صدر صوتٌ رطبٌ واضحٌ عند انفصال شفتيّ عن شفتيه، ليرتد صدى الصوت عاريًا في أرجاء الحمام الكبير.
كانت إيليني تنظر إلينا بعينين فاغرتين من الصدمة، وقد جمّدت المفاجأة ملامحها تمامًا.
“ذاك…”
كادت الكلمات تفلت مني، لكن قبل أن أتمكن من قول شيء، استدارت إيليني فجأة، ثم هرعت خارج الحمام كغزالة مذعورة.
انتهى أمري.
على عكس وجهي الذي شحب كالجص، تمتم كاميل بهدوء وكأن الأمر لا يعنيه:
“على الأقل، تمتلك بعض البديهة.”
“ما الذي تقوله الآن؟!”
صرخت به، بينما هو يبتسم ببعض الخبث، وكأنه يستمتع بالأمر.
“أعني أن ما بيننا لم ينتهِ بعد.”
“أرجوك! بحق كل شيء! أنزلني حالًا!”
بدأت أضربه براحتَي يدي على كتفيه العريضتين، لكنّه لم يُبدِ سوى ردة فعل متكاسلة وهو يقول:
“آه، آه، كم أنتِ عنيفة…”
وقد كان واضحًا على وجهه أنه مستمتع تمامًا. ثم قال:
“بما أن الأمر بلغ هذا الحد، فلم يتبقَّ سوى أن تتحملي مسؤولية ما فعلتِه بي، يا أميرتي.”
“ماذا قلت؟!”
ما الذي يهذي به هذا الرجل الآن؟
لقد صُدمت لدرجة أنني نسيت حتى أن أطلب منه إنزالي، وواصلت التحديق فيه بذهول.
عندها زم كاميل شفتيه قليلًا وقال بتظاهر بالحزن:
“لا تقولي لي أنكِ قبلتيني ثم تظنين أن بإمكانكِ التهرب من المسؤولية؟”
“هاه؟!”
ما الذي يقصده بحق السماء؟
سألت لا إراديًا وكأنني لم أفهم شيئًا:
“أي مسؤولية هذه لمجرد قبلة واحدة؟!”
وفوق كل ذلك، لماذا تقع المسؤولية عليّ أنا بالضبط؟
كنت أحدق فيه بذهول، حين رمقني كاميل بنظرة جانبية ماكرة وابتسم بعينيه قائلًا:
“بما أنكِ أخذتِ أول قبلة في حياتي، فمن الطبيعي أن تتحملي مسؤوليتها.”
“… ماذا؟”
ما الذي يقوله هذا الرجل؟
رجل يبدو وكأنه أكثر من في الأرض عبثًا وتحررًا، يطلق الآن أكثر العبارات عبثية!
لم أتمالك نفسي، فصرخت:
“كذب!”
عندها ضاقت عيناه قليلًا وهو يقول:
“سيؤذيني هذا، يا أميرتي.”
“أنتَ تقول أشياء لا تصدق!”
“فقط كي أخبركِ، ولكِ أن تستفيدي من المعلومة، أنتِ أيضًا أول من رأى جسدي العاري.”
انهمرت من فمه كلمات الأول مرة هذه إلى درجة شعرت فيها بأن رأسي بدأ يدور.
ومع ذلك، لم يتوقف عن الكلام.
“والآن، بعد أن شاهدت شقيقتكِ الصغيرة قُبلتنا، إن لم تتزوجيني… فكيف تظنين أنها ستراني بعد ذلك؟”
“أعني… هذا…”
“حتى إن لم يكن في قلبكِ لي مكان، فعلى الأقل فكري في شرفي. أليس كذلك؟”
لقد كان يطلق حججًا لا تُحتمل بثقة عجيبة، حتى إنني لم أعد أعلم من أين أبدأ في الرد.
وبينما كنت أفتح فمي وأغلقه دون أن أنطق بشيء، تنهد كاميل تنهيدة عميقة وقال:
“حسنًا. إن كانت تلك رغبتكِ، فسأتنازل.”
“عن ماذا بالضبط…؟”
كنت أرتعد داخليًا، لا أعلم ما القنبلة التالية التي قد تخرج من فمه.
لكن كاميل تحدث بنبرة وكأنه يمنّ عليّ بفضل عظيم:
“أقصد… إن كان من الصعب التفكير في الزواج، فسأرضى بالخطوبة مؤقتًا.”
“… وأين هو التنازل في ذلك بالضبط؟”
فالنتيجة لم تتغير إطلاقًا!
“أها…”
تمتم كاميل بتصنع الحزن:
“إذًا، كنتِ تخططين بالفعل لتذوقي مرة ثم رميي، يا أميرتي…”
أمام هذا السيل الذي لا يتوقف من الوقاحة المازحة، تنهدت تنهيدة طويلة.
