…كم من الوقت مرّ؟
“…هاه!”
استنشقتُ الهواء دفعةً واحدة، ثم فتحت عينيّ فجأة واستيقظت من النوم.
نهضتُ على عجل وألقيت نظرة سريعة حولي، فوجدت الستائر الشفافة البيضاء تتمايل برقة من مظلة السرير ذو الأعمدة الأربعة.
كان المكان مألوفًا… إنها غرفة نومي… تفحّصتُ جسدي فوجدت أنني أرتدي ثوب النوم.
ما الذي حدث…؟
راودني شعور بالارتباك، وكأن ذهني تشوّش للحظة.
أذكر أن وحشًا ظهر أثناء نزهة القارب…
قُتل الوحش، ثم سقطنا من الجرف…
رويدًا رويدًا بدأتُ أسترجع التفاصيل، وكان أول ما تبادر لذهني بوضوح، كما لو طُبع بداخلي، الجزء العلوي العاري من جسد الدوق.
لا! لا! استفيقي!
ثم… ماذا حدث بعد ذلك؟ حصلت عملية التطهير… ثم…
…ثم بدأ الدوق يتصرف بغرابة.
وما إن وصلت بذاكرتي إلى تلك النقطة، حتى أمسكت وجهي المحمّر وصرخت داخليًا في صمت.
ليس هذا! ماذا حدث بعد ذلك؟!
يا لسوء الحظ… لا أتذكر ما حدث بعدها إطلاقًا.
“ما الذي جرى بحق السماء…؟”
ها أنا الآن مستلقية فوق سريري، نظيفة، دافئة، دون أن أشعر بأدنى خلل في جسدي…
لكنّ الفجوة الهائلة بين آخر ما أتذكره وبين واقعي الآن، جعلت القلق لا يفارقني.
“…”
نظرتُ إلى راحة يدي، ففاضت بي الذكريات.
قبضة كبيرة أمسكت بمعصمي، ونفس ساخن استقر على كفي، وعيون حمراء وامضة تأملتني بينما كنت أتكئ على صدره…
إن كان لي أن أصفه… فربما كان… فاتنًا؟
ابتلعت ريقي لا إراديًا، ثم عدت إلى رشدي بسرعة.
لا، لا! تمالكِي نفسك! فاتن؟! لا تنخدعي بمغريات الجمال!
ذلك الرجل هو البطل الأخير! وإن لم أكن حذرة، فسأُسحب وسط العاصفة وأهلك!
“…آنستي؟”
“آه… نعم؟”
“يا إلهي، آنستي! لقد استيقظتِ!”
“آه…”
ربما كانت قد غفت أثناء عنايتها بي، نهضت الخادمة من الكرسي بسرعة واقتربت مني.
“هل تشعرين بتحسن؟ أأحضر لك بعض الماء؟”
“أوه، نعم… أرجوكِ.”
“فورًا، آنستي.”
راقبتُ بحركة بطيئة كيف تحرّكت مسرعة وهي تضع شالًا على كتفيها.
صحيح… كانت هي مَن تتولى قيادة الخادمات في جناحي.
وفي اللحظة التالية، كان كوب ماء فاتر في يدي.
“…شكرًا لكِ، إينا.”
“لا داعي للشكر، آنستي.”
قالت ذلك وهي تبتسم، رغم أنها لم تستطع إخفاء قلقها.
“انتظري هنا قليلًا، سأستدعي الطبيب.”
“لا حاجة لذلك…”
“لكن الدوق أمرنا أن نُبلغه فور استيقاظك، وأن نُحضر الطبيب على الفور.”
“…”
أهكذا قال أبي؟
طالما والدي أمر بذلك، فلا مهرب…
أخذتُ رشفة ماء صغيرة. وبعد قليل…
“يوري!”
فُتح باب الغرفة بقوة، ودخل والدي.
ولم يكن وحده.
“لقد استعدتِ وعيك؟!”
…وكذلك كان كاليكس.
ألم ينم هذا أيضًا…؟
بقيت أنظر إليهما بذهول بينما اقتربا مني بخطوات واسعة.
“يبدو أنكِ ما زلتِ متعبة.”
“…عذرًا؟”
“أين الطبيب بحق الجحيم؟!”
“إنه في طريقه، سيدي الدوق.”
“أبطأ حتى منّا…!”
