…شعرتُ بألمٍ نابضٍ يتسلل إلى جسدي.
في غمرة وعيي المشوش، تأوهت بصوت خافت من شدة الألم وكأن أحدهم قد أبرحني ضربًا في كل جزءٍ مني.
“هل استعدتِ وعيكِ؟”
“أوه…”
أجبرتُ جفنيّ المتثاقلين على الانفتاح، وما إن فتحت عيني حتى…
“صاحب السمو الارشيدوق؟”
“يبدو أنكِ استعدتِ وعيكِ، وجسدكِ سليم كذلك. كنتِ محظوظة، اميرتي.”
تسللت إلى أنفي رائحة دخان خفيف، فرفعت بصري لأراه يُلقي أغصانًا في النار.
“هل تسمعينني، اميرتي؟”
“أسمعك…”
أجبتُ بشرود وأنا أعتدل في جلستي. سقط معطف الارشيدوق، الذي كان يغطي جسدي، برفق إلى جانبي.
“من الجيد أنكِ استيقظتِ. تعالي واجلسي أقرب للنار حتى تدفئي.”
“حاضر…”
أمسكتُ، دون تفكير، بيده التي مدّها نحوي…
وفي تلك اللحظة، حدث ما لم أكن تتوقعه…
<النظام> تحذير! تم رصد “تيار سحر منحرف”.
<النظام> هل ترغب في استخدام طاقة التطهير؟
نعم أو لا.
‘حقًا… لا يترك لي فرصة لالتقاط أنفاسي…’
أجبت في داخلي بفتور.
‘لا.’
<النظام> لن يتم استخدام طاقة التطهير.
“……”
رفعت رأسي بعد أن التقطت أنفاسي، فإذا بنظرات الارشيدوق نحوي تبدو غريبة نوعًا ما.
“جلالتك؟”
“لا شيء…”
أجاب وهو يمرر لسانه ببطء على شفتيه، كأنما يتمتم.
“لا شيء، اميرتي.”
“……؟”
شعرت بقشعريرة تسري في ظهري دون سبب واضح.
أردت تغيير الموضوع بسرعة، فقلت.
“أين… أين نحن الآن؟”
“من يدري.”
أجاب الارشيدوق بلا مبالاة، ثم كسر مجموعة من الأغصان بيديه العاريتين.
“انجرفنا مع التيار… لكن على الأرجح لم نبتعد كثيرًا.”
ثم أخذ يلقي الأغصان المكسورة واحدًا تلو الآخر في النار.
“هل ترغبين في المحاولة، اميرتي؟”
“……”
تناولت غصنًا دون تفكير، فشعرت برطوبة عالقة فيه.
‘حطب رطب… إشعاله لا بد أن ينتج دخانًا كثيفًا.’
وبالفعل، تصاعد دخان خانق كثيف مع احتراق الأغصان، وراح يتصاعد نحو السماء التي بدأ يغمرها وهج الغروب.
نظرت إلى الدخان المتصاعد وهمست.
“أنت… ترسل إشارة، أليس كذلك؟”
“أصبتِ.”
أجاب بهدوء، ثم ألقى ما تبقى من الأغصان دفعة واحدة في النار.
“هناك احتمالان، أحدهما متفائل، والآخر متشائم. أيهما ترغبين أن أبدأ به؟”
“أخبرني بكليهما.”
“المتفائل أولًا: لقد نجونا، ولسنا بعيدين جدًا، وبما أننا نرسل إشارة، فسيعثر علينا الناس قريبًا.”
“وماذا عن المتشائم؟”
“إذا ظهر مخلوق بهذا الحجم من خلال شق في الواقع… فإن المنطقة المحيطة تصبح غير مستقرة. وهذا يعني أن هناك احتمالًا كبيرًا بظهور المزيد من الوحوش في الجوار.”
