على الرغم من مواجهتها لتلك النظرة، لم تتراجع إيليني. ارتسمت على وجهها مسحة حزن وهي تهمس:
“لم أكن أعلم أنّ سموك سيتلقّى كلماتي بتلك الطريقة.”
“هاه.”
على غير عادته، كان وجه إيان هو أول من يتجهّم.
لقد شعر بأنّ الرغبة في مواصلة الحديث معه قد انطفأت، إذ بدا أنّ التواصل بينهما ميؤوس منه. لم يعد يحتمل رؤية ذلك المظهر المقيت، ولا أراد أن يضيّع المزيد من الوقت، فآثر الصمت وترك إيليني وشأنها، وغادر مكتبة القصر.
غير أنه كلما ابتعد، ازداد الغضب غلياناً في صدره.
يا للدهشة المقيتة.
فمجرد أن تظن تلك المرأة أنّها تستطيع التفريق بينه وبين يوري ببضع كلمات تافهة، كان بحد ذاته إهانة له.
أيّ ضغينة تحملها ضد أختها التي نشأت معها في منزل واحد؟
تذكّر الشائعات التي تقول إنّ الشقيقتين من أسرة دوق روزانهير كانتا على علاقة طيبة على غير عادة الأخوات غير الشقيقات، بل وإنّ إيليني كانت تُظهر تعلقاً خاصاً بيوري. وما إن خطرت تلك الفكرة بباله، حتى اشتعل غضبه أكثر.
ترى، هل كانت يوري تدرك ما يختبئ خلف ذلك الوجه البريء؟
هل كانت كل تلك السنوات مجرّد مسرحية تُؤدًى لتفريق يوري عن الآخرين وتشويه سمعتها؟
كان وجه إيان قد غلّفه الجليد، إلى درجة أنّ المارّين الذين همّوا بتحيته كوليّ للعهد تراجعوا بخوف.
إذ ما إن أدرك أنّ بجوار يوري شخصاً لا يهدأ له بال إلا بطعنها من الخلف، حتى شعر أنّه لم يعد قادراً على كبح انفعالاته.
كان يشعر بالتوتر والقلق.
ومع ذلك، لم يخطر في باله ولو لوهلة أن يوري ستكون غبية أو مثيرة للشفقة إن كانت تجهل الأمر تماماً، بل على العكس، لم يكن يشعر إلا بالشفقة عليها.
أما إن كانت تعرف الحقيقة، فذلك أيضاً يثير في نفسه إحساساً آخر بالأسى.
لو كان بوسعه، لضمّها إلى صدره وأبقاها في نطاق حمايته، بعيداً عن كل ما يمكن أن يمسّها بسوء.
أراد أن يحميها بحيث لا تنال منها تلك الحيل السخيفة، وأن يجعلها في مأمن من التعامل مع أمثال أولئك الأشخاص الذين لا يستحقون حتى الردّ عليهم.
أرادها أن تعيش في راحة، دون أن تمسها نسمة ريح، وألا تستطيع أبداً الإفلات من دائرة أمانه…
“……”
وفجأة، وجد نفسه قابضاً على يده بقوة، وأسنانه مطبقة بغضب.
ألقى نظرة على قبضته التي برزت عليها العروق الزرقاء، وفكّر:
لماذا أتحمل كل هذا؟
إن كان يملك القوة لفعل ذلك، فهل يُعد خطأً أن يحمي الشخص الذي يريد حمايته؟
حتى لو كان في أعماق تلك الرغبة ميلٌ لاحتوائها وإبقائها ضمن نفوذه…
أليس الفعل ذاته، أي الحماية، أمراً مشروعاً؟
في تلك اللحظة القصيرة، اضطرب بريق عينيه الذهبيتين كما لو أن ريحاً في قلبه قد غيّرت اتجاهها.
***
بعد أن غادر إيان ببرود، بقي وجه إيليني في المكتبة خالياً تماماً من أي تعبير.
كان شاحباً كأنه طُلي بالطباشير، وهي تكاد أن تعضّ شفتيها بعصبية لكنها تماسكت بصعوبة.
“هل هذه طريقتكِ المعتادة في الكلام؟”
“ماذا تعنين؟ لستُ في سنً يجعلني أعجز عن فهم مقصود كلام الآخرين.”
