***
عند الرصيف، كان الارشيدوق أول من صعد إلى القارب. تبِعه سيدريك بسهولة، عابرًا إلى داخله بخفة.
بينما كنت أراقب حركة القارب يتمايل تحت وقع خطواتهما، واجهت مشكلة غير متوقعة.
‘كيف من المفترض أن أركب هذا…؟’
كنت قلقة من أنني لن أتمكن من الحفاظ على توازني على سطح القارب المتأرجح بهذا الشكل.
وفي اللحظة التي كنت أتردد فيها،
“لا داعي للقلق.”
“إنه أمر بسيط، أميرتي.”
مدّ كلاهما يده نحوي في الوقت ذاته.
“آه…”
وجدت نفسي مترددة، عاجزة عن الإمساك بأي من اليدين بسهولة.
وخلال تلك اللحظة القصيرة من التردد، تبادل سيدريك والارشيدوق نظرات صامتة…
“……”
“……”
لم تكن نظرات عدائية، لكنها في الوقت نفسه لم تحمل أي نية للتنازل من أي منهما.
“……انظروا هناك.”
“يا للمفاجأة، ما هذه اللوحة الظريفة؟”
وكأن الموقف لم يكن محرجًا بما فيه الكفاية، حتى بدأت أنظار الناس تتركّز علينا شيئًا فشيئًا.
‘لا مفر إذًا.’
تنهدتُ بخفة، ثم رفعت يدي وأمسكت بيدي الرجلين معًا.
“!”
“أرجو أن تمسكاني جيدًا.”
“آه، بالطبع.”
“كما تأمرين، آنستي.”
كنت ممسكة بيدي ارشيدوق البلاد وأحد أرفع النبلاء، مشهد لا يُمكن وصفه بأقل من “زهرتين في يديّ”.
‘ومن يجرؤ على قول إنه يحسدني، سألكمه على الفور.’
<النظام> تحذير! تم رصد “طاقة معوجّة”.
<النظام> هل تودين استخدام قوّة التطهير؟ نعم أو لا.
ربما لأنني أمسكت بيد الدوق، ظهرت لي مجددًا نافذة الرسائل المألوفة من النظام. لكنني تجاهلتها ببساطة وهمست في نفسي:
‘لا.’
‘هذا النظام اللعين، لا يفرّق بين وقت ولا مكان!’
غمغمت في سري ساخطًة، ثم اعتمدت على يديهما لأصعد بحذر إلى القارب، واستقرت أماكننا تلقائيًا
الارشيدوق، ثم أنا، ثم سيدريك.
وبدأ القارب في التحرك، مبتعدًا عن الرصيف.
حاولت كسر الصمت المزعج بكلمات خفيفة.
“الطقس… جميل اليوم، أليس كذلك؟”
“همم.”
“…….”
ردّ الارشيدوق بهز كتفيه، بينما اكتفى سيدريك بالتجديف في صمت.
‘ياللحرج… ما الذي عليّ فعله الآن؟ أشعر وكأن حلقي جاف تمامًا.’
لم أجد سوى أن أطلق ضحكة باهتة “هاها…” بينما بدأت قطرات العرق تتسلل إلى جبيني من فرط التوتر.
وفجأة، ناداني سيدريك.
“آنستي.”
“نعم؟”
“الشمس حارقة… من الأفضل أن تستخدمي مظلة.”
“مظلة؟”
نظرت حولي لأجد معظم الشابات قد فتحن مظلاتهن لحماية بشرتهن من الشمس.
ولأني كنت أرغب بشدة في التواري عن الأنظار المتطفّلة، شعرت أن هذه نصيحة في محلها تمامًا، فأسرعت بفتح مظلتي واختبأت تحت ظلها.
لا أعلم إن كان لذلك تأثير فعلي، لكن شعوري النفسي تحسّن على الأقل.
“شكرًا لاهتمامك.”
“لا شكر على واجب.”
لكن بعد هذه الكلمات، انقطع الحديث بيني وبين سيدريك.
سواء كان الارشيدوق أو سيدريك، لو كنتُ وحدي مع أحدهما فقط، لربما استطعت مواصلة الحديث بشكل طبيعي…
لكن لمجرد وجود الآخر، فإن أي حديث أشعر وكأنه مراقب ومحسوب.
‘والأسوأ من ذلك، أنه لا يبدو أن أحدهما ينوي الحديث مع الآخر أصلاً…’
‘سأختنق… حقًا، سأموت من الاختناق.’
وفي تلك اللحظة، ناداني الارشيدوق.
“آنستي.”
“نعم؟”
“سمعتُ مؤخرًا خبراً ما.”
صوته كان ناعسًا وهادئًا، كنسيم المساء المتأخر.
“يقال إنك أظهرتِ قوىً مقدسة في الآونة الأخيرة.”
“كح كح.”
…لكن فحوى كلامه لم يكن مريحًا أبدًا.
