كانت المكتبة، كما في الأمس، هادئةً وهي تحمل في طياتها دفئًا لطيفًا.
“أوه؟”
لكن… لم يكن هناك أي أثر لـ إيان.
‘لقد قال البارحة إننا سنلتقي مجددًا اليوم…’
يا ترى… هل هو مشغول اليوم؟
قبل لحظات فقط كنت أظن أن رؤيته قد تكون محرجة قليلًا بعد تلك الظنون التي راودتني عنه بالأمس، لكنني، حين لم أجده فعلًا، شعرت ببعض الخيبة.
حسنًا، لا بأس… سأكتفي اليوم بالبحث بهدوء عن المعلومات وحدي.
حييتُ أمناء المكتبة بتحية سريعة، ثم دفعت العربة متجهةً إلى رفوف الكتب التي لم أكمل استكشافها بالأمس.
‘آه… يبدو أن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا اليوم أيضًا.’
لم أنكر أن فكرة فحص ذلك الكم الهائل من الرفوف أمامي كانت مربكة قليلًا، لكن لا مجال للتراجع أو الكسل.
شددتُ عزيمتي، ومددت يدي نحو كتاب يحمل في عنوانه كلمة “المشوه”، تمامًا كما فعلت البارحة، وبدأت التحقيق مجددًا.
… وكم من الوقت مضى منذ ذلك الحين؟
وجدت نفسي وقد أنهيت تقريبًا استكشاف معظم الرفوف.
لا، بل في الحقيقة… القول إنني أنهيت الاستكشاف ليس دقيقًا تمامًا، إذ إنني…
‘استكشفت، نعم… لكنني فشلت في العثور على أي مضمون يبدو ذا صلة بالموضوع.’
هل كان عليّ أن أبحث لا عن “ماريو”، بل عن شيء يخص العائلة الإمبراطورية “كاسيس”؟
‘مثلًا… شيء عن تاريخ التأسيس أو ما شابه…’
وبينما كنت أفكر بذلك، مددت يدي نحو أحد الكتب القليلة المتبقية في الرف العلوي…
حينها، سمعت صوتًا مألوفًا يقول:
“… تحاولين مجددًا الحصول على كتاب من ذلك الارتفاع، أليس كذلك؟”
ارتفع صوت خافت من خلفي، إذ امتدت يد لتستند إلى رفّ الكتب.
“!”
التفتُّ بسرعة من شدة المفاجأة، فإذا بـ إيان يقف هناك، مبتسمًا بابتسامته المعتادة.
“إيان.”
لم يجب، بل مد ذراعه الأخرى نحو الكتاب الذي كنت على وشك إخراجه.
وبذلك، وجدت نفسي محاطةً بين يده اليمنى التي كانت تستند إلى الرف أمامي، وصدره القريب، ويده اليسرى الممتدة نحو الكتاب.
… باختصار، كنت كمن حُوصر بين الرفوف، شبه معانَقة في حضنه.
“أ… أتعلم، إيان…”
ألقيت نظرة سريعة حولي بقلق من أن يرانا أحد أمناء المكتبة، لكن إيان لم يبدُ مستعجلًا، بل أخرج الكتاب بهدوء وسلّمه لي.
“شـ… شكرًا لك.”
“… لا داعي للشكر.”
غير أنه، رغم أنني أمسكت الكتاب بالفعل، لم يُظهر أي نية للتراجع خطوة واحدة.
“إيان؟”
لم يجب. لم أجد أين أنظر، فاكتفيت بالتحديق في يده اليمنى التي ما زالت تستند إلى الرف.
‘ما… ما الأمر؟’
هل أطلب منه أن يبتعد؟ لكن الجو الذي يحيط به بدا غريبًا على غير عادته… وجفّ حلقي قليلًا.
وبينما كنت مترددة في الكلام، شعرت بأنفاسه الدافئة تلامس عنقي بهدوء.
“أتعلم… إيان…”
“تمهلي قليلًا.”
قاطعني بصوت هادئ.
“أيمكننا أن نبقى هكذا للحظة فقط؟”
“ماذا؟”
لماذا… هكذا؟ رمشت عينَي بدهشة، وسمعت ضحكة صغيرة ضعيفة لامست عنقي، فأثارت فيّ إحساسًا بالدفء والحرج في آن واحد.
“إيان، هل حدث لك أمر ما؟”
لم يجب ثانيةً. انتظرت بصبر، إذ شعرت أن دفعه فجأة سيجرح مشاعره، كما أنني لم أرغب في لفت الأنظار وإثارة ضجة داخل المكتبة.
“… يا أميرة.”
ناداني أخيرًا بصوت متكاسل.
“نعم، إيان.”
“أعدكِ… لن أسيء الفهم.”
أدرت رأسي قليلًا فرأيت أنه لا ينظر إليّ، بل إلى نقطة في الفراغ، وكأنه لا يريد أن يلتقي بعينيّ بينما يحيطني بهذه القرب.
“لن تسيء الفهم… وماذا بعد؟”
“أيمكنكُ أن تعانقيني مرة واحدة فقط؟”
أخيرًا نظر إليّ نظرة هادئة، جفونه مثقلة، ورموشه الطويلة منحنية في مسحة حزينة.
لكن، مهما بدت نظرته شجية، كان الأمر في النهاية… طلبًا غريبًا.
“أن أعانقك؟ ماذا تقصد؟”
“أشعر… أن يومي كان ثقيلًا قليلًا.”
