شعرت بالارتياح، غير أن إيان رمقني بنظرة طويلة فيها شيء من الغرابة.
“…لمَ تنظر إليّ هكذا؟”
هل عَلِق شيء على وجهي يا تُرى؟
“لا، لا أقصد شيئا خاصًا.”
لوّح بيده نافيًا، فافترضت أنه لا بأس، وبدأت أخلع الخاتم من إصبعي.
إيان لم يكن يحب أن أرتدي الخاتم الذي يخفي هويتي عندما نكون بمفردنا. لم يكن الأمر يزعجني كثيراً، لكنني كنت أعتقد أن من الأفضل أن أراعي الطرف الأكثر حساسية في مثل هذه الحالات.
وفعلاً، ما إن خلعت الخاتم حتى لاحظت أن تعبيرات وجه إيان ارتخت قليلاً بشكل لا يكاد يُرى.
ثم قال:
“يسعدني رؤيتك على هذه الهيئة. لا أستطيع القول إننا لم نلتقِ منذ زمن، لكن…”
“لقد كنت أقيم في مقر الإقامة الملكية طيلة وجودي في جزر كورال.”
كان إيان منشغلاً للغاية فلم نكن نلتقي كثيراً، لكننا كنا نمرّ ببعضنا أحياناً ونلقي التحية، كل يوم تقريباً.
“ومع ذلك، لا شيء يبعث على الراحة مثل اللقاء هنا.”
“…وأنا أيضاً أشعر بذلك.”
بدا وكأنه كان ينوي قول شيء ثم تراجع، فاكتفى بموافقة مقتضبة على كلامي.
بدلاً من أن أضغط عليه بالسؤال، ناولته المستندات التي أنهيت مراجعتها.
“هذه طلبات مشغل روزيتا لهذا الشهر.”
بعد حادثة عودتنا المفاجئة من جزر كورال، بدأت تنتشر في المجتمع الراقي موضة جديدة لم تكن مألوفة من قبل.
كان الناس يتظاهرون وكأن العاصمة أصبحت وجهةً صيفية، فينظمون حفلاتهم الاجتماعية وكأنهم يقضون العطلة فيها.
ولأجل ذلك، يُشاع أن أحد كبار النبلاء حفر حديقة منزله ليُنشئ بحرًا مصغّرًا. وقيل إنه أنفق مبلغًا كبيرًا لاستدعاء ساحر كي يخلق أمواجًا اصطناعية.
لكنني لم أشعر بأي فضول تجاه الأمر. لأن…
‘ومع ذلك، لن يصل إلى مستوى برك الأمواج في حدائق الألعاب المائية الحديثة.’
على أي حال، وبفضل هذا الجو، كان مشغل روزيتا للأزياء يحظى أخيرًا بطفرة مبيعات متأخرة بمناسبة موسم العطل.
“لهذا السبب، فإن حجم الطلب هذا الشهر كبيرٌ نسبيًّا. أغلب الطلبات على أقمشة الموصلين، والشيفون، والدانتيل.”
من بينها، قماش الموصلين المنسوج من خيوط قطنية رفيعة دون تبييض، كان يحتاج إلى جهد كبير للحصول على درجة اللون الأبيض المطلوبة. وكما هو الحال في معظم الأشياء، كلما زادت الجودة ارتفع السعر بشكلٍ خيالي.
قال إيان:
“ظننتُ أننا لن نستفيد من موسم العطلة بما أن إجازة كورال فاجأتنا وانتهت سريعًا.”
“لكن مع عودة الناس فجأة إلى العاصمة، ارتفع الطلب بشكل غير متوقع.”
أومأت برأسي وأنا أقلب صفحة في المستندات.
“على أي حال، يبدو أننا سنتمكن من تصريف أغلب كمية الموصلين التي طلبناها بالجملة من موسول لهذا الموسم.”
“الدفعة الأولى وصلت أمس، ولم يتبقَّ سوى شحنها إلى مشغل روزيتا.”
“وقد تم بالفعل شحن الدفعة الثانية من ميناء موسول.”
“همم…”
“أما بالنسبة لتصميمات الموسم القادم التي تفكر بها السيدة روزيتا، فأعتقد أننا بحاجة للبدء بطلبات لأقمشة القطيفة، والساتان، والتافتا.”
أومأ إيان برأسه، وقد بدا عليه الرضا من سير الأمور، إذ ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة.
‘لكن مع ذلك…’
نظرت إليه من خلف المستندات، أراقب ملامح وجهه بطرف بصري.
