فهو لا يزال يتذكر ذلك اليوم بوضوح شديد—اليوم الذي زار فيه ثيودور هذا القصر مؤخرًا مدّعيًا بحيلة لا تُصدَّق.
ثيودور، المقامر ووصمة العار على اسم عائلة إستيفان، كان مصدر إزعاج دائم لسيدريك منذ لحظة ولادته.
لم يسبق لرون أن عبّر عن ذلك صراحة، لكنّه لطالما آمن بأن وجود ثيودور سيُعيق سيدريك عاجلًا أو آجلًا.
وخاصة أنه كان يطمع في لقب مركيز إستيفان نفسه. وقاحة ما بعدها وقاحة.
لذا، فمن المؤكد أنه لن يقف مكتوف الأيدي ليرى مولاه يعقد قرانه على أي أحد.
كان ذلك أمرًا واضحًا كالشمس، لا لبس فيه.
بالمقاييس الظاهرة، كان سيدريك يُعدّ من أفضل العرسان في الإمبراطورية.
لكن في حال طفت قضية ثيودور إلى السطح بعد أن كانت مدفونة بالكاد، فلن يبقى سيدريك ذلك العازب المنشود الذي تطمح له الأسر النبيلة بعد الآن.
«إن قالت إنها لا تريد أن تتعذب في بيتٍ فيه أخٌ مستهتر كهذا، فلن يكون لي ما أقول.»
كان وجود ثيودور شوكة في عين رون، خادم سيدريك، الذي طالما حلم بأن يُدخل إلى هذا القصر سيدة من بيت نبيل يليق بمقام سيدريك، لتُرزق منه بأبناء يشبهونه في الشرف والمقام، فيخدمهم هو بإخلاص على مدى الأجيال.
ولهذا السبب بالتحديد، حين شهدت الآنسة يوري، الابنة الكبرى لعائلة دوقية روزانهير، إهانات ثيودور الجارحة وخدمه ذلك اليوم، شعر رون بالذهول وخيبة الأمل، لأنه كان يُضمر بصمت احتمال أن تنشأ علاقة بين سيدريك وتلك الفتاة.
لكن الأمور لم تَسِر كما توقع.
“من أين سمعتم أن مركيز إستيفان لا يواعد أحدًا بجدية؟”
لقد كانت ابنة الدوقية هي من هبّت للدفاع عن سيدريك، وبلهجة تحمل إيحاءً واضحًا بأنها تفكر في الارتباط به.
وكانت كلماتها ضربة قاصمة نالت من ثيودور الذي عاد خائبًا، عاجزًا عن قول كلمة تُذكر.
منذ ذلك الحين، بدأ رون يحلم سرًا.
أن يرى الآنسة يوري، الابنة الكبرى لدوقية روزانهير، سيدةً على قصر إستيفان.
وكان يعتقد جازمًا أن سيدريك قادر على تحقيق هذا الحلم.
فما عدا ثيودور، الأخ الفاسد، لم يكن هناك أي عيب في سيدريك كخاطب نبيل.
وسيم الوجه، يحمل لقبًا نبيلًا، وذائع الصيت في أرجاء المملكة بفضل براعته في فنون السيف.
أما الآنسة يوري، فقد أظهرت قوة قلب وجرأة غير عادية حين واجهت تجاوزات ثيودور دون أن يرف لها جفن.
فلو قررت الزواج بسيدريك بجدية، فلن ترى في أمر أخيه عائقًا حقيقيًا.
يالَها من ثنائية مثالية!
لكن المشكلة أن سيدريك لم يكن يتصرف كخاطبٍ شغوف.
رون، الذي خدم سيده لسنوات طويلة، كان على يقين بأن سيدريك لا يخلو قلبه من المشاعر تجاه الآنسة.
‘لو أنه فقط يُبدي بعض الجرأة!’
لكن تصرفاته الرزينة والحذرة كانت تثير قلق رون وتُذكي نار حيرته.
حتى هذه اللحظة، لا يزال سيده يعتكف في مكتبه، لا يبرحه، رغم أن الآنسة قد عادت سالمة من براثن الموت.
ألم يكن عليه أن يُسرع إلى قصر الدوقية، ويُريهم كم كان قلقًا عليها؟
لكن رون لم يكن يعلم بالحقيقة المُرّة—أن سيدريك قد رأى يوري تسقط من على حافة الجرف بعينيه ولم يتمكن من إنقاذها.
ولم يكن يدري كم احترق قلب سيده حزنًا على ذلك.
“إلى دوقية روزانهير…”
كان سيدريك على وشك أن يعلن أنه لن يذهب.
لكن رون سبقه إلى الكلام.