أجاب كبير الخدم بهدوء، لكن كاليكس تمتم غاضبًا.
“يوري، هل أنتِ بخير؟” سألني والدي.
أومأت برأسي بسرعة.
“نعم، لا بأس.”
رغم أن جسدي كله كان يؤلمني وكأنني تعرضت للضرب، لكن إن قلت الحقيقة سيجن جنونهم لذا تظاهرت بالتماسك.
“سيدي، الطبيب وصل!”
“دعه يدخل فورًا!”
هرع الطبيب إليّ وهو بالكاد يرتدي نظارته.
“آنستي، هل تشعرين بتحسن؟”
“عمومًا نعم… بالنظر إلى أنني سقطت من على جرف…”
“دعيني أقيس حرارتكِ قليلًا… مم، هناك بعض السخونة.”
حقًا؟ تحسستُ جبيني بذهول،
بينما تنهد كاليكس وقال:
“هي من النوع الذي لا يدرك حتى أنها مريضة، فلتقم بالعلاج جيدًا.”
“أمرُكم….. آنستي يُفضل أن تتناولي جرعة إضافية من جرعة الشفاء.”
أخذت الزجاجة من يده وشربت ما بداخلها دفعة واحدة.
“آخ…”
عقدت حاجبي من الطعم، فسارعت إينا بتقديم كوب ماء آخر.
“شكرًا.”
فحصني الطبيب قليلًا، ثم قال أخيرًا:
“لحسن الحظ، لا توجد إصابات خارجية، والوعي عاد بشكل واضح، لذا لا داعي للقلق.”
“حقًا؟”
“نعم. هناك بعض الكدمات الخفيفة فقط… وبالنظر إلى سقوطك من ذلك العلو، فهذا أشبه بالمعجزة.”
ربما كان الدوق قد فعل شيئًا عبقريًا أثناء سقوطنا معًا، فكرتُ في نفسي.
“بما أنكِ تناولت جرعة الشفاء، فستتعافين تمامًا خلال يوم أو يومين من الراحة.”
“مم.”
ورغم تشخيصه المطمئن، إلا أن ملامح أبي وكاليكس بقيت متجهمة.
قال كاليكس بنبرة حادة:
“هل يوم أو يومان كافيان حقًا؟ بعد ما مرت به، وسقوطها من ذلك الارتفاع؟”
“لعلنا نقول إنها العناية الإلهية…؟”
كلام الطبيب لم يُرضِ كاليكس، الذي ازدادت ملامحه عبوسًا.
“أنا حقًا بخير…”
تنهد أبي ثم قال للطبيب:
“يمكنك الانصراف الآن، دعها تستريح.”
“كما تأمر، سيدي.”
وما إن خرج الطبيب، حتى تحوّلت نيران كاليكس تجاهي.
“حقًا، يا أختي…!”
“ماذا فعلتُ الآن؟”
رمشتُ بدهشة. لم أفعل شيئًا يستحق اللوم. لم أكن أنا من استدعى الوحش إلى البحيرة، ولا كنت السبب في كل ما حصل!
نظرت إليه بنظرة بريئة، فتجنب نظري فجأة وقال “أووه…”
لا يجد ما يقوله، ها؟
ربحتُ هذه الجولة.
بينما كنت أشعر بنصر صغير، قال أبي:
“من الأفضل أن ترتاحي الآن. لقد تأخر الوقت…”
“نعم، أبي.”
فما إن رددت بسرعة، حتى نظر إليّ مليًا، ثم…
“؟”
أعادني برفق إلى السرير، وغطاني باللحاف بنفسه.
ربّت على اللحاف بيده مرتين كأنما يُطمئنني.
“…نامي.”
وكأنّه يقول ضمنيًا: لا تفتحي فمك مجددًا.
“حسنًا.”
أجبته مطيعة، فهز رأسه واصطحب كاليكس معه للخروج.
رفعتُ يدي من تحت اللحاف ولوّحت لكاليكس، كإشارة صامتة: اخرج بسرعة.
لكنه فوجئ وأربكته حركتي، فتلعثم وكأنه أراد الرد بالمثل، لكن لم يعرف كيف.
“ما الذي تفعله؟”
“لا… لا شيء.”
وفي النهاية، أنزل يده وتبع أبي للخارج.
“…”
أظنّه بدا لطيفًا لتوّه…
وكانت تلك أول مرة أشعر فيها بهذا الشعور.
