لأنه لم يكن هناك أحد تقف خلفه، تعتمد عليه، يحميها من الوقوع في فعل مرعب كهذا، أن تشرب السم بيدها.
لم يكن هناك أحد إلى جوارها. لقد كانت دومًا وحيدة. بينما هو، الغافل الجاهل، لم يرَ إلا ما أراد أن يراه، وتخبط في ظنونه وأوهامه، ظلت يوري تقاتل وحدها، في عزلة وصمت.
لم يكن أمامها سوى ذلك الطريق. كان هذا هو أفضل ما تستطيع فعله.
أن تلقي بنفسها في طريق قد يفضي إلى الموت، لم يكن سوى السبيل الوحيد لحماية نفسها، وهذا ما اضطر كاليكس للاعتراف به.
مجرد الاعتراف بهذه الحقيقة، وحده… وحده كان كافيًا ليُنهكه ألمًا.
دفن كاليكس وجهه في كفّيه، عاجزًا عن تحمل وطأة الشعور.
كان خزيًا، وخذلانًا، وألمًا، وغضبًا.
كان يود أن يصرخ على غبائه، على تصرفاته المتبجحة أمام سيدريك إستيفان وهو لا يعلم شيئًا.
أصبح يشعر بالغثيان من نفسه، من كاليكس روزانهير الأحمق.
وصورة والدته، التي آمن بها واتبعها طوال حياته، بدأت تنهار شيئًا فشيئًا. لم يبقَ منها سوى شعور بالنفور والاشمئزاز.
وفي خضمّ كل ذلك، فتحت يوري فمها وقالت بصوت هادئ:
“لا تقلق، كاليكس.”
“……”
“يكفي أن أرحل أنا. إن اختفيتُ أنا فقط، فلن تعاني هذه العائلة من أي مشكلة.”
“كلا، يا أختي. لا، هذا بالذات… لا يمكن أن يكون صحيحًا.”
هل تريدين أن نعيش كما كنا، سعداء وضاحكين، وكأن شيئًا لم يحدث، في عالم خالٍ منك؟
بعد أن رأى بعينيه ما يدور تحت السطح؟
هذا مستحيل. هز كاليكس رأسه. لم يعد من الممكن العودة إلى ما كان.
بل، حتى إن أمكن ذلك… إن رحلت يوري، فلن يكون لكل شيء أي معنى.
لن يكون هناك أي معنى.
“لا بأس، كاليكس.”
كانت يوري تجهل كل ما يعتمل في داخله، وظلّت تواسيه بنعومة.
“كل شيء سيكون على ما يرام. سأغادر هذا المكان وأعيش بسعادة… وحين أرحل، سيعيش الباقون هنا أيضًا بسعادة.”
“……أنا لا، يا أختي.”
“……”
“أنا لا… لستُ بخير، أنا…”.
لم يستطع كاليكس قول أكثر من هذا في مثل هذا الموقف.
“هممم…”
اتسعت ملامح الحرج على وجه يوري، إذ لم تكن تعلم حقاً كيف يمكنها تهدئته أو ماذا عساها أن تقول له.
أما كاليكس، فنظر إليها محاولًا كبح مشاعره الجياشة.
لم يكن يملك الحق في البكاء الآن، ولا كان التشبث بها أكثر مما فعل سيعود عليها بأي نفع.
“فقط… ارتاحي الآن، أختي.”
“حسنًا، فهمت.”
نظر كاليكس إلى يوري التي بدت وكأنها ستنطفئ في أي لحظة، ثم ودّعها بنظرة ثقيلة قائلاً بصوت منخفض:
“سأذهب الآن”
وغادر الغرفة.
أصدرت يوري صوتًا خافتًا وهي تضغط لسانها على أسنانها، وقد شعرت بشيء من الشفقة تجاه كاليكس الذي احمرّت عيناه من كثرة البكاء.
لكنها لم تكن تعلم شيئًا عمّا حدث لوجهه بعد خروجه من الغرفة… كيف جفّ كل دفء فيه، وتحول إلى الجمود والبرود.
وبينما كانت يوري تستسلم للنوم رويدًا رويدًا في وحدتها، كان كاليكس يشق طريقه دون تردد نحو الزنزانة تحت الأرض.
“لوين، هل والدي في الداخل؟”
“سيدي الدوق مشغول بتقصي ما إن كان ثمة شركاء محتملون في الجريمة…”
“سأذهب بنفسي.”