“بما أنهم بعثوا بدعوة رسمية، فأنت مُلزم بحضور مأدبة العشاء، على الأقل.”
“……”
“دوق روزانهير يُكنّ لك احترامًا كبيرًا، وقد دعاك بنفسه للعشاء، أليس كذلك؟”
تلبّد وجه سيدريك بسحابة من الظلمة.
وليس لأنّه صدق محبة الدوق له، بل لأنه في تلك الليلة تحديدًا، اكتشف أمرًا لم يبرح ذاكرته.
ذلك البرود المتعمد من زوجة الدوق تجاه الآنسة يوري.
ولم تتوقف أفعالها عند ذلك.
ففي الليلة التي نظّمت فيها يوري حفلة راقصة، لم تتردد زوجة الدوق في دسّ السمّ لها.
“……”
شدّ سيدريك على أسنانه وهو يتذكّر ما جرى في ذلك اليوم.
حين سقطت يوري من فوق الجرف دون حولٍ منه ولا قوة، ماذا كان يدور في ذهن دوقة روزانهير؟
هل كانت تراقب المشهد بعينين تتلألأ فيهما النشوة؟
كلما فكّر في ذلك، ازداد كرهه لعجزه عن حمايتها.
لكن ما آلمه أكثر، هو أنه لم يعد يملك الشجاعة ليرى وجهها مجددًا.
كيف ستنظر إليه، وهو الذي رآها تسقط أمام عينيه ولم يفعل شيئًا؟
لا، بل هو يعرف تمامًا كيف ستنظُر إليه…
نظرة لوم وخذلان.
هزّ رأسه بعنف، وكأنّه يطرد تلك الأفكار السوداء من ذهنه.
‘لا أصدق هذا…’
لم يكن يتصور قط أن يكون يومًا بهذا الضعف.
“سيدي، ألست أنت من أنقذتك الآنسة يوري إلروز ذات مرة من مأزق؟”
نعم، هذا صحيح.
أما هو، فلم يستطع إنقاذها.
“إن لم تحضر مأدبة العشاء، فقد تُصاب الآنسة يوري بخيبة أمل…”
“……”
كان لكلمات رون وقعٌ قوي، تمامًا كما هو متوقع من خادم يعرف سيده جيدًا.
‘صحيح…’
سيدريك مدين ليوري.
حين يتذكّر الأمر بدقة، لا شك أن دوقة روزانهير كانت تظنّ أن يوري قد ماتت، وسعدت لذلك.
لكن ها هي تعود حيّة تُرزق، فكم من الغيظ يتفجر في صدر تلك المرأة الآن؟
ومن الطبيعي أن يتوجّه غضب الدوقة نحو يوري التي عادت من الموت، وهو ما جعل ظروفها داخل القصر أسوأ مما كانت.
حتى هذه الدعوة إلى مأدبة العشاء، التي تبدو ظاهريًا للاحتفال بعودتها، لم تكن سوى وسيلة لتغطية فشل الدوقة المستمر.
وكلما فكّر في وضع يوري داخل ذلك البيت المليء بالنفاق والخداع، ازداد شعوره بالمرارة.
‘من الناحية الدقيقة، لا يحق لي التدخل…’
فحتى الارشيدوق نفسه قال له ذلك يوم كانا عند البحيرة.
“هل أنت المتحدث باسم الآنسة يوري؟”
“لا، لست كذلك.”
“فهل أنت خطيبها، على الأقل؟”
“سموّ الارشيدوق…”
“أرأيت؟ أنت لا تمثّل أي شيء بالنسبة لها.”
حين تذكّر تلك الكلمات التي قيلت بنبرة سخرية، قبض سيدريك على قلمه بقوة.
!
“سيدي!”
تحطّم القلم الخشبي بين يديه دون مقاومة، فانكسر فجأة.
“يا إلهي، ما الذي حدث؟!”
ناداه رون وهو قلق، لكن سيدريك ردّ بصوتٍ خالٍ من أي انفعال.
“رون.”
“أجل، سيدي؟”
“استعد لحضوري مأدبة العشاء في دوقية روزانهير.”
“هاه؟ حقًا… جادّ أنت يا سيدي؟”
أومأ سيدريك برأسه تأكيدًا.
لم يكن عونًا كبيرًا ليوري حتى الآن.
لقد شاهدها تشرب السم أمام عينيه، دون أن يستطيع إنقاذها. بل وحتى حين مُنح فرصة جديدة، أخفق مجددًا في حمايتها.
لكن محنتها لم تنتهِ عند ذلك الحد.
العدو الذي يحاول ابتلاعها ما يزال يتربص بها…
داخل نفس المنزل.
ومن يبدو أنه أدرك ذلك — حتى هذه اللحظة على الأقل — هو سيدريك، وحده.