*****
في اليوم التالي….
استيقظت من النوم وأنا أشعر بشيء من
التوعّك.
“هممم، حالتي ليست كما هي عادةً…”
رغم أني تناولت الجرعة وتعافيت من الإصابة، إلا أن آثار الصدمة ما زالت عالقة في جسدي وكأنها لم تغادره تمامًا.
“يبدو أنني سأضطر لالتزام الحذر لبضعة أيام…”
على أية حال….يا تُرى كيف حال زوجة أبي الآن؟
بعد الحادثة في المعبد، والخراب الذي لحق برحلة القارب، لن يكون من الغريب إن بدأ الناس يتناقلون أن هناك لعنة تلاحق حفلات دوقة لوزانهير.
“هل يعقل أنها طريحة الفراش الآن؟”
كنت أشعر ببعض الفضول حول حالتها، لكن ليس إلى درجة أن أذهب لزيارتها بنفسي.
“إذًا، ما الذي يمكنني فعله اليوم…؟”
لم تمضِ سوى لحظة على قراري بأخذ قسط من الراحة، حتى بدأت أشعر بالضيق لمجرد بقائي ممددة في السرير.
الطقس يبدو جميلًا على غير العادة… ربما أرغب بالخروج قليلًا…
“ما الذي تفعلينه؟”
“…!”
فزعت والتفتّ خلفي، لأجد كاليكس يتكئ بلا مبالاة على باب غرفتي المفتوح.
وراءه كانت إينا تصرخ:
“سيدي الصغير! لا ينبغي لك فتح باب غرفة النوم بهذه الطريقة!”
لكن يبدو أن صوتهــا لم يصل إليه.
“لا تقولي لي أنك تفكرين ببدء يومك بنشاط كالعادة؟”
“مستحيل، كيف لي أن أفكر بشيء كهذا؟”
يبدو أن هذا الفتى يملك حدسًا حادًا.
“…مشبوه.”
“حاول أن تُنمّي بداخلك شيئًا من الثقة بالناس، سيكون ذلك نافعًا لك.”
تنهد كاليكس دون أن يعلّق.
“…كيف حالك الآن؟”
“ألا ترى بنفسك؟”
“أي أن حالك سيئة جدًا، صحيح؟”
“كنت أعني أنني بخير…”
لكن من نظراته، كان كاليكس يرسل إشاراتٍ صامتة تُنذرني بعدم مغادرة السرير اليوم.
لكن… أنا بطبعي عنيدة جداً. إن شعرت أن الطرف الآخر يصر على شيء، أجد نفسي أريد فعل العكس تمامًا !!
“شكرًا لقدومك. في الحقيقة، كنت على وشك النهوض للتو.”
“ستنهضين؟”
“لا يمكنني قضاء اليوم كاملًا ممددة هنا، صحيح؟ الطبيب لم يوصِ براحة تامة على أي حال.”
وبقصدٍ واضح، أبعدت الغطاء ونهضت من السرير.
“أنا ما زلت بملابس النوم، لذا… هل تبتعد قليلًا؟”
“أه… عذرًا!”
احمرّ وجه كاليكس قليلًا وأغلق الباب على عجل.
“إينا.”
“نعم، آنستي.”
ساعدتني إينا بسرعة على ارتداء فستان بسيط للخروج.
عندما خرجت إلى الصالة، كان كاليكس جالسًا على الأريكة بوضعية متيبّسة. جلست أمامه بسلاسة وسألته:
“ما الذي جاء بك فجأة؟”
“…أتيت فقط لأتفقد حالك.”
“كما ترى، أنا في أتمّ الصحة.”
“…”
رمقني بنظرة مليئة بالتردد والتفكير، ثم فجأة قال:
“أنا آسف.”
“هاه؟ لماذا؟”
“بالأمس…”
عضّ كاليكس على شفتيه وكأنه يستعد للاعتراف بخطأ جسيم:
“لقد تأخرت في إرسال فرقة التتبّع.”
“؟”
“والدتي كانت مرهقة جدًا، وكان وجودي بجانبها ضروريًا… المكان كان فوضويًا، لذا تأخرنا في إرسال الملاحقين…”
“حقًا؟”
الآن بعد أن أفكر في الأمر… لا أذكر شيئًا عن تفاصيل عودتي.
التعليقات لهذا الفصل " 69"