ترى كم من الوقت مضى وأنا فاقدة للوعي؟
ما إن طفتُ على سطح الإدراك، حتى بدأ ألم حارق يجتاح حنجرتي. عقدتُ حاجبيّ من شدّة المعاناة.
وبينما كنت أئنّ في ذلك الألم لبعض الوقت، شعرت بشخص ما يرفعني بلطف ويسند جسدي، ثم يُقرّب إلى شفتيّ كوبًا مملوءًا بالماء.
حاولت أن أرتشف الماء بجشع، لكن ذلك الشخص أمال الكوب بهدوء شديد وبصبر واضح، وكأنه يخشى أن أشرق به.
بدأ الماء يبلل شفتيّ ببطء، فكنت أشربه كما يرضع الرضيع، قطرة فقطرة، حتى فتحت عينَيّ أخيرًا.
وما إن انجلت الرؤية أمامي…
“كا… ليكس…؟”
“لا تتحدثي يا أختي! حنجرتكِ مصابة بشدة.”
“أنت… هنا…؟”
“رجاءً، لا تتكلمي.”
“ما الذي…؟”
ارتسمت على وجه كاليكس ملامح حيرة وقلق عميق، لكنه، وقبل أن أتمكن من تحريك شفتيّ مجددًا وسؤاله، سارع هو بالحديث قبلي كمن أُصيب بالذعر.
“حسنًا، حسنًا، سأخبركِ بكل شيء، لذا رجاءً لا تتفوهي بكلمة واحدة.”
حينما أطعتُه بهدوء كما طلب، عضّ كاليكس على شفته وتنهد بعمق.
“أولاً، ما حدث لكِ كان بسبب التسمم.”
“……”
“لستُ واثقًا إن كنتِ تتذكرين، لكن البارونة موجين دسّت السم في الشاي الذي قدمته لكِ. أما الآن، فهي… على أي حال، محتجزة في السجن تحت الأرض.”
“……”
وحين حركتُ شفتيّ وكأنني أود الحديث، قال كاليكس بوجه مشوّه من القلق:
“قلتُ لكِ ألا تتكلمي!”
ثم استطرد كأنه يقرأ أفكاري:
“هل تسألين عن مكان أبي؟”
“……”
“أبي يحقق معها الآن. أما أنا… فقد بقيت هنا لأحميكِ.”
وفي تلك اللحظة تمامًا…
“……؟”
انبثقت دموع صافية فجأة في عيني كاليكس، ثم بدأت تنهمر على وجنتيه بصمت.
دمعة دافئة سقطت على خدي.
‘…؟’
لماذا يبكي؟ كان يتحدث للتو…
“لِمَ…؟”
راح كاليكس يعضّ شفته حتى سال منها الدم.
وبعد لحظة صمت، قال بصوت خافت:
“…أنا آسف، أختي.”
“……؟”
“لأنني… لأنني وصلت متأخرًا، ولم أتمكن من حمايتكِ.”
استمرت الدموع تنهمر من عينيه، تتدحرج على وجهه الشاحب كأنها حبات لؤلؤ صافية.
“ليس… ذنبك…”
“بل هو كذلك. هو ذنبي.”
“……”
“لم أكن أعلم… لم أكن أعلم كيف كانت والدتي تنظر إليكِ طوال هذا الوقت.”
“!”
كيف له أن يعرف؟
هل يُعقل أنه أدرك الأمر بسبب تلك الحادثة حينما اتهمتني زوجة أبي زورًا؟
هل تمكن من استيعاب كل هذا لمجرد تلك الواقعة؟
<النظام> تم الدخول إلى ‘القصة المخفية: الحماية الخاصة من الدوق الصغير’!
كنت أراقب كاليكس، مشوشة الذهن بعض الشيء.
كان كاليكس عاجزًا عن مواجهة عيني يوري الزرقاوين، اللتين عاد إليهما البريق أخيرًا.
رغم امتنانه لعودتها إلى وعيها، إلا أن الذنب أثقل كاهله، ولم يجرؤ على النظر إليها مطولًا.
طوال الوقت، كان يعتبر يوري شخصًا عليه حمايته.
وكان يرى في ذلك مسؤوليةً وواجبًا يُلقي بهما عليه وضعُه كالدوق الصغير لعائلة روزانهير.
وكان يؤمن -بكل يقين- بأنه قادر على أداء هذا الواجب، بل إنه في أحيان كثيرة ظنّ أنه ينجح فيه على نحوٍ جيد.
ولكنه كان واهمًا.
وهمٌ نشأ عن جهلٍ قاسٍ ومروّع.