بدأتُ بالسعال بشكل مفاجئ، فتظاهر الارشيدوق بالقلق وسألني إن كنت مريضة، لكني لوّحت بيدي نافية، محاوِلة صرف نظره.
‘كنت أعلم أنه سيفتح هذا الموضوع يومًا ما… لكن لم أتوقع أن يدخل فيه بهذه الخفة!’
قبل أن أتمكن من الرد، تحدث سيدريك، الذي كان يجذف بهدوء.
“أعذرني يا صاحب السمو، لكن جلالة الإمبراطور قد أصدر أمرًا بالصمت بشأن هذا الأمر.”
توهّجت عينا الارشيدوق الحمراوان ببرود وهو يردّ.
“هل تظن أنني لا أعلم ذلك، ماركيز إستيفان؟”
“رجاءً، لا تُحرج الآنسة بأسئلة كهذه…”
“هذا ليس من صلاحياتك، ماركيز.”
قاطع الارشيدوق كلام سيدريك بحدة، ثم وجّه إليه سؤالًا كالسهم.
“هل أنت المتحدث باسم الآنسة؟”
“لا، لست كذلك.”
“إذًا… هل أنت على الأقل خطيبها؟”
“صاحب السمو…”
“كما توقعت، لستَ شيئًا يُذكر بالنسبة لها، أليس كذلك؟”
ظهرت التجاعيد بوضوح بين حاجبي سيدريك، كأن صبره بدأ ينفد.
أما أنا، فكنت في غاية الارتباك.
‘ما الذي يحدث؟ لماذا يصعّدان الأمور بهذه السرعة؟!’
“أعني…” حاولت التدخل لتهدئة الوضع، لكن الارشيدوق كان أسرع.
“أقدر غيرتك على الآنسة، ماركيز، لكن المبالغة في حماية من لا تخصك أمرٌ يتعدى حدودك.”
“بل إن تجاوز الحدود هو ما تفعله أنت، صاحب السمو.”
ردّ سيدريك ببرود لا يقل عن حدة خصمه.
“مجرد حديثك عن أمرٍ خضع لأمرٍ إمبراطوري بالكتمان، هو انتهاك لصلاحياتك كأحد التابعين.”
“وهل تعتقد أنني آبه بذلك؟”
أجاب الارشيدوق ببرود قاتل، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ملتوية.
وفي ذروة هذا التوتر…
“!”
اهتز القارب فجأة ومال بقوة نحو جانبٍ واحد.
“ماذا… ما هذا؟!”
نظرتُ حولي بفزع، لأجد دوامات غريبة تتشكل في الماء حولنا.
‘هذا ليس مجرد اضطراب عادي…’
استطعت أن أشعر بها بوضوح…
‘هناك طاقة شيطانية تتصاعد من تلك الدوامة!’
“إنها صدع.”
قال الارشيدوق من خلفي بصوت هادئ كمن يعلن تشخيصًا قاطعًا.
“صدع؟”
“على ما يبدو… صدع قد انفتح في قاع المياه.”
أجبتُ بسرعة، ثم استخدمت سحر الرياح الأساسي من الدائرة الأولى لمحاولة إبعاد القارب عن موضع الخطر.
لكن قوة الرياح لم تكن كافية. كنا بالفعل داخل الدوامة، ولا يبدو أن الهروب سيكون سهلاً على الإطلاق.
“ابقي هادئة، آنستي.”
قال الارشيدوق وهو يضع يده على كتفي ويجلسني في القارب.
‘لدي شعور… إن خرج وحش من هناك…’
!
وفجأة، اندفع شيءٌ مجهول من قلب الدوامة في البحيرة.
“آآاااااه!”
“يا إلهي، ما هذا؟!”
على عكسنا، الذين انشغلنا بالجدال، كان من غادروا المنطقة منذ فترة يصرخون من بعيد.
لكن، في تلك اللحظة، لم يكن ذلك هو المهم.
<النظام> وحش “صدع التشوه” قد ظهر!
وفي النهاية، انكشف جسده بالكامل فوق سطح البحيرة…
‘تنين مائي…’
كان مخلوقًا عملاقًا يشبه أفعى مائية ضخمة.
!
فتح التنين المائي فاه كاشفًا عن أنيابه الحادة.
“تمسكي بحافة القارب واثبتي جسدكِ.”
أمرني الارشيدوق بصوت منخفض. فامتثلتُ سريعًا لأمره.
“آنستي، هل يمكنكِ استخدام نفس السحر السابق لمنع القارب من الغرق؟”
“سـ… سأحاول.”
“جيد.”
هزّ الارشيدوق رأسه ثم صاح بصوت عالٍ.
“ماركيز إستيفان!”
كان سيدريك قد استلّ سيفه بالفعل.
“علينا القضاء عليه قبل أن يخرج كليًّا من الصدع.”
“أعلم.”
تبادلا النظرات، ثم…
قفز سيدريك من مقدمة القارب!
“!”
اهتز القارب بعنف بفعل الارتداد، فاضطررت لاستخدام سحر الرياح مجددًا لحفظ التوازن.
