رفعت رأسي، فرأيت الارشيدوق يراقبنا وهو يمسح ذقنه بيده، وتبدو على وجهه نظرة معقدة.
“هكذا إذًا…”
تمتم بكلماتٍ تحمل شيئًا من الغموض والتهكّم.
“سيد رودلي، لقد حالفك الحظ الليلة.”
كانت نبرة لا تخفى عليها السخرية، لكن السيد رودلي، من فرط حماسته، لم يدركها.
“بالفعل! إنه لشرف لا يتكرر!”
‘آه، كم هو محرج.’
كنت أرغب فقط في المرور بهدوء، لكنني لم أدر أين أضع نفسي، فأخذت أتلفت حولي بحذر. لحسن الحظ، كان الناس منشغلين بالخروج من غرفة الاستقبال واحدًا تلو الآخر، فلم تكن الأنظار مركزة عليّ… ولكن.
“……”
كان سيدريك يحدّق فيّ. كانت نظراته تخترقني حتى ارتجفت لا إراديًا وأدرت وجهي بعيدًا، لأجد…
“……”
حتى إيان يبتسم ابتسامة ذات مغزى.
‘هل… هل اتخذت قرارًا خاطئًا؟’
مرّ في ذهني للحظة أن الأفضل ربما كان أن أتحجج بالمرض وأمتنع عن حضور العشاء منذ البداية.
لكن، كان الوقت قد فات.
قال السيد رودلي وهو يضحك.
“هاها، لا أدري لماذا بدأ العرق البارد يتصبب فجأة… ربما لأنني حصلت على شرف مرافقة الآنسة النبيلة.”
‘لا، هذا ليس السبب.’
تظاهرت بتجاهل نظرات الرجال الثلاثة المثبتة على السيد رودلي، وسرت باتجاه قاعة العشاء.
خلافًا لما كنت أخشاه، مر وقت العشاء بسلاسة.
السيد رودلي، الذي يندرج ضمن من تسميهم زوجة أبي بـ”الثرثارين”، كان منشغلاً في الحديث مع الآخرين أكثر من اهتمامه بي، لحسن الحظ.
بدأت الأحاديث بالحديث عن الوحش الذي ظهر في البحيرة، ثم تحولت إلى الحديث عن التصدعات السحرية التي بدأت تزداد بشكل مفاجئ، ثم إلى بطولات سيدريك والدوق التي أنقذت الموقف.
“كان ما فعلتماه مذهلاً حقًا. حين أفكر في الأمر الآن، أظن أن ما شهدناه هناك كان مشهدًا نادرًا لا يُرى مرتين.”
بعد أن مر التهديد على حياتهم، أصبح بالنسبة إليهم مشهدًا نادرًا.
“لولا الماركيز إستيفان وسمو الارشيدوق روين، لما كنا اليوم جالسين هنا بسلام، أليس كذلك؟”
“بلى، بلى، لقد كانت بطولتهما حقًا خارقة.”
رغم أن المديح كان يُتبادل على طاولة الطعام، لم يُبدِ الارشيدوق ولا سيدريك أي ردة فعل تُذكر.
‘أم أن هناك فرقًا بسيطًا؟’
كان الارشيدوق يبتسم مستمعًا بصمت دون أن يُعلّق، في حين بدا على سيدريك بعض الكآبة وصمت مطبق.
‘…ما السبب؟’
ولأن مقعدي كان قريبًا منه، همست له بصوت منخفض.
“سيدي، هل تشعر بوعكة؟”
ارتجف كتف سيدريك فجأة، ثم خفض نظره وكأنه يتحاشى النظر إليّ، وأجاب.
“… لا، لا شيء.”
“……”
أشعرتني ردة فعله الغريبة بالإحراج.
لكن لم يكن لدي الوقت للتفكير مليًّا، إذ انتهت مأدبة العشاء سريعًا، وبدأ الناس يتحركون مجددًا إلى غرفة الاستقبال لتناول التحلية.
“هيا بنا، آنسة!”
“آه، نعم…”
كان السيد رودلي صاخبًا لدرجة أنني لم أستطع الانتباه لا لسيدريك ولا لأي أحد آخر.
أخيرًا، انتقل الجميع إلى غرفة الاستقبال. لم تخفِ زوجة أبي نظرتها الممتلئة بالرضا بعد أن رتبت بنفسها أن يرافق إيان الآنسة إيليني.
وبمجرد وصولنا إلى غرفة الاستقبال…
قالت زوجة أبي موجّهة كلامها لي.
“يوري، هل تعزفين لنا شيئًا على البيانو من فضلكِ؟”
‘…آه.’
يبدو أنها، خشية أن يحاول إيان أو سيدريك أو حتى الارشيدوق التحدث معي وحدي، أرادت إبعادي إلى زاوية البيانو.
‘وكأنها تعاملني كمجرد آلة لإنتاج موسيقى الخلفية.’
لكنني لم أكن أنوي التقرّب من الأبطال الذكور في مكانٍ يعجّ بهذا العدد من الناس.
‘فإذا بدأت الشائعات عن مواعدة أو ما شابه، سيكون الأمر مزعجًا جدًا.’
“بالطبع، يا أمي.”