لم يكن في وجه كاليكس أي أثر للدفء حين نطق بذلك.
لكن في اللحظة التي همّ فيها بمتابعة سيره نحو الزنزانة…
“كاليكس! كاليكس!”
“سيدتي، اهدئي رجاءً!”
“كاليكس… آه، ولدي!”
من أقصى الردهة، اندفعت الدوقة مهرولة، وألقت بنفسها بين ذراعي ابنها تحت وقع مشاعرها.
تجمّد كاليكس في مكانه، غير أن والدته التي غمرت وجهها بالدموع ودفنته في صدره، لم تلاحظ شيئًا.
“إنها غلطتي… كلّها غلطتي.”
تمتمت الدوقة بكلمات متقطعة:
“لم يخطر ببالي أبدًا أن تحمل سوزان ضغينة تجاه يوري! كيف أمكن لشيء بهذا الفظاعة أن يحدث…؟”
“……”
حدّق كاليكس في والدته التي كانت تتشبث به وتبكي بحرقة.
شعور لا يمكن وصفه فاض في صدره، وملأ كيانه.
“كل ذلك بسبب تقصيري وقلة بصيرتي… لا أعلم كيف سأواجه يوري بعد الآن…”
“اهدئي يا أمي، سيسوء حالكِ إن واصلتِ الانفعال.”
قالت إيليني بجانبهما بقلق، لكن الدوقة لم تكن تسمع.
“……”
تأمل كاليكس أمه لبعض الوقت، ثم أمسك بكتفيها بلطف وأبعدها عن صدره.
“كاليكس…؟”
“لقد فهمت ما تحاولين قوله.”
“……”
توقفت ليتيسيا عن البكاء فورًا، مصدومة من ردة فعل ابنها غير المتوقعة.
“كاليكس، أنا فقط…”
“ولكن يا أمي، حتى وإن لم تكوني متورطة في الأمر مباشرة، فلا يمكنكِ التنصل من مسؤوليتكِ في سوء إدارة من هم تحت سلطتكِ.”
“!”
شعرت ليتيسيا وكأن دلواً من الماء المثلج قد سُكب عليها.
لقد قال زوجها الشيء نفسه تمامًا.
لكنها كانت تتفهم ذلك، فهو لم يحبها قط.
لكن…
أنت يا كاليكس، يا بني… كيف لك أن تقول هذا؟!
ارتجف جسد ليتيسيا من شعور بالخيانة، غير مدركة أن كاليكس نفسه كان يغلي داخليًا من خيانة أعمق بكثير.
“أعتقد أنه من الأفضل أن تلتزمي الهدوء في الوقت الراهن. فلو تكرر شيء من هذا القبيل، ستنتشر الشائعات بين الخدم ولا يمكن السيطرة عليها.”
“……”
“إيليني.”
“نعم، أخي.”
نظر إليها كاليكس وقد فوجئ بمدى هدوئها، ثم أعاد نظره فورًا.
لكن ذلك لم يدم سوى لحظة.
“رافقي والدتنا إلى غرفتها.”
“حسنًا، سأفعل.”
“انتظر، كاليكس… أمك تريد أن تقول شيئًا…”
“استريحي، يا أمي. لدي وجهة أخرى.”
تجاوزها دون أن يتردد، ونظرت إليه ليتيسيا بدهشة مفرغة من أي رد فعل.
“مستحيل… كيف يمكنه…؟!”
“سيدتي!”
أمسكت بها إيليني مع إحدى الخادمات من كلا الجانبين، لتمنعا جسدها من الانهيار.
“إي… إيليني، لقد رأيتِ، أليس كذلك؟ شقيقكِ…”
“رأيت، أمي.”
أجابت إيليني بهدوء، وأرسلت نظرة ذات مغزى للخادمة بجوارها. ثم شرعتا في مرافقة ليتيسيا المتداعية نحو غرفتها.
كانت ليتيسيا في حال من الذهول، لم تدرك معها إلى أين تذهب، أو حتى أنها تُساق إلى هناك.
وأثناء ذلك، التفتت إيليني لمرة واحدة فقط نحو الجهة التي مضى فيها شقيقها.
عينها الخضراء ضاقت قليلاً، لكن لم يلحظ أحد تلك النظرة الخفية.
14. مهرجان التأسيس
ولحسن حظ زوجة أبي، فإنّ أقوال البارونة موجين لم تتغيّر قيد أنملة، حتى أمام أشد صنوف التعذيب والاستجواب قسوة.
