ومضى الزمن، حتى حلّ اليوم.
“…….”
“……سيدي إيليا؟”
“…….”
نظرتُ إليه بعينين متسائلتين، بينما كان يحدّق بي مباشرة، بعينيه الورديتين المتوهجتين، وكأنه يتهمني بشيء ما.
‘ما الذي يحدث معه بحق السماء؟’
“هل فعلتُ ما يسيء إليك بأي شكل من الأشكال؟”
“……سمعت أنكِ تلقيتِ عرض زواج؟”
“ماذا؟”
كان سؤالًا مباغتًا إلى حد لم أكن مستعدة له.
“سمعت أن الماركيز إستيفان قد تقدم لخطبتكِ، أليس كذلك؟”
“وكيف عرفت بذلك؟”
“أتظنين أنني لن أعلم؟”
“لا، ليس هذا ما قصدته. فقط ظننتُ أن أمورًا كهذه لا تهمك.”
“كحح، كحح!”
سعل إيليا سعلتين مصطنعتين وبصوت عالٍ، ثم قال بجدية:
“حتى إن لم أهتم، فبعض الأخبار تجد طريقها إلى أذني رغمًا عني.”
“آه، هكذا إذاً…”
أن يُبدي اهتمامًا بأخبار المجتمع الراقي، وهو الذي لا يشغله شيء سوى السحر، كان أمرًا غريبًا بحق.
“وماذا بعد؟”
“عذرًا؟”
“ماذا فعلتِ بخصوص عرض الزواج؟”
“ماذا؟ أعني…”
“لا تقولي إنكِ قبلتيه!”
صرخ إيليا فجأة وقد بدا عليه الانفعال الشديد. لم أستطع حتى أن أرفع يدي نافية، من فرط المفاجأة.
‘ما الذي دهاه؟ بحق السماء، ما به اليوم؟’
“ما زلتِ متصلة بدائرتي السحرية، ولم تتجاوزي سوى المستوى الثاني فقط…!”
“وما علاقة عرض الزواج بمستواي في السحر؟”
“تلميذة لا تزال تفتقر إلى المهارة وتحاول الفرار، ألا يحق لي أن أغضب؟”
“لكن…”
لم أعد أعرف من أين أبدأ في تصحيح مفاهيمه.
“مجرد أنني تلقيت عرض زواج، لا يعني أنني لم أعد تلميذتك، أليس كذلك؟”
“هذا أمر بديهي!”
“إذًا، لِمَ كل هذا الغضب؟”
“لأن…”
تلعثم إيليا وتوقف عن الكلام، فأجبت وأنا أرفع كتفيّ.
“على أية حال، لا أعلم لِمَ كل هذا الفضول، لكنني رفضت العرض بكل احترام.”
“حقًا؟”
“نعم.”
راح ينظر إليّ للحظات بعينين تملؤهما مشاعر معقدة مختلفة تمامًا عن تلك التي كانت في البداية.
“ماركيز سيدريك إستيفان يُعدّط زوجًا مناسبًا، أليس كذلك؟”
“نعم، يمكن قول ذلك.”
“فلمَ رفضته إذًا؟”
“هذا سؤال غريب يصدر ممن كاد ينفجر غضبًا حين ظن أنني قبلت!”
أجبته وأنا أتنهد، بعدما حدّق بي بنظرة حادة.
“ببساطة، لأني لا أشعر أنني مستعدة بعد.”
“……”
بدا غير مقتنع، وظل يرمقني بنظرات متحفظة، لكن لم يكن لديّ ما أضيفه.
“وما سوى ذلك يدخل في نطاق الخصوصية. ليس لي وحدي، بل للسيد إستيفان أيضًا. لذا لن أقول أكثر من هذا.”
“تشه.”
هل قال “تشه” مجددًا؟ نظرت إليه غير مصدقة.
“ما بالك مؤخرًا تتصرف كالأطفال؟”
“……لا شأن لكِ.”
أدرك على ما يبدو أنه فعلاً يتصرف بصبيانية، فأجابني متذمرًا وهو يتمتم بتعويذة شفاء.
“لا داعي لتكرار الأمر في كل مرة تراني فيها.”
“ربما.”
ردّ باستهانة، ثم أضاف:
“السحر قادر على معالجة الجراح، لكن بالطبع، شفاء الساحر بمستواي يمكنه حتى إعادة وصل الأطراف المبتورة.”
“نعم، نعم. أعلم.”
“لكن الضرر الناتج عن الإصابة لا يُمحى بالسحر وحده.”
“أنا على دراية بذلك.”
