صفعةٌ قوية دوّت في المكان. ورغم أن ليتيسيا كانت ترتجف غضبًا وانفعالًا، فإن موجين لم تُبدِ سوى هدوء بارد وهي تضع يدها على وجنتها التي احمرّت بفعل الصفعة، ثم قالت باعتذار.
“أعتذر، سيدتي.”
“……”
لقد أفرغت غضبها في غير محله، وكانت ليتيسيا تدرك ذلك. لكنها لم تكن تملك الطاقة لتعتذر.
“آه…”
تنهدت ليتيسيا بمرارة وهي تغطي وجهها بكفيها. كان صدى كلمات إيليني، التي تركتها منذ لحظات، لا يزال يتردد بوضوح في أذنيها.
“تطلبين مني أن أصدقكِ بالكلام، لكنكِ دائمًا ما تفشلين في كل مرة، أليس كذلك؟ أعتذر يا أمي، لكنني لا أظن أنني أستطيع الوثوق بكِ بعد الآن.”
رغم كل ما قالته، بقي وجه إيليني هادئًا ومشرقًا بالطيبة كعادته، وكأنها تشعر حقًا بالأسى تجاه أخطاء ليتيسيا، لكنها في الوقت نفسه تعتبرها أمورًا لا سبيل لتغييرها.
وذلك بالتحديد ما زاد من تحطيم نفس ليتيسيا.
‘هل… هل لأنني كنت أفشل دائمًا… لم تعد ابنتي تثق بي بعد الآن…؟’
لكن الأمر لم يقتصر على ابنتها فحسب.
فكاليكس بدوره، كان قد فتح قلبه لِيوري إلى درجة لم تنفع معها حتى محاولات ليتيسيا للوقيعة بينهما.
وفي الحقيقة، فإن خيبة أمل إيليني فيها لم تكن بنفس وطأة تلك التي شعرت بها تجاه موقف كاليكس.
‘كم تعبتُ وسعيتُ حتى الآن…!’
يوري إلروز… لمجرد أن تتخيل ملامحها المستفزة، كانت أسنان ليتيسيا تطبق على بعضها بقوة.
لكنها الآن، لم تعد تشعر بالكراهية فقط، بل سادها شعورٌ عارم بالعجز واللا جدوى.
فقدرتها العجيبة على الإفلات من قبضتها كل مرة، كادت تُفقد ليتيسيا صوابها.
‘وفوق ذلك كله…’
لم تكن إيليني وحدها من خاب أمله فيها بسبب إخفاقاتها المتكررة.
‘حتى “ذلك الشخص” عاتبني…’
خيبة أمل إيليني كانت مؤلمة للقلب، أما خيبة أمل “ذلك الشخص” فكانت كافية لتسلب ليتيسيا النوم من عينيها.
‘لقد أهدرت حجر المانا الفاتح للشرخ بتلك الطريقة السخيفة…’
ولم يكن من الغريب إذن أن يتخلى عنها.
‘ما الذي عليّ فعله الآن؟’
تخلّى عنها ذلك الداعم القوي الذي طالما كان سندًا لها، وها هم أبناؤها الآن بدورهم يديرون لها ظهورهم.
أما يوري؟
تلك الفتاة التي تشبه دوقة الدوق السابق حد التطابق، لم تكتفِ بإغواء مركيز إستيفان بوسيلة ما، بل تلقّت اليوم هدية فاخرة من الحلويات من قِبل الارشيدوق نفسه!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد ظهرت في الحفل الإمبراطوري وهي تمسك بيد ولي العهد! يا للصدمة التي تلقتها حينها!
في ذلك الوقت، ظنت ليتيسيا أن بإمكانها إيقاف صعود يوري في أي لحظة.
فقد كانت ترى فيها مجرد فتاة ضعيفة خاضعة، لم تستطع يومًا أن تواجهها بكلمة، وأن إعادة سحقها إلى مكانها الطبيعي لن يكون بالأمر الصعب.
لكن الآن؟
من سحقته الحياة حتى بات لا يُعرف له شكل، هو هي نفسها.
‘أنا…’
‘هل انتهى كل شيء بالنسبة لي؟’
“سيدتي؟”
نادت البارونة موجين بقلق، وقد لاحظت أن ليتيسيا بدأت ترتجف بعنف غير طبيعي.
“سيدتي؟ هل أنتِ بخير؟”
“أنا، أنا، أنا…”
غاصت ليتيسيا في نوبة ذعر، وبدأت تهذي بكلام غير مترابط.
وفي لحظات، أصبحت غارقة في العرق البارد، وكأنها غريق انتُشل لتوه من الماء.
“سيدتي! أفيقي! أرجوكِ!”