“مجدداً؟”
سألتُ وأنا أرتجف قليلاً متذكرةً الأفعى المائية، فبادر الارشيدوق بتهدئتي قائلاً.
“لا بأس، لا بأس. وإن حدث شيء، يمكننا قتله فحسب. في الحقيقة، لا يمكن اعتبار الوضع متشائمًا تمامًا.”
“يا له من… طمأنة بالفعل.”
تنهدت بعمق وهممت بإعادة سترته إليه، لكنه لوّح بيده رافضًا.
“احتفظي بها. سيكون الحفاظ على حالتكِ أصعب منكِ عليّ.”
“إن كان الأمر كذلك… فلن أرفض.”
تمتمت وأنا أعيد سترته إلى كتفي. كانت رطبة بعض الشيء، لكنها تحمي من الرياح، وذلك أفضل من لا شيء.
“شكراً لك، سمو الارشيدوق.”
“حقاً؟”
“عفوا؟”
نظراته كانت تلمع كما لو أنه نسر انقضّ على فريسة.
“أسألكِ، هل أنتِ ممتنة حقًا؟”
“أعني…”
بلعت ريقي بتوتر.
“أنا ممتنة لأنك أنقذت حياتي… لكن لا أدري، أشعر أنه من غير الحكمة أن أجيب على سؤالك ببساطة.”
“هاها، حتى هذا جواب صحيح.”
ضحك بخفة، ثم انحنى نحوي بطريقة ذات مغزى.
“صاحب السمو…”
“إن كنتِ ممتنة، أجيبي على سؤالي.”
همس بصوته المنخفض الخافت الذي بدا وكأنه يحمل شيئًا دفينًا.
“ما حقيقتكِ، اميرتي؟”
“أنا؟”
“نعم.”
“أنا يوري إلروز من دوقية روزانهير…”
“لا، لا أقصد بياناتكِ الشخصية.”
لوّح بيده نافيًا. فبلعت ريقي بقلق.
‘هل يعقل؟ لا، مستحيل… هل أدرك أنني دخلت إلى عالم لعبة؟’
بينما كنت مشدودة الأعصاب، قال الارشيدوق.
“أحيانًا تفوح منكِ رائحة غريبة للغاية.”
“ر، رائحة؟!”
ما الذي يقصده؟
“أنا أستحم بانتظام…!”
تمتمت بشرود، فضحك بخفة قائلاً.
“لم أقصد ذلك. لكن من رد فعلكِ، يبدو أنكِ لا تلاحظين شيئًا على الإطلاق.”
“……”
ليس فقط أنني لا ألاحظ شيئًا، بل إنها أول مرة أسمع بأن لي “رائحة مميزة”.
رفعت يدي إلى أنفي وشممتها بخفة، فلم أشتم سوى رائحة ماء خفيف، بلا شيء مزعج.
لكن في تلك اللحظة…
صوت خشن كأن شيئًا معدنيًا يُكشط بعنف.
“هذا الصوت…!”
“يا للغرابة، هل كلامنا استُدعي به هذا؟”
تناول الارشيدوق سيفه الذي كان مسنودًا إلى شجرة قريبة.
أمام أعيننا، بدأ شرخ في الهواء يتسع ويبتلع كل شيء في سواده.
“إنها تتشقق بسرعة!”
“ألم أخبركِ أن هذه المنطقة غير مستقرة؟”
قال ذلك وهو يضعني خلف ظهره ليحميني.
…
وفجأة، سُمِع صوت ارتطام ثقيل، وظهر الوحش.
…كومة طين؟
كانت يدًا تقطر منها مادة طينية غليظة ذات رائحة كريهة للغاية.
“إنه وحش سلاغ.”
“أوه…”
وأخيرًا، زحف كائن ضخم يشبه الحلزون الضخم المغطى بالطين من الشق، كأن الجحيم نفسه لفظه أمامنا!
استلّ الارشيدوق سيفه بصرير واضح.
“لا داعي للخوف.”