“أعلم أنك تستمتع، لكن رجاءً… توقف وأنزلني الآن.”
تأفف كاميل بلسانه قائلًا:
“لا جدوى، لن تنخدعي بسهولة، هاه؟”
هل هذا الرجل جاد فعلًا؟!
فتحت عيني على اتساعهما غاضبة، وعندها فقط قال وهو يضحك:
“حسنًا، حسنًا. فهمت.”
وأخيرًا أنزلني.
بمجرد أن لامست قدماي الأرض، تذكرت إيليني.
يبدو أن كاميل كان يفكر في الأمر ذاته، فقال:
“حتى لو كنتِ تنوين فقط التلاعب بي، فإن شقيقتكِ الصغيرة إن تفوّهت ولو بكلمة عمّا رأته قبل قليل، فسيتوجب عليكِ تحمّل مسؤوليتي فورًا.”
“لن يحدث ذلك، فلا تتوهم.”
“وما الذي يجعلكِ واثقة هكذا؟”
“فقط…”
تظاهرت بالتجاهل، بينما كنت أفكر:
إيليني مهتمة به، على الأقل بدرجة ما.
لذا، لا يمكن أن تكون هي من تمنحني فرصة رسمية للارتباط به.
عبس كاميل وقال متذمرًا:
“أنتِ حقًّا قاسية، يا أميرتي.”
“نعم، نعم. اعتبرني كذلك.”
***
في ذلك الوقت…
ابتعدت إيليني عن الحمام الكبير ومشت مسافة طويلة.
لكن المشهد الذي رأته قبل قليل ظل محفورًا في ذهنها لا يغادره.
‘كيف يمكن أن يحدث ذلك…؟’
تجمد وجهها من الصدمة حتى باتت ملامحه مخيفة.
ك
انت المشاعر السلبية تجاه يوري إلروز تجتاح قلبها كعاصفة عاتية.
ورغم كل شيء، فقد أدركت – نوعًا ما – الموقف من منظور موضوعي.
في ذلك المشهد، من بدا أكثر حماسًا واندفاعًا لم يكن يوري، بل كاميل.
وإن كانت لا تريد الاعتراف بذلك، إلا أنه كان الحقيقة.
أنا التي من نفس مستواها، طردني بجفاء قاسٍ بهذا الشكل…
استرجاع تلك الحقيقة جعل كرامتها تئنُّ من الألم والإهانة.
لم تكن يوري إيلروز شيئًا ذا شأن، ولم تكن تعرف شيئًا، ومع ذلك لم أستطع أن أتقبل حقيقة أنني خسرتُ أمامها.
‘لماذا، بحق السماء؟’
في تلك اللحظة، خطرت على بال إيليني فجأة محادثة كانت قد سمعتها سابقًا في الحديقة بين يوري وكاميل.
لقد قال كاميل بوضوح في ذلك الحين إن قوة التطهير لدى يوري جعلته يتصرف على نحو غريب.
فخمنت إيليني:
‘إذن، هل من الممكن أن سلوك الارشيدوق الغريب هذا… سببه هو قوى يوري إلروز التطهيرية؟’
مقارنةً بافتراض أنه وقع في حبها بشكل ناري في غضون فترة قصيرة، كان هذا التفسير يبدو أكثر منطقية.
عضّت إيليني على شفتيها بخفة.
أصبحت عبئًا حقيقيًا…
حتى وقت قريب، لم تكن تعتبر يوري خصمًا حقيقيًا. بل كانت تراها سهلة يمكن التعامل معها ببساطة.
لكن شيئًا فشيئًا، أصبحت يوري إلروز عائقًا يتكرر في طريقها كل مرة.
حتى والدتها، تلك السيدة القوية، لم تستطع الصمود أمام يوري، وتركت كل شيء خلفها وانهارت.
كلما تذكرت والدتها وهي تتهاوى دون حول ولا قوة، شعرت إيليني بشيء غريب يعصر صدرها.
كانت والدتها في طفولتها تجسيدًا للرهبة والعظمة، وكانت، في كل مرة تفشل فيها إيليني أمام يوري، تعاملها كما لو كانت ستحطمها.
لكنها انهارت بسهولة لم يكن يتخيلها أحد.
“الضعفاء والحمقى فقط هم من يُقصون ويتجاهلهم الجميع. إيليني، لا ترغبي بأن تصبحي واحدة منهم، أليس كذلك؟”
هكذا كانت تردد والدتها دائمًا.
وفي النهاية، أصبحت هي بنفسها ما كانت تحذر منه—ضعيفة ومقصاة.