“سوزان… ما الذي يمكننا فعله؟”
قالت ليتيسيا وهي ترتجف بشدة:
“لو أنها فقط… لو أنها فقط ماتت في ذلك اليوم عند البحيرة! لو أن تلك الفتاة ماتت حينها، لما كان أي من هذا ليحدث…!”
“سيدتي، أرجوكِ تماسكي، أرجوكِ!”
هزّتها البارونة موجين من كتفيها بقوة وقد استشعرت الخطر، لكن الارتجاف لم يتوقف.
“كل هذا… كل هذا بسبب نجاتها…”
‘أنا… أنا… ما الذي سيحدث لي الآن؟’
سألت ليتيسيا، وعينها مغرورقتان بالخوف والذعر.
لكن البارونة لم تملك لها جوابًا.
“آه… آه…”
وإذ لم تجد من يطمئنها، عادت ليتيسيا ترتجف بعنف، والعرق البارد ينهمر من جسدها كالمطر.
رأت البارونة حالتها تلك، وعضّت شفتيها بقوة.
لم يعد بإمكانها الوقوف مكتوفة اليدين، هذا ما شعرت به بوضوح.
***
وصل صندوقٌ من مالتا، أو بالأحرى، من لامير.
“هذه المرة لم يكن من قِبل الارشيدوق، أليس كذلك؟”
قالت الخادمة ليا بابتسامة مرحة.
“لا، لقد طلبته بنفسي. اتركيه هناك وامنحيني بعض الخصوصية، من فضلكِ.”
“نعم، حاضر يا آنسة.”
وما إن خرجت ليا وأُغلِق الباب، حتى سارعت بفتح الصندوق القادم من لامير.
“واو.”
لقد كان كعكة كريمة مزينة بكمبوت الكرز الأحمر المسكّر، وكأنها عمل فني.
‘ينبغي أن أكون حذرة حتى لا أفسدها… ‘
رفعت الكعكة بدقةٍ وعناية، ثم أخرجت التقرير الذي أرسله مالتا من أسفل الصندوق.
بدأت بتصفح التقرير المنظم بعناية وبسرعة.
وكانت بدايته تتحدث عن سالي براون.
“… ماتت؟”
كان مكتوباً بوضوح أنها توفيت في تلك الليلة نفسها التي طُردت فيها من بيت الدوق، جراء نوبة قلبية.
لكن لحسن الحظ، لم ينتهِ التقرير عند هذا الحد.
“في مساء يوم طرد سالي براون من بيت الدوق، حاولت الخروج، وتشير نتائج التحقيق إلى أن الشخص الذي التقت به هو ويليام سامسون (38 عاماً، عاطل حالياً).”
وتحت ذلك، وردت نبذة مختصرة عن ويليام سامسون.
“… كان يعمل في إسطبل بيت الدوق قبل أن يُطرَد، ويتنقل الآن بين أعمال يومية، دور القمار…؟ من بلدة موازان في الشمال الغربي للإمبراطورية؟”
شعرت بقشعريرة تمرّ في ظهري. لا، بل لم تكن مجرد حدس، بل استنتاج منطقي واضح.
‘ذلك الشخص… تلقّى أوامر من زوجة البارون موجين.’
لم تمت الخادمة فجأة، بل سُمِّمت عمداً.
‘والسبب بالطبع… لإسكاتها.’
وضعت ما تبقى من التقرير جانباً، وغرقت في التفكير.
‘هل يجب أن أترك زوجة البارون موجين وشأنها؟’
في البداية، كانت الشرور التي تمارسها زوجة أبي تقتصر على تشويه سمعتي بالكلام المعسول والتلاعب بالمواقف لتمنعني من كسب أي فائدة.
‘كان يمكنني مواجهتها وجهًا لوجه في تلك المرحلة…’
لكن حين لم تجد تلك الأساليب نفعاً، لجأت إلى إرسال من يتهمني زوراً.
ومع ذلك، باءت محاولتها بالفشل أيضاً…
‘والآن، قد تبدأ باستخدام وسائل أكثر عنفاً ضدي.’
وكان أقرب شخص يمكنها استخدامه هو زوجة البارون موجين.
‘كنت أظن أن عليّ فقط اتخاذ الاحتياطات ضد التسميم.’
لكن الاكتفاء بالطرق الدفاعية لم يعد كافياً على ما يبدو.
صحيح أن زوجة أبي لم تكن هدفاً يمكنني التعامل معه بعد.
لكن…
‘أما زوجة البارون موجين، فقد حان الوقت للتخلص منها. سيكون ذلك أفضل لمستقبلي.’
لذا…
أكملت قراءة ما تبقى من التقرير.
كان يتضمن تفاصيل شخصية دقيقة عن كل خادمة، ورأي مالتا حول من يُشتبه في خيانته.
‘ليا غاريل.’
تذكرت الخادمة التي كانت قبل قليل تتودد إليّ بلطف، وابتسمت بسخرية.