كانت نبرتها ساخرة، ونظراتها مكشوفة تحمل استهزاءً، وتصرفه البارد في تركها والرحيل، كل ذلك…
لم يعجبها البتة.
فأيدريان كاسيس معروف بأنه لطيف ومهذب مع الجميع. لكن أن يلقي بقناعه جانباً لمجرد أنها قالت جملة واحدة، فهذا أمر أهان كبرياءها بشدة، وكأنه يقول: لستِ حتى جديرة بالمجاملة.
أما مع يوري إلروز، فقد أبدى كل ذاك التواضع…
كانت إيليني، بفطنتها، تدرك أن تعامل إيان مع يوري لم يكن تصنعاً، وخصوصاً ما رأته في المكتبة اليوم، فقد بدا حقاً وكأنه يسعى بصدق لترك انطباع جيد لديها.
وفي النهاية، عضّت شفتيها الجميلتين بقوة وهي تتخذ قراراً:
لن أترك الأمر يمرّ هكذا.
لقد قررت أن تردّ له الإهانة مضاعفة.
كانت تتذكر بوضوح كيف أن ملامح إيان تغيرت قليلاً، وتأخر للحظة قبل أن يجيبها، حين ألمحت إلى تقليل شأن علاقته بيوري.
نعم…
هذا يعني أن محاولتها في الوقيعة قد أصابت هدفها. وردة فعله الحادة كانت على الأرجح لأنه لم يستطع إنكار ما قالته.
قررت أن تحتفظ بهذه الملاحظة في ذهنها.
وفوق ذلك…
لم يكن هذا هو المكسب الوحيد الذي خرجت به اليوم.
رمقت بنظرة خاطفة رفوف الكتب التي غادرتها للتو.
السحر المقدس هو أيضاً نوع من السحر، أليس كذلك؟
ثم فكرت في نقطة ضعف السحرة المشتركة:
الاسم الحقيقي.
ورغم أنها لم تكمل بعد بحثها حول كيفية انتزاع قدرة التطهير من يوري…
إلا أن شيئاً واحداً كان واضحاً تماماً:
يجب أن أكتشف اسمها الحقيقي.
فذلك وحده على الأقل سيمكنها من إنهاء سحر يوري تماماً.
***
كانت المسافة بين الجناح الداخلي، حيث تقع مكتبة القصر الإمبراطوري، والجناح الخارجي حيث تنتظر العربة، طويلة نسبياً.
إن تأخرتُ، فقد يسيء كاليكس الظنّ مرة أخرى، لذا يجب أن أعود بسرعة.
وبينما كانت تسرع في خطواتها، بدأت تلمح من بعيد هيئة مألوفة.
أوه؟
أليس ذاك سيدريك؟
وبالصدفة، في اللحظة نفسها، بدا أنه رآها أيضاً، فتوقف لبرهة قبل أن يبدأ بالتوجه نحوها.
“يا سيدي!”
كنت أتقدّم نحوه بسرور حين لمحته، غير أنّي ما إن رأيت ملامح سيدريك حتى اتسعت عيناي دهشة.
وجهه لا يختلف كثيراً عن تعبيره الهادئ المعتاد…
لكن كان في قسماته شيء يوحي باضطراب خفي، أو بقلق لا يريد إظهاره.
قلت بقلق:
“هل حدث أمر ما، يا سيدي؟”
فأجاب باقتضاب:
“لا، ليس هناك شيء.”
غير أنّ نبرته لم تُقنعني، إذ بدا لي أنّ الأمر ليس “لا شيء”.
ترى، هل أتجاهل الأمر وأكتفي بقول: فهمت؟ أم أستدرجه للحديث حتى لو اضطررت للسؤال أكثر؟
وفيما أنا مترددة، قال سيدريك بعد تردد قصير:
“في الحقيقة… أنا في طريقي لأن أخي قد مُنح لقباً نبيلاً.”
“أخاك؟”
إن كان يقصد أخاه، فلا بد أنه ثيودور إستيفان.
ذلك المقامر الطامع في منصب ماركيز إستيفان من دون أن يعرف حده!
رمشت بعيني وسألته بجرأة:
“هل يعقل أن لك أخاً آخر غيره؟”
“لا، ليس كذلك.”
“آه، كما توقعت.”