ففي الوقت الذي كان غارقًا في وهمه، كانت والدته تضمر الكراهية لأخته، وتكيل لها التهم الباطلة، ولم تكتفِ بذلك، بل سعت إلى قتلها بالسم.
وأما هو؟ فماذا فعل؟
“أنا قلقٌ عليكِ. ألا تدركين ذلك حقًا؟”
ما الذي شعرت به يوري حين سمعت تلك الكلمات؟
في الحقيقة، لم يكن ذلك سوى تذمّر. تذمّرٌ يُلقيه شخص يشعر بأن قلقه عليها لا يُؤخذ بعين الاعتبار.
أنا قلقٌ عليكِ.
أرجوكِ، خذي مشاعري بالحسبان.
ما الذي دار في ذهن يوري حين سمعت ابن تلك المرأة -التي كانت تخنقها يومًا بعد يوم- يُلقي بذلك التذمّر؟
ماذا فكرت حينها؟
كان كاليكس يشعر برغبة عارمة في البكاء. ورغم أنه كان يبكي فعلاً، أراد أن يبكي أكثر.
وفي تلك اللحظة…
“لا… تبكِ.”
لامست إصبعٌ رفيعة وجنته المبتلة بخفة.
وقبل أن ينبس كاليكس ببنت شفة، راحت تلك الإصبع تمسح وجنته المبللة ببطء.
شعر بموجة من المشاعر المتدفقة تعتصر قلبه دون أن يستطيع وصفها.
“……لن أدع تلك المرأة التي حاولت تسميمكِ تفلت بفعلتها.”
نطق كاليكس بهذه الكلمات من دون أن يعي.
“رأت خادمتكِ بنفسها كيف وضعت السم في الشاي، وقد حصلنا أيضًا على الفنجان كدليل. لن ترى تلك المرأة نور الشمس مجددًا ما دمتُ حيًّا، أقسم باسمي…”
لكن جملته لم تكتمل.
لم يكن هناك من يقاطعه.
بل هو نفسه من لم يستطع إنهاء القسم.
بارونة موجين… تلك المرأة ليست الفاعل الحقيقي.
كاليكس كان يعلم ذلك.
بارونة موجين، المحتجزة في الزنزانة السفلية، كانت تصر على أنها المسؤولة الوحيدة عن تدبير وتنفيذ تلك الجريمة، وأن لا علاقة لأي شخص آخر بها.
أما دافعها، فكان -حسب قولها المتكرر- “ضغينة شخصية” لا أكثر.
رغم مرور ست ساعات من التحقيق تحت إشراف الدوق، لم تغيّر أقوالها حتى الآن.
‘كلام فارغ.’
هكذا فكّر كاليكس ببرود.
صحيح أن احتمال تصرفها الفردي ليس معدومًا، فقد كانت دائمًا مخلصة لوالدته بشكل مفرط.
لكن حتى لو صحّ ذلك، هل يمكن تبرئة والدته تمامًا؟
لو لم تكن والدته تكره يوري إلى حدّ الرغبة في قتلها، لما تجرأت موجين على وضع السمّ لها.
كان الألم في داخله أشبه بحريقٍ صامت. رغم أنه لم يأكل شيئًا، كان يشعر بالغثيان يكاد يخنقه.
‘لماذا، أمي؟’
‘لماذا تكرهين أختي إلى هذا الحد؟’
اعترف كاليكس لنفسه أنه لا يستطيع التغاضي عمّا حدث هذه المرة.
لم يعد يستطيع السكوت أو الاحتمال.
“أختي…”
ولما همّ بالكلام عن والدته، عقدت يوري حاجبيها بضيق، وأشارت ناحية الإبريق.
“هل تريدين المزيد من الماء؟”
نسي كاليكس ما كان سيقوله، وقف على عجل، بينما كانت يوري تحاول تعديل جلستها بصعوبة حتى جلست نصف قائمة.
“أختي! لا تتحركي.”
“لا بأس…”
لكنها مدت يدها كما لو أنها ترجوه أن يُسرع بجلب الماء. فأمسك كاليكس بكوب وسلّمه إليها بحذر، ثم ضمّ يده فوق يدها بلطف.
“اشربي ببطء. لا تسرعي، حتى لا تختنقي.”
بعد أن أنهت شرب الماء بالكامل وببطء، تنحنحت يوري قليلاً لترطيب حلقها اليابس، ثم قالت بصوت خافت:
“لم تعد هناك حاجة لأن تقول شيئًا بعد الآن.”
“لكن أختي…”
“يكفي، أنا بخير حقًا.”