تعاملت إيليني مع والدتها تمامًا كما تعلمت منها. أي: تجاهلتها.
“كيف يمكنكِ أن تفعلِي بي هذا؟!”
صرخت والدتها باكية، لكن دموع الخاسرين لم تعد تحرّك شيئًا في قلب إيليني.
ومنذ سقوط والدتها، سحب ذلك الشخص ثقته بها بالكامل.
وكان الجانب الجيد الوحيد في ذلك هو أن إيليني استطاعت أن تحلّ مكان والدتها.
ولكنه غير رأيه بعد ذلك…
كيف يمكن أن تنسى قوله إنه من الأفضل أن تبقى يوري إلروز على قيد الحياة لبعض الوقت؟
بما أنه أمر بذلك، فلا يمكن لـ إيليني إيذاؤها.
لكن…
ما أمر به هو الحفاظ على حياتها، فقط حياتها.
إذًا، أليس من المقبول—ربما—التخلص من قوى يوري إلروز التطهيرية التي تغوي كاميل؟
المشكلة هي أنها لا تعرف كيف يمكنها أن تمنع شخصًا ما من استخدام قوى التطهير، أو إن كان ذلك ممكنًا أصلًا.
لكنها فكرت بأن البحث عن طريقة أفضل من الاستسلام دون أي محاولة.
واتخذت قرارها بذلك.
***
في الوقت ذاته…
من دون أن يعرفوا ما الذي يجري في الحمام الكبير، كان الدور العلوي يعجّ بمباراة بلياردو.
في البداية، كانت مجرّد لعبة خفيفة لتزجية الوقت ومناقشة التحركات القادمة.
لكن لم يكن هناك طريقة لمنع الضيوف من الاستمرار في القدوم، وانتهى بهم الأمر باتخاذ قرار بالبقاء في القصر الإمبراطوري الصيفي حتى يحين وقت عودتهم إلى منازلهم.
وبعد اتخاذ القرار، ومع انعدام ما يمكن فعله، استمرّت المباراة، حتى بدأت تكتسب طابعًا جادًّا.
ارتدت الكرة على الطاولة وأصدرت صوتًا رنانًا وهي تنطلق.
كانت ضربة كاليكس.
سارت الكرة على الطاولة في مسار دقيق، وصدمت الكرة الهدف، ثم تدحرجت الكرات الأخرى الواحدة تلو الأخرى إلى أماكنها المحددة على الطاولة.
حصد كاليكس النقاط دفعة واحدة، ثم أمسك بعصا البلياردو بوجه خالٍ من التعبير.
كان الدور التالي على إيان.
“أخي، حظًا موفقًا!”
هتفت سيسيليا وهي تشجع شقيقها.
كانت سيسيليا قد انتقلت هي الأخرى إلى القصر الإمبراطوري حفاظًا على سلامتها بعد أن بقيت في منزل دوقية روزانهير.
لكن رغم تشجيعها، لم تكن حالة إيان جيدة على الإطلاق.
فالجميع هنا كانوا خبراء في مجالاتهم، ومهاراتهم مميزة منذ البداية.
وحين يكون الجميع في مستوى مرتفع، فالفارق غالبًا ما يُصنع بالحالة النفسية أو الأخطاء الصغيرة.
وكانت حالة إيان اليوم بالضبط كذلك.
لم يكن هناك أمر محدد يعكر صفوه، لكنه شعر منذ أيام بثقل غريب في رأسه.
واليوم تحديدًا، كان يشعر بألم كأن عينيه تؤلمانه من الداخل.
وانعكست حالته الصحية المتردية على أدائه.
لكن على عكس كاليكس، أخطأت ضربة إيان الهدف قليلًا.
بدأت الكرات بالارتداد في اتجاهات خاطئة دون أن تصيب الهدف.
“…….”
في العادة، لم يكن ليكترث للأمر.
فخسارة مباراة ترفيهية مثل هذه لم تكن أمرًا جللًا.
لكن بسبب حالته المتدهورة، شعر بالضيق والانزعاج في كل مرة يخطئ فيها.
وفوق ذلك، وبينما كان إيان يحاول التحكم في تعابير وجهه وهو يعيد العصا إلى مكانها، سأله كاليكس:
“هل تواجه صعوبة في التركيز؟”
كانت نبرته تبدو جافة بعض الشيء، وعلى الأقل في أذن إيان، بدت هكذا تمامًا.
فرد بحدة غير متوقعة:
“لستُ ملزمًا بأن أشرح للدوق الشاب كل أمر بسيط.”
“……”
قطب كاليكس حاجبيه في صمت، لكن لحسن الحظ تدخل سيدريك بينهما قائلًا:
التعليقات لهذا الفصل " 118"