“ألستَ لا شيء بالنسبة للآنسة يوري؟”
نعم، لم يكن أمامه سوى الاعتراف بذلك.
سيدريك لم يكن “شيئًا” بالنسبة لها.
ليس خطيبًا، ولا حتى صديقًا مقرّبًا ربما.
لكن، كان هناك أمر واحد على الأقل كان سيدريك يعرفه بوضوح.
يوري بحاجة إلى من يعينها.
ومادام هذا الإدراك حاضرًا في قلبه، فلن يتراجع عن مساندتها.
***
لم يكن سبب إقامة مأدبة العشاء الرسمية أمرًا معقدًا.
فبعد الحادث المؤسف، لم يكن من اللائق تنظيم حفل راقص، فضلًا عن ضيق الوقت.
أُرسلت بطاقات الدعوة إلى أصناف متعددة من الناس.
وحين نُظر في القائمة التي ضمّت نحو ثلاثين اسمًا، بدا واضحًا أنها كانت مزيجًا متعمدًا من أصحاب المكانة والنفوذ، إلى جانب أولئك المعروفين بسرعة انتشار ألسنتهم، والذين سيساعدون في نشر ما يُرى ويُسمع في تلك المأدبة.
وكان من الطبيعي أن تشمل القائمة كلًّا من إيان، وسيدريك، وحتى سموّ الارشيدوق.
“يبدو الأمر معقدًا أكثر مما توقعت.”
“هل قلتِ شيئًا يا آنسة؟”
“آه، لا، لا شيء.”
وقفت بعد أن أنهيت الزينة، وطلبت فتح الباب.
كانت معظم الشخصيات المدعوّة قد وصلت إلى قاعة الاستقبال.
وما إن دخلت، حتى ساد صمت قصير في المكان، وتوقفت الأحاديث.
“يا إلهي، آنسة يوري!”
“كنا نسمع أخبارًا فقط، لم نصدق أنكِ بخير فعلًا! يا للمفاجأة!”
ثم ما لبثت القاعة أن ضجّت مجددًا بالأصوات والهمهمات.
ا
ندمجت بين الحضور الذين استقبلوني بحفاوة، ومع مرور اللحظات، رفعت نظري قليلًا…
فالتقت عيناي بعيني سيدريك، الذي كان يحدق بي من الجدار المقابل بعينين متسعتين مذهولتين، وكأنه لا يصدق ما يرى.
“……”
لوّحت له بيدي بتحية خفيفة بدلًا من الانحناء، لكنه ظلّ متجمّدًا في مكانه، لم يردّ أو يتفاعل.
همم…
سحبت يدي بارتباك.
“آنسة يوري.”
ناداني إيان الذي كان قد حجز مكانًا بين مجموعة من الحضور.
“سموك.”
“سمعت أنكِ بخير، لكن رؤيتكِ أمامي فعلًا… تمنحني طمأنينة لا توصف.”
“شكرًا على اهتمامك، سموّك.”
“هل تعانين من أي إصابات؟”
“أنا متعافية بما يكفي لحضور مأدبة رسمية.”
ابتسمت وأنا أرفع كتفيَّ بخفة، لكن إيان اكتفى بابتسامة صامتة.
ثم أشار لي بأن أقترب قليلًا.
هل سحرني وسامته؟ اقتربت منه دون أن أشعر، فمال برأسه إلى أذني، وهمس.
“حقًا، من الصعب تصديق أنكِ تعافيتِ تمامًا… هل يمكنكِ إثبات ذلك بطريقة أخرى؟”
“…عفوًا؟”
بأي طريقة؟
رددت عليه دون تفكير.
“لم تبقَ حتى كدمة واحدة… هل أخلع ملابسي لأريك؟”
“……”
يا إلهي.
بسبب تهاون عقلي اللحظي، قلتُ شيئًا لا يليق بسيدة مثلي.
“آنسة يوري…”
“أعني… لم أقصدها بهذا المعنى…”
“حقًا، أنتِ بارعة في إخافة الناس.”
هل أنا من شعرت بالإحراج، أم أن وجنتي إيان قد احمرّتا قليلًا؟
“أعتذر. سأنتبه في المستقبل.”
“لا… على الأقل أمامي فقط…”
لكن قبل أن يتم عبارته، عمّ القاعة صوتٌ مفاجئ.
“أوه! أليس ذاك هو سموّ الارشيدوق روين؟”
ماذا؟!
شهقت وأدرت رأسي فورًا نحو مدخل قاعة الاستقبال.
“!”
وحين فعلت، اصطدمت عيناي مباشرة بنظرة ذات بريق قرمزي.
التعليقات لهذا الفصل " 73"