دخل لوين الغرفة بحذر، وكان يبدو على وجهه ما يبعث على القلق.
“هل ظهرت نتائج التحقيق؟”
“ليست مؤكدة بعد، ولكن…”
“؟”
“سيدي، هل تذكر مساعدَ سائس الإسطبل الذي تم طرده قبل بضع سنوات بعد أن كُسرت ساق حصانك؟”
“نعم، أذكر أن شيئًا كهذا حصل… لكن ما علاقته بالأمر؟”
“ذلك الرجل من بلدة موازان، في الشمال الغربي.”
“!”
“وقد رصدنا دليلاً يشير إلى أن زوجة البارون موجين التقت به شخصيًا في اليوم الذي توفيت فيه الخادمة.”
ابتلع كاليكس ريقه بتوتر.
“منذ طرده من القصر، تنقّل ذلك الرجل بين أعمال مؤقتة، وكان يتردد على أماكن القمار بانتظام.”
“يكفي، لا تُكمل. لقد فهمت كل ما أحتاج إليه.”
تنفس كاليكس بعمق، محاولًا تهدئة نفسه.
لم يكن هناك ما يُثبت الأمر يقينًا، كما قال لوين. غير أن كاليكس لم يكن غبيًا إلى الحد الذي يجعله يتجاهل ما تدل عليه كل هذه القرائن.
‘إن كانت البارونة موجين متورطةً في تسميم الخادمة…’
فهو يعرف، أكثر من أي أحد، أن تلك المرأة التي تبدو خالية من الرحمة والمشاعر، لا تتحرك إلا بأمر من والدته.
وبذلك، لم تكن القاتلة سوى والدته.
أطلق كاليكس أنينًا طويلاً ودفن وجهه بين راحتي يديه. لقد كان وقع الحقيقة التي انكشفت أخيرًا ثقيلاً جدًا على نفسه، حتى إنه لم يستطع احتمالها.
كان يريد الهرب.
لكنه لم يكن يستطيع.
“…لوين.”
“نعم، سيدي.”
“راقب البارونة موجين عن كثب خلال الفترة القادمة، سواءً داخل القصر أو خارجه. لا يُسمح بأن نغفل عن أيٍّ من تحركاتها.”
“مفهوم.”
“وإن لاحظت أي أمر مريب، فأبلغني على الفور.”
“أمركم مطاع، سيدي. سأفعل ما أمرت به تمامًا.”
***
تلك الليلة، في ساعة متأخرة من الليل.
“أ- أيتها البارونة.”
“ما الأمر، يا ليا غاريل؟”
ابتلعت ليا” ريقها بتوتر، ونظرت إلى البارونة موجين التي نادتها باسمها الكامل دون أي انفعال على وجهها.
حتى وقتٍ قريب، كانت ليا تشعر بخوفٍ حقيقي من هذه المرأة الباردة والغامضة حد القسوة.
“لكن الآن…”
حين تفكّر في أكثر ما يبعث الرعب في نفسها، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنها هو وجه الآنسة النبيلة حين ابتسمت وعرضت عليها طريقين بكل هدوء.
رمقت البارونة ليا بنظرة متضايقة، وقد لاحظت ارتجافها الصامت.
“قلتِ إن لديكِ ما يستحق أن يُبلغني به بشكل خاص، فلم لا تتكلمين؟”
“في الحقيقة… أيتها البارونة، ما أردت إبلاغك به هو…”
جاهدت ليا لتليِّن لسانها المتخشب، حتى تمكّنت أخيرًا من استخراج الكلمات.
“الآنسة يوري قالت إنها ترغب في مقابلة الخادمة التي طُردت بعد اتهامها ظلمًا.”
“ماذا قلتِ؟”
وضعت البارونة قلمها جانبًا، وأمرت بلهجة صارمة:
“ما الذي تعنينه بذلك؟ فسّري لي بالتفصيل.”
“أنا… لم أسمع كل الحديث جيدًا، لذلك لا أتذكر سوى القليل…”
“فاذكري كل ما تذكريه، مهما كان ضئيلاً.”
“قالت إنها بدأت تشك في السيدة الدوقة بسبب ما حدث مع تلك الخادمة… لذا فهي تعتزم مقابلتها لمعرفة السبب وراء تلك الأكاذيب الغريبة التي تفوّهت بها.”