وفي اللحظة نفسها، ظهرت أمامي نافذة رسالة من النظام.
<النظام> تحذير! تم رصد “الطاقة السحرية الملتوية”.
<النظام> هل ترغبين في استخدام قدرة التطهير؟ نعم أو لا.
ماذا أفعل الآن؟
كان الوحش هذا أضعف من الأفعى المائية السابقة، لذا ربما أستطيع استخدام قوة التطهير دون مشكلة…
لكن فكرة أن يراني الدوق أثناء استخدامها جعلتني أشعر بعدم ارتياح غريب.
وبينما كنت أتردد للحظات فقط—
…!
اعتدل الوحش فجأة كأنما سيهجم علينا مباشرة!
“آه…!”
الرائحة الكريهة والطاقة السوداء الغامضة كانت خانقة جداً لدرجة أنني تراجعت دون وعي.
وفجأة—
اخترق سيف الارشيدوق رأس الوحش بدقة مذهلة.
“أوه…!”
انفجرت منه مادة لزجة ومقززة، أشد كثافة من الدم، وبرائحة أسوأ بكثير.
لم يصبني منها إلا بضع قطرات، أما الدوق، فقد غطّته تقريباً بالكامل.
اهتز جسد الوحش قليلاً، ثم سقط ميتًا على الأرض.
وحين لامس السائل الأرض، بدأت التربة تتآكل ويتحول لونها إلى السواد.
“هل أنت بخير؟”
“هاه…”
عبس الارشيدوق بينما أزاح خصلات شعره الذهبي المبلل إلى الخلف. كان السائل يسيل على بشرته البيضاء، يقطر منها.
لحسن الحظ، لم تظهر أي علامات حروق أو أعراض غريبة على جلده.
“لهذا السبب أكره قتل هذه الأنواع…”
كان قميصه مبلل تمامًا بذلك السائل الكريه وقد تحول إلى كتلة سوداء مشوهة.
زفر بامتعاض وهو ينقر لسانه بضيق، ثم أمسك بالقميص ومزقه من على جسده بنفاد صبر.
—هاه؟!
لم أجد فرصة حتى لأشيح بنظري، فوجدت نفسي وجهاً لوجه أمام جسده العاري.
لم يكن ذلك جسد إنسان عادي، بل بدا وكأنه نُحت من حجر، مكسو بالعضلات المشدودة، وكأن كل جزء فيه صُمم بدقة لا تُصدق.
لكن لم يخطر ببالي أن الأمر مبالغ فيه.
هيئته كانت طويلة وضخمة في الأصل، حتى أن عضلاته البارزة بدت مشدودة بشكل متناسق، لا ضخمة بشكل منفّر.
جسده كان يخطف الأنظار فعلاً، لكن لم يكن لدي وقت للتحديق أو الانبهار—
فقد رفع ذراعه العضلية المتورمة بالأوردة، ثم قام بلعق ظهر يده بلسانه!
ما الذي يفعله بحق السماء؟!
“يا صاحب السمو!”
صرخت بحدّة من شدّة الذهول، لكن الارشيدوق اكتفى بهز كتفيه متحدثًا بنبرة عابرة.
“طعمه سيئ.”
“وهل هذا مفاجئ؟!”
أي نوع من التفكير يجعله يخطر له لعق السائل المقرف الذي تساقط من جسد مخلوق شيطاني؟
“لا تبالغي.”
قال ذلك وهو يضحك لنفسه، ثم خلع قميصه الملوّث ورماه أرضًا، متجاوزًا إياي بخفة.
“يبدو أنني بحاجة للاستحمام.”
“تفضل، اذهب…”
ضاقت عيناه فجأة، وكأن ما قلته لم يعجبه.
“أنتِ أيضًا ستأتين، يا آنستي.”
“ماذا؟!”
“هل ستبقين هنا لتقابلي وحشًا آخر؟ لا أظن أن ذلك خيار يستحق التجربة.”