قلت هذا، ثم توجهت إلى البيانو في أحد الأركان البعيدة وجلست أمامه.
‘…هممم.’
كنت قد لمست البيانو هنا من قبل مرة، وأدركت حينها أن صاحبة هذا الجسد كانت بارعة في العزف إلى حدٍّ ما.
ورغم أنني لم أكن أعزف في حياتي السابقة، شعرت أنني قادرة الآن على عزف الألحان التي تدور في رأسي دون صعوبة.
:ماذا أعزف الآن؟ بما أنني لا أعرف موسيقى هذا العالم، فعليّ أن أعزف من موسيقى عالمي السابق.’
ترددت بين عدة مقطوعات، ثم اخترت واحدة ووضعت أصابعي على المفاتيح.
لكن في تلك اللحظة…
“… آنسة يوري.”
“!”
رفعت رأسي، لأجد سيدريك واقفًا بجانب البيانو مباشرة.
“سيدي سيدريك؟ هل هناك ما يشغلك؟”
“… أتيت فقط لأنني كنت قلقًا عليكِ.”
قال ذلك وهو يلقي نظرة خاطفة باتجاه زوجة أبي.
“آه.”
يبدو أنه أدرك ما كانت تحاول زوجة أبي فعله.
ابتسمت بخجل وهمست.
“لا بأس، في الواقع كنت أشعر بالإرهاق من البقاء وسط الزحام.”
“فهمت.”
أومأ سيدريك بهدوء، لكنه لم يُظهر نية للمغادرة من جانبي.
‘…هممم.’
بدأت أعزف ببطء، لا أريد لشيء ملفت أن يلفت الانتباه، فاخترت مقطوعة ضوء القمر لديبوسي.
‘حتى تختلط أنغامها مع ضجيج الحديث.’
وكما توقعت، لم يلتفت إلي أحد، حتى من طلبت مني العزف لم تُعِرني اهتمامًا.
“……”
ربما كان المستمع الوحيد فعليًا هو سيدريك، الواقف إلى جانبي.
وسط الزحام والضوضاء، بدا كأننا نحن الاثنان معزولان في عالم من الصمت، وواصلت العزف بهدوء.
ثم، لمحت بنظري للأعلى…
“……”
“……”
يا إلهي. التقت عيناي بعيني سيدريك، الذي كان يحدق بي بثبات.
“ربما تستشعر بعض الملل من الوقوف هكذا، أليس كذلك يا سيدي؟”
“… ليس على الإطلاق.”
أجابني بهدوء، وكأنه يخشى أن يزعجني.
“العزف جميل… جدًا.”
“……”
سماع هذا المديح جعلني أشعر ببعض الخجل.
وللتخفيف من حدة الجو، حاولت كعادتي التحدث بخفة:
“في النهاية، لولا أنك أنقذتني في البحيرة، لما كنت هنا الآن لأعزف وأتحدث.”
“……”
سادت لحظة صمت.
“… هذا ليس صحيحًا.”
“نعم؟”
في اللحظة التي بدأت فيها عزف تكرار الجزء الثاني من ضوء القمر، قال سيدريك.
“أقصد أنني لم أكن ذا فائدة لكِ حينها.”
“… أنت؟”
لم أصدق أذني. الرجل الذي وقف بيني وبين وحش البحر، يقول هذا الكلام؟
أبطأت إيقاع العزف وسألت بسرعة.
“سيدي، هل تلوم نفسك لأنك لم تهزم وحش البحر وأسقطتني من الجرف؟ هل تعتقد أنك لم تنفعني؟”
“……”
يا إلهي… يبدو أنني أصبت كبد الحقيقة.
سألته بدهشة.
“لماذا تفكر بهذه الطريقة الغريبة؟”
رغم ارتباكه، تابعت بسرعة.
“لو لم تكن أمامي في تلك اللحظة، لكنت الآن ممزقة إلى نصفين.”
“لكن…”
“حتى لو كانت الضربة القاضية من نصيب سمو الارشيدوق، فإن ذلك لا يُنقص من فضلك.”
“……”
تحدثت بحماسة، مستخدمة ألفاظًا لم أستخدمها من قبل.
“سيدي، أنا ممتنة لك حقًا.”
“……”
“انظر بنفسك، أنت الوحيد الذي لاحظ أنني تُركت وحيدة عند البيانو.”
ثم رفعت كتفيّ بابتسامة، وعندها ارتسم شيء يشبه الابتسامة الخفيفة على وجه سيدريك.
“… أحقًا؟”
“لكن لا تخبر أحدًا، سيدي.”
قلت بجدية مصطنعة، وحرّكت أصابعي على المفاتيح.
“في الواقع… أنا ممتنة أكثر لكونك واقفًا بجانبي الآن.”
وربما لهذا السبب، لم يقترب الارشيدوق مني، ولم أشعر بالحرج من عزف منفرد وسط جمع لا أحد يصغي إليه.
كنت دائمًا ممتنة لهذا الأمر في سيدريك.
أنه يلاحظ حين أكون خارج الصورة في هذا المنزل.
‘كنت أظن أنني لا أبالي، لكن يبدو أن ذلك كان يرهقني حقًا.’
وبينما ابتسمت لنفسي بهذا التفكير، تحركت شفتا سيدريك قليلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 74"