“لكن ما فعلته البارونة كان محاولة قتل متعمدة…”
“أنا أعلم، كاليكس.”
“……”
“في بعض الأحيان… تحدث أشياء لا يمكننا منعها.”
يوري لم تكن تسعى إلى الإطاحة بدوقة الأسرة.
فهي كانت تخطط للرحيل إلى فيرغانا في نهاية هذا العام على أي حال.
كانت بالكاد تجد وقتًا لبناء علاقاتها وتطوير مهاراتها اللازمة لتحصل على نهاية العيش الوحيدة التي كانت تبتغيها.
وفي خضمّ كل ذلك الانشغال، لم تكن تنوي إضافة مهمة إسقاط دوقة العائلة إلى جدولها.
“دع الأمور كما هي. هذا ما أريده. على أي حال، أنا راحلة…”
“راحلة؟!”
يا إلهي… يبدو أن حالتها لم تكن مستقرة بعد، حتى أنها نطقت بما لم يكن ينبغي قوله.
لكن كاليكس التقط الإشارة فورًا، بحسّه الحادّ.
كلمة “أرحل”…
كانت صادقة تمامًا.
شعر بذلك بكل جوارحه.
فكلمة الرحيل في حديث يوري لم تكن تعني مجرد الزواج ومغادرة الأسرة، بل حملت في طيّاتها قرارًا بترك روزانهير بالكامل، وربما قطع كل صلة بها.
وحين فهم تلك الحقيقة، انهار جزءٌ آخر من قلبه الذي ظنّ أنه لم يتبقَّ فيه شيء للانهيار.
“تغادرين… أختي، ستغادرين…”
“إلى أين سترحلين؟ ومتى اتخذتِ هذا القرار؟ لا تخبريني أنكِ كنتِ تنوين ذلك منذ البداية!”
تنهدت يوري بخفة. بعد ما وصل إليه الأمر، لم يكن هناك مفرّ من كشف جزءٍ من سرّها لـكاليكس.
“ليست فكرة قديمة. ولم أحدد وجهتي بعد، لا شيء مؤكد.”
“لكنّكِ ابنة دوق روزانهير! كيف يمكنكِ ترك كل شيء والرحيل؟”
“الزواج يعني الرحيل أيضًا، أليس كذلك؟”
“لكن الزواج لا يعني بالضرورة قطع العلاقة تمامًا. أما الآن، فكلامكِ يعني…”
“أؤكد لك، رحيلي هو الطريقة الأكثر سلمًا لحل كل شيء.”
“……”
لم يستطع كاليكس الرد. كان وجهه شاحبًا تمامًا، ولا يجد ما يقول.
لأنه لم يجد أي مجال لمعارضة منطقها.
وعيناه، اللتان كانت ترتجفان بقلق، امتلأتا مجددًا بالدموع.
وحين سقطت تلك الدموع على خديه، ابتسمت يوري بخجل.
“لماذا تبكي مجددًا؟ لا داعي للبكاء…”
“……أعتذر.”
مسح كاليكس دموعه. لم يكن هو من ينبغي له البكاء الآن.
ثم شدّ على أسنانه محاولًا أن يبدو متماسكًا وقال:
“حتى لو كنتِ تفكرين بهذه الطريقة، لا يمكنني ترك ما حدث يمرّ دون عقاب. والدتي تجاوزت الحد هذه المرة. ما جرى لا يمكن…”
“أنا من شرب السم عمدًا.”
“هذا أمر لا يمكن التغاضي عنه… ماذا؟!”
توقف كاليكس عن الكلام فجأة، وتجمّد في مكانه.
لم يستوعب فورًا ما سمعه لتوّه.
“شربتُ السم… عن قصد.”
ردّد العبارة كأنما لا يصدق أذنيه، حتى بدأ المعنى يستقر في ذهنه شيئًا فشيئًا.
فغر فاه بذهول.
“أختي! كيف يمكنكِ أن تفعلي شيئًا كهذا؟!”
“آسفة إن خيّبت أملك.”
أجابت يوري بهدوء.
“لكن لم يكن لدي خيار آخر.”
سقطت كتفا كاليكس وكأن الحمل أثقل من أن يُحتمل، وتمتم في شرود:
“كنتِ تحاولين الإيقاع بالبارونة إذن…”
“لم يكن هناك طريقة أخرى.”
عندها سأله كاليكس بنبرة حادة، وكأن الفكرة خطرت له للتو:
“هل… هل هذه أول مرة تضع فيها أمي السم لكِ؟”
التعليقات لهذا الفصل " 86"