“صحيح… لكن…”
“لا تقلقي، مجرى الماء ليس بعيدًا.”
“على الأقل، خذ هذا…”
ناولته سترتي مترددة، لكنه سخر منها بابتسامة جانبية.
“أعطني إياها بعد أن أنتهي من الغسل.”
“آه، صحيح…”
“هيا، اتبعيني.”
لم يكن أمامي خيار سوى اللحاق به بينما كان يتقدمني بثبات نحو الماء.
***
على ما يبدو، نُجينا لأن التيار جرفنا إلى هذا المكان.
لحسن الحظ، لم نبتعد كثيرًا عن موقع سقوطنا.
الصخرة التي سقطنا منها لا تزال قريبة…
وبينما كنت أتفحص المنطقة بعينيّ، كان الدوق قد دخل الماء بالفعل، متقدّمًا حتى وصل إلى مستوى خصره.
غرف الماء بكفيه وغسل وجهه أولاً، ثم دفع شعره إلى الخلف بيده.
“هاه…”
كانت قطرات الماء تتسلل بين الندوب الكثيرة، الكبيرة والصغيرة، التي تغطي جسده العضلي قبل أن تسيل على بشرته.
حدّقت به لوهلة دون إدراك… ثم تنبهت فجأة لما كنت أفعله.
لا يجب أن أنظر!
استدرت بسرعة، وسمعت ضحكته الخفيفة من خلفي.
“ألا تريدين الانضمام إلي؟”
“ماذا؟ لا، شكرًا!”
“رأيت أن ملابسكِ ملطخة بالدم سابقًا. رائحتها كريهة، من الأفضل أن تغسليها.”
“سأفعل ذلك بعد أن تنتهي أنت.”
“لسنا بحاجة لكل هذا التحفّظ.”
“بل نحن بحاجة.”
أجبت بصرامة، فضحك مرة أخرى.
ثم ساد الصمت، ولم يعد يُسمع سوى صوت الماء وهو يغسل جسده.
هذا أيضًا… محرج نوعًا ما.
وبعد لحظات.
“انتهيت، يا اميرتي.”
“ارتدِ هذا.”
ناولته السترة دون أن أنظر إليه، لكن بدلاً من أن يأخذها فورًا، اقترب مني وقال.
“سأمتنع. جسدي لا يزال مبللًا، ارتداء الملابس الآن سيكون مزعجًا.”
شعره الذهبي الرطب كان يلمع تحت الضوء، وعيناه الحمراوان تتوهجان بنظرة ماكرة.
آه…
رغم أنني رأيت رجالًا عراة من قبل، فإن هذا الرجل تحديدًا وهو بلا قميص…
فيه شيء… مفرط في الإغراء.
حاولت توجيه نظري بعيدًا إلى أي اتجاه آخر، لكن—
“لحظة، يا صاحب السمو.”
“هم؟”
لاحظت أن بشرته بدأت تكتسب لونًا أحمر غريبًا.
“ما الذي يحدث لجلدك؟”
“آه، صحيح. سائل الوحش كان يحتوي على سم.”
“ماذا؟! والآن تخبرني؟!”
“نسيت الأمر.”
تذكرت حينها كيف بدأت الأرض تتآكل حين لامسها سائل الوحش، وابتلعت ريقي بخوف.
كان عليّ أن أنتبه من قبل.
“هل أنت بخير؟”
“لست متأكدًا…”
تمتم بنبرة خافتة متكاسلة.
“أشعر أن قوتي تتسرب من جسدي شيئًا فشيئًا.”
“ماذا؟!”
اقتربت منه بسرعة أتفقد حاله، فلاحظت أن عينيه تغمضان ببطء.
هذا سيء…
“تعال معي، بسرعة.”
ودون وعي، أمسكت بذراعه بإحكام.
التعليقات لهذا الفصل " 67"