كان صوته يخرج ضعيفًا، مما أيقظ في قلبي تعاطفًا صادقًا، ومع ذلك لم يكن من السهل أن أستجيب مباشرة. صحيح أن أحدًا لم يكن يراقبنا، لكننا ما زلنا في مكان عام.
ومع ذلك، بدا أنه عازم على موقفه، ولم يتراجع كما يفعل عادةً.
“نحن على الأقل… أصدقاء، أليس كذلك يا أميرة؟”
“…”
“ألا يُسمح بعناق ودّي بين الأصدقاء؟”
“آه…”
بهذه الطريقة، كان من الصعب أن أقول “لا” بشكل قاطع. لم يكن الموقف خاليًا من الحرج، لكن تجاهل شخص يتحدث إليك بهذه الصراحة، وقد ترك كبرياءه جانبًا، كان أمرًا قاسيًا.
‘صحيح… فكما يقول إيان، يمكن للأصدقاء أن يتعانقوا، أليس كذلك؟’
إذا كان مجرد عناق قصير وربتٍ خفيف، فلن يكون في الأمر بأس…
‘ثم إنه قال بوضوح إنه لن يسيء الفهم.’
وبينما كنت أفكر بذلك، مددت يدي نحوه ببطء…
فجأة—
“!”
“…”
كأن أحدهم قلب رفًّا كاملًا رأسًا على عقب، دوّى الصوت في أرجاء المكتبة.
“ماذا… ما هذا؟”
ارتبكت، وأخذت ألتفت حولي، لكنني لم أستطع رؤية ما يحدث لأنني كنت محاصرة بين إيان والرف.
“… لا أظن أن هناك ما يدعو للقلق.”
ابتعد عني أخيرًا، وفي اللحظة نفسها، دوّى صوت خطوات مسرعة تقترب.
كان القادم أمين المكتبة، وجهه شاحب من الصدمة.
“أعتذر… أعتذر بشدة.”
انحنى بسرعة أمامنا.
“لقد… لقد أخطأت فتداعى الرف… أعني، الكتب سقطت، ثم…”
تلعثم بشدة من شدّة ارتباكه، فتنهد إيان وهزّ رأسه.
“لا داعي للاعتذار، فقط اذهب لترتيب الأمر.”
“آ… حاضر! شكرًا لك، سموّ ولي العهد.”
انصرف أمين المكتبة مسرعًا، فيما مرّر إيان يده بين خصلات شعره، مبتسمًا ابتسامة باهتة، كما لو كان لا يزال يحمل أثر ما حدث في صدره.
هممم…
“سمو ولي العهد إيان، هل أنت بخير حقًّا؟”
لكن فكرة أن أحتضنه الآن، بعد كل ما حصل، لم تكن مناسبة لا من حيث التوقيت ولا من حيث الظرف.
وبينما كان يهمّ بقول شيء ما، إذا بصوت يناديه:
“سمو وليّ العهد! سموك، هل أنت هنا؟”
ارتجفتُ قليلًا وابتعدت عنه، وفي اللحظة نفسها تقريبًا ظهر الشخص الذي كان يبحث عنه.
“إيلرون.”
“
ها أنت هنا! لقد بحثت عنك طويلًا.”
كان في صوت إيان حين أجاب شيء أشبه بالتنهيدة، لكن يبدو أن الرجل الذي وجده لم يلحظ ذلك.
“يجب أن تذهب حالًا، جلالة الإمبراطور يطلب حضورك.”
تشنّج كتفي لا إراديًّا حين سمعت كلمة جلالة الإمبراطور، ونظرت إلى إيان بنظرة فاحصة، وقد تسلّل الشك فجأة إلى قلبي:
‘هل يُعقل…؟’
ربما لإيان علاقة بالإمبراطور وبذلك الوعاء الغامض؟
“يوري…؟ لماذا تنظرين إليّ بتلك الطريقة؟”
تردّدت كلماته وفيها مسحة دهشة.
“لا… لا شيء.”
أشرت بيدي نافية.
“فقط… خطرت لي فكرة فجأة.”
لم يبدُ على وجهه أي تعبير، ثم بعد لحظة ارتسمت ابتسامة وديعة وكأنها رُسمت عليه.
“فهمت.”
“إيان، بخصوص ما حصل قبل قليل…”
“أعتذر، لكن يجب أن أذهب الآن.”
كان واضحًا أنه ليس في وارد الاستماع إلى شروحي، والأسوأ أن ذلك الرجل المسمّى إيلرون بدأ يرمقني بنظرات غير ودّية.
“حسنًا… إذن نكمل لاحقًا.”
“نعم.”
أومأ برأسه بهدوء كما يفعل دائمًا، لكنني شعرت أن تصرّفه أشبه بوجه يرتدي قناعًا في مسرحية.
كان يبتسم، لكنني أدركت في الحال أن تلك لم تكن ابتسامة حقيقية.
“الأمر… أعني، ما حصل كان…”
تراجعت خطوة غريزيًا لأتفادى ضغط تلك الابتسامة، لكنه لم يمنحني مهلة، واقترب خطوة أخرى.
“لماذا تبتعدين؟”
“ماذا؟”
“هل أخفتكِ حين قلت إنني رأيت كل شيء؟”
“ليس الأمر كذلك…”
لم يجب، بل اكتفى بابتسامة مائلة. ومن تلك الابتسامة تأكدت أن ما انهار في المكتبة لم يكن مجرد سقوط كتب، بل انهيار رفٍّ كامل، وأن من ارتكب ذلك ليس سوى هذا الرجل الواقف أمامي.
التعليقات لهذا الفصل " 128"