ظلّت البارونة تصرّ على أن ما حدث هو جريمة منفردة بدافع الضغينة. والحقيقة أن ذلك كان صحيحًا.
على أية حال، وبعد أن انتهى التحقيق دون نتائج إضافية، أمر والدي بإعدام البارون موجين وزوجته وسائر أقربائهم من الدرجة الأولى، كما جُرِّدوا من لقب النبالة، وأُعيدت أملاك آل موجين لتصبح تحت إدارة البلاط مباشرة.
وقد جرى كل ذلك بهدوء شديد. وليس ذلك بمستغرب، فالمسألة تتعلق بمحاولة اغتيال الآنسة من قبل وصيفة خاصة بدوقة القصر.
لو تسرّب أدنى خبر عن الأمر، لتلطّخ شرف قصر الدوق بعار لا يُمحى.
لكن، بالطبع، لم يكن هذا هو الدافع الحقيقي وراء سريّة والدي في معالجة الأمور.
لقد كان قلقًا من تأثير هذه الحادثة إن ذاعت على سمعتي أنا.
صحيح أنني كنت الضحية، لكن لا فائدة تُرجى من ورود اسمي في حادثة من هذا النوع.
وما كنت لأحظى بفرصة الانسحاب بهدوء من الحياة العامة لاحقًا، كما كنت أتمنّى، إن عَلِق هذا النوع من الحديث بذكري في أذهان الناس.
لذا، لأسباب شتى، انتهت حادثة التسميم بهذا الشكل.
لكن كان هناك شخص واحد لا يمكن إخفاء الأمر عنه.
“هل تُراكِ تستسيغين شرب السموم؟ هل هو من هواياتكِ مثلاً؟”
جاءني إيليا في اليوم التالي مباشرةً بعد الحادثة.
قال إنه لم يدرك حالتي فورًا لأن أكثر من نصف الوصلات العصبية السحرية كانت قد تعطّلت.
كررتُ مرارًا، بابتسامة محرجة، أنّ ما حدث كان مجرد حادث عرضي، لكن إيليا لم يكن سوى شعلة من الغضب، حتى شعر المرء بأن شعره قد انتصب من شدة انفعاله.
“أخبِريني من هو الفاعل.”
لم يكن بوسعي أن أجيبه.
“يا سيدي، هذه مسألة تخص قصر دوق روزانهير من الداخل.”
“هل يعني هذا أنّ أحد أفراد الأسرة هو من هاجمكِ؟”
“…….”
‘هل هو عفريت أم ماذا بحق السماء…؟’
“يا سيدي، لا يمكنني قول شيء أكثر من ذلك. أرجوك، كفّ عن السؤال.”
عضّ إيليا على أسنانه بقوة حتى برزت عضلات وجهه، محاولًا كبح غضبه تحت وطأة توسّلي.
“أتذكرين ما قلتُه لكِ من قبل؟”
“نعم؟ لقد قلتَ أشياء كثيرة… فبأيها تقصد؟”
“قلتُ لكِ: لا تسمحي لأحد بأن يؤذيكِ، وإن كان هناك من يستحق، فلا تترددي في قتله.”
“آه… نعم، أذكر الآن، قلتَ شيئًا من هذا القبيل بالفعل…”
“لكني أدركت الآن أنني كنت مخطئًا.”
…هاه؟
“فجأةً أصبحنا نادمين على ما قيل؟”
“أدركتُ أنكِ ببساطة لا تستطيعين قتل أحد. لذا، سأعرض عليكِ هذا.”
كما هو متوقّع… يبدو أنّ أجل إيليا لم يحن بعد.
“وما هو عرضك هذا؟”
“قولي لي فقط اسمًا واحدًا. اسمًا واحدًا فقط، وسأتكفّل أنا بالباقي، كائنًا من كان. ما رأيكِ؟”
“حتى لو سألتني…”.
تنهدتُ وحاولتُ استجماع قواي لأجيب بوضوح:
“الفاعل يقع تحت سلطة دوق روزانهير، أي والدي.”
بمعنى آخر، لا مكان لتدخل إيليا هنا.
“……تشه.”
“هل قلتَ ‘تشه’ للتو؟”
“اصمتي.”
وبعد أن فشل في تحقيق هدفه، صبّ إيليا جام غضبه في شكل سيل من تعاويذ الشفاء والتحصين السحري، أغرقني بها قبل أن يغادر القصر في النهاية.
التعليقات لهذا الفصل " 87"