“…”
“قالت أيضًا إنها لا تستطيع رفع الشك عن والدتها إلا بعد أن تسمع من تلك الخادمة مباشرة…”
قبضت البارونة موجين على أسنانها بقوة.
إذا كانت يوري تنوي مقابلة تلك الخادمة، فستعرف، بطبيعة الحال، أنها قد ماتت.
‘رغم أنني تخلّصت منها بسرية تامة…’
لكن ماذا لو تبيّن لاحقًا أن وفاتها كانت بتخطيطٍ من البارونة نفسها؟
لو أن يوري إلروز لا تزال كما كانت في الماضي؛ تلك الفتاة الطيبة والبريئة حدّ السذاجة، لما أقلق الأمر البارونة إطلاقًا.
في أسوأ الأحوال، كانت ستذرف الدموع على موت الخادمة وتمنح أسرتها بعض المال.
لكن يوري الحالية؟
هل يا ترى ما زالت بتلك الطيبة والسذاجة التي تجعلها تتغاضى ببساطة عن هذه الفعلة؟
البارونة موجين لم تكن تظن ذلك.
“كان ينبغي أن تموت تلك الفتاة في ذلك اليوم، في ذلك البحيرة! لو أنها ماتت حينها، لما حدث شيء من هذا كلّه…!” “كل ما يحدث الآن، سببه أنها لا تزال على قيد الحياة.”
ما زال صدى صراخ ليتيسيا يتردد في أذنيّ بوضوح.
نعم.
كان من المفترض أن تموت يوري إلروز منذ زمن بعيد. لكنها نجت بعناد، وظلت حيّة حتى الآن، بل فرّقت بين ليتيسيا وأطفالها.
نعم…
كلاهما —هي و ليتيسيا— كانتا مخطئتين في التفكير حتى الآن.
فمن كان عليه أن يموت على أية حال، أليس من الأفضل التخلص منه بطريقة أسهل؟
كان يجب أن يكون الأمر هكذا منذ البداية.
اتخذت البارونة موجين قرارها. لقد حان الوقت لتتحرك بنفسها… من أجل ليتيسيا.
***
في اليوم التالي.
تعمدت أن أرتدي أبهى حللي، وتوجهت لزيارة زوجة أبي.
“الدوقة لا تشعر بتحسن في الوقت الحالي.”
قالت البارونة موجين بوجه خالٍ من أيّ تعبير، لكنني لم أتراجع.
“وما مدى سوء حالتها؟”
“قالت إنها لا ترغب في رؤية أحد اليوم.”
“لكنني أريد بشدة رؤيتها اليوم…”
“…”
“ألا تعلمين ما حدث مؤخرًا بيني وبين والدتي؟”
“لا أفهم ما الذي تعنينه بكلامكِ هذا.”
“ربما لا تدركين، لكنني أكنّ لوالدتي احترامًا عميقًا، وأتبعها في قلبي بإخلاص.”
“…”
بدأت نظرات البارونة موجين تمتلئ بالعدائية، وقد أدركت كذب مشاعري المفتعل.
لكنني واصلت حديثي بوجه هادئ، متعمدًا استفزازها.
“لكن من المؤسف أننا تعرضنا مؤخرًا لسوء فهم أفسد علاقتنا، أليس كذلك؟”
“أؤكد لكِ، أن ذلك لم يكن خطأ السيدة الدوقة.”
“ترين ذلك؟”
“!”
“ها أنا ذا بدأت أرتاب في والدتي بالفعل.”
تعمدت تليين نبرة صوتي، كأنني أريد تهدئتها.
“أنا لا أظن أن هذا أمر جيد. أريد التحدث إليها بنفسي وتوضيح الأمور، علّنا نزيل هذا الالتباس.”
لم تستطع البارونة موجين إخفاء ابتسامة ساخرة ارتسمت على وجهها. فقلت لها بلهجة مرحة:
“أما إذا لم يكن الأمر مجرّد سوء فهم… فحينها، سأضطر لإيجاد حلّ آخر.”
“سأُبلِغ السيدة الدوقة برغبتكِ في لقائها.”
“جيّد. سأنتظر في غرفة الاستقبال.”
تظاهرت بالطاعة، ثم أضفت بابتسامة لطيفة:
“آه، وبما أن والدتي تحتاج إلى بعض الوقت للاستعداد، هلّا حضرتِ لي كوبًا من الشاي حتى أروّح عن نفسي قليلًا؟”
“…حسنًا، سأفعل.”