أومأت برأسي، غير أنني لم أستطع إخفاء دهشتي.
فما الذي فعله ذلك المقامر ليستحق من الإمبراطور لقباً نبيلاً؟
ومن تعبير سيدريك، أدركت أنّه هو نفسه يجهل السبب، وربما يساوره القلق أيضاً.
تسربت إلى ذهني فكرة مزعجة:
أيمكن أن يكون ثيودور قد تسبب في فضيحة ما؟
لكنني لم أجد فائدة من التخمين، فقلت على الفور:
“يا سيدي، من الأفضل أن تذهب سريعاً.”
“حسناً، أستأذن.”
“عُد سالماً.”
“أشكركِ على اهتمامكِ.”
“لا داعي للشكر، اذهب الآن!”
“نعم.”
أومأ برأسه ثم تردد لحظة قبل أن يستدير مبتعداً.
وقفت أنظر إلى ظهره وهو يبتعد، ولا أخفي قلقي:
أتمنى ألّا يكون الأمر خطيراً…
لم يكن بوسعي أن أفعل شيئاً سوى الانتظار، وربما أسأله لاحقاً عمّا جرى.
عُدت إلى المنزل، متأخرة قليلاً، لكن لحسن الحظ لم يكن كالكس ولا إيليني في البيت.
أما أبي، فكان يبدو أنه لم يعد من القصر الإمبراطوري بعد.
جيد، أستطيع إخفاء تأخري اليوم.
“آنستي، لقد عدتِ؟”
التفتُّ على صوت الخادم فيليب، فإذا به يحمل صينية فضية عليها رزم من الرسائل.
سألته:
“وما هذا؟”
فأجاب بتردد:
“دعوات وصلت إلى السيدة الدوقة.”
منذ أن اختارت زوجة أبي الانعزال، أخبرنا الناس أنّها مريضة ولا تستطيع الحضور.
لكن بما أنّها كانت يوماً من أكثر النساء نشاطاً في المجتمع المخملي، فالجميع يواصلون إرسال الدعوات إليها مجاملة، حتى مع علمهم بأنها لن تحضر.
ربما سيتناقص هذا مع الوقت، لكن ليس الآن على ما يبدو.
تنهدت قائلة:
“والدتي ليست في حالة تسمح لها بالرد على هذه الدعوات.”
قال فيليب:
“أجل، ولهذا كنتُ أنوي وضعها في مكتب الدوق.”
كنت أعلم أنّ أبي يتولى معظم شؤون المنزل منذ مرض زوجته، لكنني لم أتوقع أن يشمل ذلك الرد على الدعوات الاجتماعية أيضاً.
“يا فيليب.”
“نعم، آنستي؟”
“هل سيكون هناك أي إشكال لو توليتُ أنا الرد على هذه الدعوات؟”
“لا أظن ذلك.”
ثم أوضح مبتسماً:
“بصفتكِ الابنة الكبرى لعائلة روزانهير، لكِ الحقّ في القيام بمهام الدوقة عند الحاجة. لن تكون هناك مشكلة.”
ابتسمت قائلة:
“هذا ما كنت أظنه. إذن، أحضرها إلى غرفتي.”
“حالاً.”
ثم أضاف وهو يبتسم:
“بهذا يمكن للدوق أن يخلد إلى النوم أبكر بساعة على الأقل اليوم.”
تمتمت بضيق لطيف:
“كان يمكنه أن يترك لي مثل هذه الأمور منذ البداية.”
فأجاب فيليب:
“إنه يفعل ذلك بدافع القلق عليكِ، آنستي.”
“أعلم، لكن لا يمكنني أن أظلّ أتلقى الرعاية وأقف مكتوفة اليدين.”
ثم تابعت بلهجة حاسمة:
“كما قلتَ، أنا الابنة الكبرى لعائلة روزانهير.”
أن أترك عملي لغيري وأستمتع بالراحة ليس من طبعي، بل هو إهمال لواجباتي.
سأحدث أبي في الأمر لاحقاً.
صحيح أنني لا أحب تراكم المسؤوليات، لكن أن يتولى غيري ما ينبغي أن أفعله أنا يثير في نفسي شعوراً غريباً… وربما السبب أنني لم أعتد قط أن يحل أحد مكاني.
التعليقات لهذا الفصل " 126"