‘ملامح خده توحي ببعض الشحوب…’
بدا لي أن حالته الجسدية أو النفسية ليست على ما يرام كالمعتاد.
“…هل لديك ما تود قوله؟”
ربما شعر بنظرتي، فسألني. فأسرعت أنفي ذلك.
“لا، لا شيء. على أية حال، هذا كل شيء بخصوص التقرير الشهري لهذا الشهر.”
قال بلطف:
“لقد بذلتِ جهدًا كبيرًا هذا الشهر أيضًا.”
“لا شيء مقارنة بك، يا سيدي الرئيس.”
قلت ذلك وأنا أبتسم بخفة وأهز كتفيّ عمدًا لأُضفي طابعًا عفويًّا على الحديث.
‘على كل حال، هذا كان كل ما أتيتُ من أجله اليوم.’
‘عادةً ما نبقى ونتحادث قليلًا بعد انتهاء الأعمال…’
أمعنت النظر في وجه إيان الذي بدا متعبًا، وفكرت أن من الأفضل تركه ليرتاح مبكرًا.
“إذن، سأعود الآن.”
“…….”
فجأة، نظر إليّ إيان بصمت طويل.
“…؟”
ما الأمر؟ هل قلتُ شيئًا خطأ؟
ظل ينظر إليّ بتلك الابتسامة الرقيقة قليلاً، ثم سألني:
“أليس لديكِ وقت لتناول فنجان من الشاي قبل أن تذهبي؟”
“آه… في الواقع، لدي وقت.”
ألم يكن يبدو مرهقًا منذ لحظات؟
بمجرد أن أنفيت انشغالي، قال بسرعة:
“إذن فلنفعل.”
ثم نهض وبدأ بتحضير الشاي بنفسه.
‘يا لهذا الرجل.’
رغم أنني معتادة على أن يُحسن ضيافتي في كل مرة، إلا أنني شعرتُ اليوم بشيء من الذنب، وكأنني أستغل شخصًا مرهقًا.
“تفضّلي.”
“شكرًا لك.”
تناولتُ فنجان الشاي منه بكلتا يديّ. كان الشاي أحمر صافياً تفوح منه رائحة البرغموت.
عادةً، يُفضّل إيان الشاي مُرًّا وثقيلاً، على عكسي تمامًا. لذلك، حين كنا نحتسي الشاي معًا، كان يحرص غالبًا على تحضيره بما يوافق ذوقي.
“سأستمتع به، شكرًا.”
أومأ إيان بخفة وهو يرفع فنجانه إلى شفتيه.
“……”
“……”
لكن كما توقعت، لم يكن بحالة جيدة. فرغم أنه هو من دعاني لتناول الشاي، فقد ظل صامتًا بطريقة غريبة.
في النهاية، لم أجد بُدًّا من أن أقطع الصمت قائلة:
“ذا…”
رفع إيان حاجبيه مستفهمًا وكأنه يسألني ما الأمر. فبدأت الحديث بتردّد:
“كان هناك شيء يثير فضولي منذ فترة…”
“تفضّلي، قولي ما تشائين.”
لم أكن متأكدة إن كان الوقت مناسبًا لطرح هذا السؤال اليوم، لكن لم يخطر ببالي شيء آخر أقوله.
“لماذا قررت أن تصبح رئيسًا للقافلة، إيان؟”
“أنا؟”
“نعم.”
فإيان هو ولي عهد إمبراطورية كاسيس، ولا يُحتمل أن يشعر بحاجة مادية.
فلماذا، إذًا، يدير قافلة سرًّا على هذا النحو؟
لقد كان هذا السؤال يؤرقني دائمًا.
“هممم…”
“إن كان من الصعب عليك الإجابة، فلا بأس بتجاهله.”
“لا، ليس الأمر كذلك، فقط لم أتوقّع أن يُطرح عليّ مثل هذا السؤال اليوم.”
“……”
أمعنت النظر في وجهه من خلف فنجان الشاي. ورغم أنه قال إنه لا بأس، لم أستطع طرد الشعور بأنني ربما طرحت سؤالًا يلامس نقطة حساسة.
“السبب الوحيد الذي قد يدفع أحدًا إلى التفكير في إدارة قافلة هو…”
“…لأنك شعرت بالحاجة إلى امتلاك قوة مالية؟”
ابتسم إيان دون أن يردّ، لكنني فهمت من تلك الابتسامة أن إجابتي كانت صحيحة.