ربما عليّ أن أعتبر نفسي محظوظة لأن إينا، التي كانت أقرب إليّ في الآونة الأخيرة، لم تكن من بين الخونة.
‘همم.’
تنهدت وسحبت الحبل المعلق.
فدخلت ليا قائلة:
“هل استدعيتني، يا آنسة؟”
“بدوتِ وكأنكِ كنتِ تنتظرين خلف الباب، أليس كذلك، ليا؟”
“ظننتُ أنكِ قد تطلبين مني تجهيز الحلوى لتناولها…”
لوّحت بيدي، متجاوزةً كل المجاملات، ودخلت مباشرة في صلب الموضوع.
“سأتحدث بصراحة، ليا. هل تتلقين أموالاً من زوجة البارون موجين؟”
“… نعم؟”
ظهر الارتباك على وجه ليا، وفكرت في داخلي:
‘إذن لا تستطيع الكذب.’
“ماذا… ما الذي تعنينه، يا آنسة؟ لا أفهم ما تقولينه…”
“وفقاً للوثائق التي أرسلتها نقابة المعلومات، يبدو أن ذلك بدأ منذ فترة طويلة. منذ أن بدأتِ العمل كخادمة عندي، وأنتِ تتلقين المال. أي أنكِ دخلتِ إلى منزلي من البداية باتفاقٍ مسبق.”
“آنسة، هذا…”
شحبت ملامح ليا تماماً. يبدو أنها لم تتخيل أبداً أنني قد أكتشف كل هذا.
ثم انحنت فجأة، جاثية على ركبتيها.
“أرجوكِ، لا تسيئي فهمي يا آنسة! صحيح أنني استلمت المال، لكن فقط لأقدّم لزوجة الدوق معلومات تفيدها في العناية بكِ. لم يكن هدفي إيذاءكِ أبداً…”
“كفى. لا أحب من يتهرب من صلب الموضوع.”
“آنسة، أرجوكِ…”
“في النهاية، لقد كنتِ تبيعين كل تحركاتي بالتفصيل لوالدتي مقابل المال، أليس كذلك؟”
“…”
“ولا أظنّكِ حمقاء إلى درجة ألا تعرفي ما يمكن أن يترتب على هذا التصرف.”
“آه، آنسة…”
زحفت ليا على ركبتيها، ممسكة بطرف ثوبي.
“لقد… لقد اتخذت قراراً خاطئاً. كانت والدتي مريضة ولم يكن بوسعي رفض طلبها…”
“حقاً؟ وهل تفصيلكِ لفستان جديد في شارع كارلايل الأسبوع الماضي كان لأجل والدتكِ المريضة أيضاً؟”
“…”
وأخيراً، صمتت ليا تماماً، وقد ازداد وجهها شحوباً.
“أمامكِ خياران فقط.”
“…”
“أولاً، أن تتعاوني معي بهدوء وتغادري المنزل دون ضجة.”
“آنسة، أرجوكِ!”
“والثاني، أن تُطرَدي دون حتى رسالة توصية، ثم تُسمَّمي لاحقاً لإسكاتك.”
“!”
قلبت الأوراق بين يديّ بخفة وهدوء.
“إذاً، ما رأيكِ؟ اختاري بنفسكِ، ليا.”
***
في تلك الأثناء، في مكتب كاليكس.
كان قد عاد للتو من منزل الماركيز إستيفان، وراح يفكر بوجه معقد.
“من الأفضل أن تُفكر بهدوء. ما الذي حدث حقاً أثناء نشأتك؟ وماذا كان يختبئ وراء ما كنتَ تراه أمامك؟”
ولكن، لم يكن من الحمق بحيث يرفض نصيحة مليئة بالمعاني العميقة لمجرد عناد أو تمرد.
نعم، كانت حقيقة مؤسفة، لكن ما قاله الماركيز إستيفان لامس قلب الحيرة التي كان يعيشها في الآونة الأخيرة.
‘هل من حقي أن أشك…؟’
عضّ كاليكس على شفتيه.
‘أنا… أشكّ في والدتي…’
لا، بل هو يعلم جيداً.
فالحقيقة أن إهداءه لليوري ملعقة شاي فضية مُعزَّزة بسحر قادر على كشف السموم حتى تلك التي لا يتفاعل معها الفِضّة… لم يكن إلا دليلاً قاطعاً على شكوكه الكامنة.
قال له الماركيز إستيفان ذات مرة: إن أردتَ حماية يوري، فعليك أن تنتبه، فالخطر لا يأتي مني.
وكان ذلك يعني ضمنياً أنه يجب عليه أن يحمي أخته.
وفي اللحظة التي ازدادت فيها نظرات كاليكس عمقاً، سُمِع طَرقٌ خفيف على الباب.
التعليقات لهذا الفصل " 84"