***
“ماذا؟!”
نهض كاليكس فجأة من مكانه، وقد اتسعت عيناه من الذهول.
“أختي ذهبت لرؤية أمي؟ لماذا؟”
هزّ لوين، الذي جاءه بالخبر وهو يلهث، رأسه بقلق:
“لست أعلم السبب، سيدي.”
“لا… هذا لا يجوز.”
قفز كاليكس من كرسيه، فتبعثرت الأوراق التي كان يتفحصها على مكتبه.
“يجب أن أذهب فورًا. أختي… لا تدرك ما الذي قد تواجهه.”
“اهدأ، سيدي. من المستحيل أن تؤذي السيدة الدوقة الآنسة.”
“أنا لا أقلق بشأن أمي.”
من يقلقه بحق هو البارونة موجين. فقد كانت مستعدة لفعل أي شيء من أجل ليتيسيا.
وهل يا ترى سترضى تلك المرأة القاسية بترك يوري تغادر سالمة، وقد جاءت إليها برجليها؟
بالطبع، كاليكس يدرك أنها لن تُقدم على قتل يوري هكذا من دون سبب أو دافع.
‘لأن الخطر كبير.’
لكن رغم هذا الإدراك، لم يستطع كتمان قلقه الجنوني.
‘لا يمكنني البقاء هنا مكتوف اليدين.’
عضّ على شفتيه ونهض على عجل، ثم اندفع خارج مكتب العمل ركضًا.
***
بعد أن أبلغت البارونة موجين زوجة أبي بالزيارة، عادت إلى غرفة الاستقبال بوجهها المعتاد الخالي من التعابير.
“عندما تنتهي السيدة الدوقة من استعداداتها، ستأتي إلى هنا.”
“سأنتظر.”
“سأُحضّر لكِ الشاي لتتناوليه أثناء الانتظار.”
“…”
راقبت البارونة بصمت وهي تُعدّ الشاي.
بدت خطواتها هادئة طبيعية، ولم يكن بالإمكان التنبؤ بأي لحظة قد تكون دسّت فيها السم.
“ها هو، تفضلي.”
قدّمت لي أخيرًا كوبًا من الشاي ذي اللون الأحمر الجذاب.
“هلّا أحضرتِ قليلًا من الكريمة؟”
“بالطبع، سأضعها لكِ.”
راقبتها وهي تصب الكريمة في الفنجان، وتقلّب المزيج بلطف باستخدام ملعقة الشاي.
“ها قد أصبح جاهزًا.”
“شكرًا لكِ.”
وحين سحبت يدها، أمسكتُ بكوب الشاي ببطء، وألقيت نظرة إلى إينا الواقفة عند الباب.
بعد أن تأكدت من موقعها، قرّبت الفنجان من شفتيّ بهدوء.
احتسيت أول رشفة ببطء، فابتلعتها نحو حلقي.
<النظام> لقد تناولتِ شايًا مسمومًا!
<النظام> التأثير: الموت.
كما توقعت تمامًا…
هبطت الرشفة إلى معدتي كلسعة مرة، وكأنني ابتلعت حممًا، حتى إنني استطعت أن أتبين طريقها داخل جسدي.
في تلك اللحظة بالذات، سُمع صوت خطوات فوضوية خلف الباب، ثم فُتح الباب بعنف.
ارتبكت إينا وتراجعت، وحينها—
“أختي!”
دخل كاليكس من الباب المفتوح، شاحب الوجه.
‘ما الذي أتى به إلى هنا؟’
وما إن خطرت هذه الفكرة في بالي—
“…كح! كح!”
<النظام> تحذير! تسمم حاد أدى إلى خلل في الوظائف الحيوية.
<النظام> بدأتِ في تقيؤ الدم.
<النظام> يتم الآن تناول مصل مضاد للسم.
<النظام> تأثير السم بدأ في التراجع.
<النظام> لا يمكن إيقاف التقيؤ تمامًا.
ظهرت رسائل التحذير فجأة في رأسي، وبدأت الرؤية تزداد ضبابية.
سقط كوب الشاي من يدي، وانسكب على فخذي، لكنني لم أشعر بسخونته.
“…! …!”
سمعت صوت كاليكس يصرخ بشيء، لكن صوته تلاشى في طنين أذنيّ.
التعليقات لهذا الفصل " 85"