ومع أنها كانت إجابة، إلا أنها لم تكن كافية لإرضاء فضولي؛ فإدارة قافلة بغرض كسب المال أمر بديهي في حد ذاته.
“عادةً، لا أقول أكثر من هذا لأي شخص، لكن…”
رفع حاجبيه قليلًا، وشبك أصابعه ووضع يديه على ركبتيه. كانت وضعية دفاعية إلى حدٍّ ما، رغم كلماته.
“بما أنكِ شريكتي في العمل، فسأقول لكِ أكثر بقليل…”
أمال رأسه بخفة، وقد بدت عليه علامات التعب.
“السبب في أنني بحاجة إلى المال، هو أنني أمتلك مؤهلات ولي العهد.”
“آه… وهل هذا يعد مشكلة؟”
“نعم.”
أخذ رشفة من الشاي، ثم تابع:
“لأن ولي العهد المؤهل يمكن أن يتحول – في بعض الأحيان – إلى شخص غير ذي جدوى.”
“……”
…شعرت وكأنني سمعت شيئًا لم يكن ينبغي لي سماعه.
‘إن كان هناك من يستطيع تقييم ما إن كان ولي العهد ذا جدوى أم لا…’
فلا بد أن يكون الإمبراطور نفسه.
وربما لاحظ إيان أنني أدركت مغزى كلامه، إذ ابتسم لي برفق.
“ذا…”
شعرت بجفاف في حلقي، فلم أستطع العثور على كلمات مناسبة للرد.
نظرات إيان لي كانت غريبة؛ لم تكن غضبًا، لكنها لم تكن حيادية أيضًا، وكأنه تفاجأ من ردّة فعلي.
“على أية حال، لن أخوض أكثر من هذا.”
“……”
“فأنا واثق من أنكِ فهمتِ، أليس كذلك؟ فأنتِ ذكية.”
“……”
لم أستطع إنكار ذلك.
وحين ضممت شفتيّ ولم أرد، ضحك إيان ضحكة خافتة، بدت باهتة على نحو ما.
“لا تقلقي، يا آنستي. لن أتحدث في الأمر أكثر من ذلك.”
“آه… حسنًا.”
“فنحن لسنا قريبين بالدرجة التي تبرر مثل هذا الحديث، أليس كذلك؟”
قال ذلك بابتسامة، رغم أن كلماته كانت باردة وكأنها تدفعني بعيدًا.
هل كنت أتخيّل فقط، أم أن هناك شيئًا يغلي خلف تلك الابتسامة؟
“ولو أنا…”
خرجت الكلمات من فمي دون أن أشعر:
“إن أنا أردتُ أن أعرف المزيد؟”
عندها، ضيق عينيه قليلًا وابتسم كما لو أنه يفعل ذلك عمدًا:
“إن واصلتِ طرح الأسئلة، فسأعتبر الأمر رغبة في تجاوز الحدود.”
“!؟”
“فماذا ستفعلين حينها؟”
نظرته إليّ كانت تنضح بالمعاني، وكأنها تمتحنني.
‘كأنّه يختبرني… إن تجاوزتُ تلك الحدود التي أشار إليها، فما الذي سيحدث؟’
بلعت ريقي دون وعي، ثم لوحت بيدي سريعًا وتراجعت خطوة إلى الوراء بتلقائية.
“آه، لا، لا! لم أقصد شيئًا من هذا القبيل! لا تقلق!”
“……”
“ليس من اللائق أن اكرر في السؤال إلى هذه الدرجة…”
رغم تلعثمي، لم يُعلّق إيان على كلامي. فقط ردّ بابتسامة غامضة:
“هكذا إذاً…”
“كنتُ واثقًا أنكِ ستكونين حكيمة، يا آنستي.”
“……”
لكن بالنظر إلى أنني سمعتُ ما لا ينبغي سماعه بسبب سؤال لم يكن من المفترض أن أطرحه… فأنا لا أشعر بالحكمة إطلاقًا.
“بما أنكِ طرحتِ سؤالًا، أظن أنه يحق لي أن أطرح واحدًا أيضًا.”
لحسن الحظ، غير إيان الموضوع. فتنفست الصعداء سرًّا، وأومأت بحماسة:
“بالطبع، اسأل ما شئت!”
“عن ذلك الخاتم.”
وأشار بدقة إلى الخاتم الذي كنت قد نزعته ووضعته على ركبتي.
“هذا؟”
أومأ برأسه.
“حين بدلتِ الخاتم أول مرة، لم أُتيح لي الوقت للسؤال… لكن، لماذا قمتِ بتغييره فجأة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 123"