
“نعم؟ نعم.”
“للأسف، سيسيليا اتفقت على حضور الحفل مع شريك آخر هذه المرة… لكن بالمناسبة، أخبرتني بأنها ترغب في التعرف عليكِ، يوري.”
“سموّ الأميرة سيسيليا؟”
فوجئت بذلك. سيسيليا خجولة للغاية، حتى إن أغلب حواراتها في اللعبة كانت مجرد نقاط حذوف (…)، بلا كلمات.
“نعم، حين تحدثتُ عنها قليلاً، أبدت رغبة شديدة في لقائكِ.”
“لابد أنك حدّثتها عني بشكل جيد إذًا.”
“أبدًا، أنا فقط نقلت الحقيقة كما هي.”
“قولك هذا يجعلني أشعر بخوف أكبر.”
ضحكت بخفة وأنا أمازحه، فضحك هو الآخر، ثم قال:
“هل سيكون من المقبول أن أعرّفك إلى سيسيليا في حفل الليلة التي تسبق المهرجان؟”
“بالطبع، لا مانع لديّ.”
أومأت برأسي موافقة بكل سرور. لم أكن مهتمة كثيرًا بالأميرة سيسيليا، لكن لا ضرر في بناء علاقة ودية معها.
“يبدو أن سيسيليا ستنتظر المهرجان بفارغ الصبر.”
“لست متأكدة إن كنت سأستطيع تلبية توقعاتها…”
قلت ذلك وأنا أرفع كتفيّ وأعيد ترتيب الأوراق. فابتسم إيان مداعبًا وقال:
“ألستِ واثقة من نفسك؟”
“ربما لا أستطيع أن أعدكِ بشيء بخصوص الأميرة سيسيليا، لكنني أؤكد لك شيئًا واحدًا بشأن هذا المشروع.”
قلت ذلك بينما أصففت الأوراق بضربات خفيفة على الطاولة.
“في مهرجان التأسيس هذا، نحن من سيحقق الربح الأكبر.”
“هذا مثير للحماس.”
“يمكنك أن تتحمّس كما تشاء. أنا واثقة تمامًا.”
“…”
نظر إليّ إيان بعينين تفيض بابتسامة ناعمة، ثم نهض وأخذ يدي، ورفعها برفق إلى شفتيه، وطبع قبلة خفيفة على ظاهر كفي وهمس:
“…سأثق بكلماتكِ.”
“…لست مضطر لفعل كل هذا…”
رغم أنّني اعتدتُ على أغلب مظاهر البروتوكول هنا، فإن تقبيل ظاهر الكف ظلّ أمرًا لا أرتاح له.
حتى لو كان مجرد تصرف بروتوكولي، فإنني لا أزال غير معتادة عليه.
رمقني إيان بنظرة ضاحكة، وكأنّه يعلم تمامًا كم أجد هذا مزعجًا.
لدي شعور قوي بأنه يتعمّد هذا التصرف كل مرة.
ولا أظن أن الأمر مجرد وهم.
***
في طريق عودتي إلى المنزل بعد الاجتماع مع إيان.
كان الغروب يلون السماء بأطياف وردية، وفي ساعة متأخرة بعض الشيء، كانت العربة تلتف بمحاذاة سور روزانهير
وكان ذلك السور مغطى تمامًا بكروم الورد، التي ما إن يحل أواخر الربيع حتى تتفتح أزهارها الكبيرة المتدلية في مشهد خلاب.
أصدرتُ تعليماتي للسائق:
“سر ببطء قليلاً، من فضلك.”
“أمركِ، آنسة.”
فتحت نافذة العربة ببطء، ومددت رأسي قليلًا بحذر كي لا أعرض نفسي للخطر.
ثم تنشّقت الهواء المفعم بعطر الورد المتطاير مع نسيم المساء العليل.
في تلك اللحظة تمامًا—
“آه؟”
رأيت شخصًا مألوفًا يقف أمامي.
“تمهّل قليلاً، أوقف العربة.”
“حاضر، آنستي.”
توقّفت العربة بهدوء، وعندها استطعت أن أميّز بوضوح من هو ذلك الشخص الواقف بجانب سور الورد المتفتح.
إنه سيدريك.
‘ما الذي يفعله هنا؟’
وفي تلك اللحظة بالضبط، التقت عيناي بعيني سيدريك، بينما كنت أطلّ برأسي من نافذة العربة.
التعليقات لهذا الفصل " 89"