ولذا قضيت الأسبوع الماضي طريحة الفراش بهدوء، أليس كذلك؟
“ولهذا فلا حاجة لأن ترهق نفسك بإلقاء تعويذات الشفاء كلما رأيتني.”
“أعلم ذلك.”
ردّ عليّ بنفس عبارتي، ثم قال:
“لكن أحيانًا، حتى وإن كنتِ تعلمين أن الأمر بلا جدوى، لا يسعكِ إلا أن تحاولين.”
“وماذا تعني بذلك؟”
“فقط تذكّري أن ثمة أمورًا كهذه في الحياة.”
ثم تنهد، ومدّ يده ليمسح برفق على رأسي.
“متى ستتعافين تمامًا يا ترى؟”
“في الواقع، أشعر أنني أستطيع النهوض حالًا.”
ضحك ساخرًا دون أن يحاول إخفاءه.
“السخرية بهذه الطريقة تؤذيني.”
“كلام فارغ.”
قالها، لكنه مع ذلك، ابتسم قليلًا. وبينما كنت أراقب تلك العناية الخفية المتجلية في عينيه، خطرت لي فكرة لم أستطع البوح بها.
‘متى تعلّق قلبي بهم إلى هذا الحد يا تُرى؟’
سيدريك، الذي تقدم لي بطلب زواج…
كاليكس، الذي أجهش بالبكاء حين علم أنني تناولت السم…
وإيليا، الذي لا يملّ من إلقاء تعاويذ الشفاء عليّ في كل مرة نلتقي فيها، رغم إدراكه أنها بلا جدوى.
حتى إيان، تحجج بإصابته بنزلة برد شديدة، وأرسل لي عبر قافلة إيسيس باقة من الأعشاب الغريبة التي يُشاع أنها مفيدة للبرد.
لو كان كل هذا مجرد لعبة، لقلت ببساطة إن ما يحدث نتيجة طبيعية لأنني “أهتم.”
لكن…
على أية حال، من المؤكد أنني أقترب خطوة فخطوة من نهاية العزلة الأبدية.
اقترب موعد مهرجان تأسيس المملكة، حيث يقع
الحدث الثاني من سلسلة أحداث الصداقة.
‘وبما أنني أتعافى على نحو جيد…’
ظننت أن مشاركتي في المهرجان لن تكون أمرًا صعبًا.
لكن…
***
“تنوين حضور مهرجان تأسيس المملكة؟”
كان ذلك أثناء العشاء، في غياب زوجة أبي، التي اعتزلت بحجة الانعزال للتأمل.
وما إن طُرح موضوع المهرجان بشكل طبيعي، حتى عقّبت بكلمة واحدة على اعتبار أن حضوري أمر مفروغ منه…
“أختي… هل أنتِ على دراية بحالة جسدكِ الآن؟”
جاء رد كاليكس أعنف مما توقعت.
“أنا أتعافى بشكل جيد…”
بفضل الحلقة الخفية التي جرت منذ مدة، حصلت على لقب ‘محمية الدوق الصغير’.
أظن أنني كسبت حينها 30 نقطة في اللياقة و50 في الإرادة…
المشكلة كانت أن هذا اللقب عزّز بشكل مفرط ميول كاليكس إلى المبالغة في حمايتي.
“هذا غير مقبول! ‘فيرونيك’ سمّ قاتل. حتى لو تخلصتِ من السم، فإن جسدكِ لا يزال يتحمل تبعات الصدمة!”
“ولهذا أقول إنني شُفيتُ تقريبًا…”
“وأنا كذلك أرى رأي أخي، أختي.”
قاطعتنا إيليني بوجه مفعم بالقلق.
“لم يمضِ وقت طويل على نهوضكِ من الفراش. من الأفضل أن تتخلي عن المهرجان هذا العام، وتحصلي على راحة تامة.”
ثم أضافت بذكاء:
“أليس كذلك، أبي؟”
أطلق والدي تنهيدة قصيرة.
“أنا أيضًا أوافق إخوتكِ الرأي. لقد كنتِ على وشك الموت. أظن أن من الأفضل أن تأخذي قسطًا إضافيًا من الراحة.”
لكن…
‘رغم أنني أحب الراحة أيضًا…’
فإن تفويت حدث صداقة واحد قد يعني حتمًا نهاية النهاية العزوبية.
ناهيك عن نقاط المهارة.
رغم أنني كنت أكتسب بعض النقاط من الحياة اليومية، إلا أن أغلب الزيادات الحقيقية كانت تحدث أثناء الأحداث.
لذا، كان هذا المهرجان من الأحداث التي لا يمكنني التخلي عنها بأي شكل.