كان سيف سيدريك يشعّ بأورا زرقاء نابضة.
لم تكن مجرد خيوط أورا متبخرة، بل شكلًا مكتملًا — علامة على وصوله إلى رتبة سيد الأورا.
لوّح سيدريك بسيفه أفقياً ليشق جسد التنين إلى نصفين!
صرخ الوحش بألم، وتناثر دمه كالمطر، حتى أن مظلتي تلطخت بالكامل.
عاد سيدريك إلى القارب، فاهتز بقوة.
أطلقتُ المانا بالكامل ووجهت الرياح لتثبيت القارب ومنعه من الغرق.
لحسن الحظ، لم نغرق… لكن.
“لم يتمكن من قطعه بالكامل.”
رغم الألم الذي أصاب الوحش، لم يكن الجرح قاتلًا.
في اللحظة التي خفَض فيها سيدريك جسده استعدادًا لهجمة ثانية…
صرخ الوحش مجددًا ودار جسده بقوة، ثم… ضرب الماء!
القارب اهتزّ بعنف، لكن الأدهى كان ما أعقب ذلك.
“الذيل…”
“لقد خرج بالكامل الآن.”
قال الارشيدوق وهو ينقر بلسانه بضيق.
<النظام> تحذير! تم رصد “تدفق سحر مشوّه”!
هل تود استخدام قوة التطهير؟
نعم أو لا.
ظهرت نافذة النظام المألوفة، ومعها بدأت هالة سوداء كثيفة تحيط بالوحش.
‘يريدونني أن أطهر… هذا الشيء؟!’
كان الوحش يتدفق منه سحرٌ شرير لا يُقارن…
بينما الهالة الذهبية المتصاعدة مني بالكاد تُرى.
“لا! لا!”
<النظام> لم يتم تفعيل قوة التطهير.
عادت الرؤية لطبيعتها، لكن فجأة…
“أنتِ!”
عينا الوحش، الصفراء ذات الحدقة الرأسية، ثبتت عليّ مباشرة!
“!”
“كما توقعت…”
تمتم الارشيدوق من خلفي، لكن صوت الوحش كان يطغى على كل شيء.
ضرب الوحش الماء بذيله الهائل، ليصنع موجة ضخمة باتجاهنا!
سيدريك رفع سيفه مجددًا محاولًا قطع الذيل، لكنه لم يفلح سوى في شقه جزئيًا.
ضُرب سيدريك بقوة وسقط في الماء!
“سيدريك!”
صرختُ بيأس وأنا أراقب الماء يبتلعه…
ثم، بعد لحظات، ظهر وجهه مجددًا وهو يهز رأسه مبتلًا — تنفست الصعداء.
لكن لم نهنأ طويلًا…
“بشر!”
زمجر الوحش مجددًا، متجهًا نحونا.
نقل الارشيدوق موضعه داخل القارب بخفة رغم اهتزازه.
“سأقتلكم!”
“حقًا؟”
كان واضحًا حتى دون النظر… عيناه الحمراء لا بد وأنهما تلمعان بابتسامة متعطشة.
“جرّب إن استطعت.”
زأر الوحش بصرخة أحدثت رجفة في الهواء ذاته.
وفي اللحظة التالية، فتح فمه الضخم متجهًا لابتلاع القارب بأكمله!
“صاحب السمو!”
في تلك اللحظة، انفجر سيف الدوق بأورا حمراء ملتهبة!
“!”
ارتفع شفرة الأورا كجدار ناري شاهق… شق رأس التنين إلى نصفين!
لم يكن هناك وقت للدهشة — فقد ارتطمت جثة الوحش المشطورة بسطح الماء بقوة.
حاولت بكل جهدي أن أوازن القارب، لكن موجة أخرى قادمة من الخلف كانت أقوى مني.
“مـ… ما الذي يحدث؟!”
“اللعنة.”
تمتم الارشيدوق من المقدمة.
“مـ… ماذا هناك؟”
“بينما كان الوحش يهاجم، تسبب في انهيار جزء من الجرف الصخري. والآن… يبدو أن البحيرة تحولت إلى شلال.”
“شـ… شلال؟!”
وأين سيدريك؟
نظرت بسرعة، فرأيت سيدريك متشبثًا بصخرة ضخمة، يكافح للبقاء.
“آنسة إلروز!”
صرخ نحوي ومد يده، لكن قبل أن أتمكن من إمساكها، جرفت المياه القارب بقوة.
سنسقط من الجرف!
“اللعنة، آنستي…!”
صرخة سيدريك بدت كأنها من عالم بعيد… لم أستطع فعل شيء.
وفي تلك اللحظة، طوقني أحدهم بذراع قوية…
“احبسي أنفاسكِ.”
“!”
ثم… انقلب القارب بعنف، وجرفتني المياه المتدفقة مع ذلك الشخص الذي أمسكني بقوة.
وكانت تلك… آخر ذكرياتي.
التعليقات لهذا الفصل " 66"