فتحدثت بحزم:
“حتى لو كانت نزلة برد شديدة، فمن غير المعقول أن تُبقيني طريحة الفراش لأكثر من أسبوعين. وإذا تغيّبتُ عن المهرجان، فسوف تكثر الشكوك والهمسات.”
ثم أضفت كمن يتمتم:
“هذا العام، والدتي لن تتمكن من الحضور أيضًا… فإذا تغيّبتُ أنا كذلك، لا أعلم ما الذي سيقوله الناس…”
“همم…”
ظهر على والدي بعض الحرج، لكنه لم يجد ما يدحض به كلامي.
“ولكن، أختي…”
“كاليكس.”
قاطعته، ناظرة إليه بثبات.
لسبب ما، كاليكس لم يعد يستطيع رفض كلامي حين أحدّق فيه بهذه الطريقة.
“آه…”
تمامًا كما حدث الآن.
ومع أن إيليني بدت غير مرتاحة، فإنها لم تعد تقاطع الحديث.
لم يبقَ سوى والدي.
نظرت إليه وسألته:
“أبي، ستسمح لي بالحضور، أليس كذلك؟”
تنهد والدي بعمق، ثم قال:
“…عديني بشيء واحد يا يوري.”
كانت تلك موافقة ضمنية.
“عليكِ أن تتحركي في حدود ما يسمح به جسدكِ فقط. وإن لاحظتِ أي أعراض مريبة…”
“سأعود إلى المنزل فورًا وأخلد للراحة.”
أجبت على الفور، فهزّ والدي رأسه موافقًا، مع أنه ما زال يبدو قلقًا.
<النظام> بفضل براعتك في الإقناع، تمت ترقية لقبك من “المفاوضة المخضرمة” إلى “سيدة التفاوض”.
<النظام> تأثير اللقب: +100 في الذكاء، +100 في الخطابة، +70 في الجاذبية. قدرتك على الإقناع تسحر الناس.
‘…لقد كان نجاحًا ساحقًا.’
***
في الوقت ذاته، في قصر الارشيدوق روين…
“سيدي الارشيدوق…”
“…هممم؟”
ردّ بصوت خافت متأخر لحظة عن النداء، ما جعل هايلن، مساعده، يغمغم ساخطًا في نفسه.
لم يُسمح لأحد بدخول غرفة كاميل منذ نصف يوم، وقد تحولت الغرفة إلى فوضى عارمة.
الفراش شبه محطّم، والكرسي والطاولة مكسوران ومبعثران في كل أرجاء الغرفة، تغطيها الخدوش والانشقاقات.
اقترب هايلن خطوة ليتفقد حال الارشيدوق، فكاد يسحق بقدمه مزهرية مكسورة على الأرض.
“……”
لكن كاميل بدا غير مكترث لما فعله، متكوّرًا على السرير المحطم، يرمش بعيون نصف مغمضة، كما لو كان كل شيء لا يعنيه.
وحول السرير، تناثرت عدة زجاجات دواء كريستالية فارغة.
لم يستطع هايلن كبح تنهيدة ثقيلة.
“لقد تناولت مجددًا جرعة زائدة من المسكنات والمثبتات، أليس كذلك؟”
ضحكة جافة كانت كل ما تلقاه جوابًا.
ورغم علمه بأن الكلام لن يُجدي، بدأ هايلن في التأنيب:
“سيدي، لا بد أن أذكّرك، هذه الأدوية التي تتناولها ليست سوى سموم مركزة. أليس كذلك؟”
“أجل، أجل…”
أجاب كاميل بلا مبالاة، لكن الحقيقة أن تلك الأدوية قوية لدرجة أن قطرة واحدة منها يمكن أن تطيح بأسد.
كاميل، الذي تجاوز الإنسان الطبيعي في نواحٍ عدة، لا يستطيع تقليص حالته الذهنية والجسدية ليشبه البشر إلا بتناول تلك العقاقير الخطيرة بانتظام.
مزيج المثبتات والمسكنات يثقل الحواس ويبطئ الاستجابات.
إن أردنا تشبيهها بشيء، فهي تجعل المرء أشبه بقنديل بحر مترنّح.
ومع ذلك، إن لم يتناولها، فلن يكون قادرًا على ممارسة حياته اليومية بشكل طبيعي.
ومع أنه شرب عدة زجاجات متتالية…
فهذا بحد ذاته يوضح أن حالته بلغت من التدهور ما لم يعد معه قادراً على الراحة بدون هذه السموم.
التعليقات لهذا الفصل " 88"