كان الطبق الرئيسي في عشاء المساء هو شريحة لحم مشوية بعناية تامة وفقًا لمواصفات كاميل الدقيقة.
حضر الجميع عشاء المساء، باستثناء الأميرة سيسيليا التي كانت تأخذ قسطًا من الراحة.
وبعد أن انتهينا من تناول الطعام، اجتمعنا في قاعة الاستقبال لبعض الوقت لتبادل الحديث.
“لقد مررت بالكثير من الأحداث اليوم… لذا، أرجو أن تعذروني، سأغادر الآن.”
المفاجأة كانت أن إيليني هي من بادرت بمغادرة المجلس أولًا.
جلس كل من كاليكس، وأنا، وكاميل، وإيليا على الأرائك في قاعة الاستقبال. كان أمام كلً منّا كوب من الشاي أُعد وفقًا لذوقه الخاص، أما كاميل فطلب كوبًا من الشوكولاتة الساخنة الكثيفة.
كانت رائحة الشوكولاتة وحدها كفيلة بإثارة وخز في اللسان من شدة حلاوتها، ومع ذلك كان يشربها وكأنها مجرد ماء، فأخذت أتمتم دون وعي:
“يبدو أنك تستمتع بالحلوى أكثر مما توقعت…”
رد بنبرة متسائلة:
“وما الذي لم تتوقعيه بالضبط؟”
قلت بتردد:
“غالبًا ما لا يستسيغ الشباب طعم الأشياء شديدة الحلاوة.”
ابتسم كاميل بسخرية طفيفة وقال:
“من المؤسف أن معظم الرجال لا يملكون لسانًا قادرًا على تذوق روعة نكهة الشوكولاتة الكاملة.”
رشف كاميل من كوب الشوكولاتة مرة أخرى قبل أن يقول:
“لكن أن تفترضي أنني لست بذلك القدر من التذوق الدقيق… فهذا تقدير خاطئ يا أميرة.”
“آه، نعم… لا شك في ذلك.”
يا له من حديث كثير من أجل مجرد حب للحلويات. لم أتمالك نفسي من كبح ضحكة خفيفة تسربت من بين شفتي.
“أظن أن الحديث عن الأذواق قد طال بما يكفي.”
تدخّل إيليا فجأة بصوت بارد.
“أهناك موضوع أهم منه الآن؟”
“……مثلاً، ما إذا كان جلالة الإمبراطور ينوي استدعاء أحد الحاضرين على خلفية هذه الحادثة.”
“ألم نقل سابقًا، كما قال سيد برج السحر، إننا إن أُرهقنا من ذلك فببساطة يمكننا أن نترك الأمر؟”
قال كاميل وهو يبتسم بتسلية، ممسكًا بملعقة شاي فضية يلوّح بها وهو يضعها في فمه.
“لا أدري لِمَ تُعيد فتح حديث قد انتهينا منه.”
“قد يكون من السهل علينا نحن تجاهل الأمر، لكن لا أظن أن ‘تلميذتي’ سيكون بمقدورها التغاضي عن استدعاء من هذا النوع، أليس كذلك؟”
“……لا داعي لقلقك بشأن ذلك، يا سيد البرج.”
تدخل كاليكس بصوته الهادئ البارد:
“روزانهير لن يُسلّم أحد أبنائه استجابةً لأوامر غير مبررة كتلك.”
“يبدو أن الشاب الدوق الصغير واثق بنفسه إلى حد كبير.”
“……”
تغير وجه كاليكس بوضوح عند سماعه كلمة “الشاب”، وقد بدا عليه الاستياء.
“ليست ثقة، بل هي حقيقة واقعة.”
“حسنًا، في جميع الأحوال، إن تمكنت من حماية اللادي فهذا أمر جيد.”
“أليس من البديهي ذلك؟”
قهقه كاليكس بسخرية:
“فهي شقيقتي الكبرى قبل أن تكون الاميرة من آل روزانهير. ولن أتخاذل في واجبي كدوق صغير لحماية أفراد عائلتي، تحت أي ظرف.”
“……”
ضاق بصر كاميل قليلاً وهو يراقبه. وهنا، تدخل إيليا بصوت حازم:
“حتى وإن لم يكن لروزانهير نفوذ كافٍ أمام الإمبراطور، فلن يكون لذلك أهمية. فأنها تلميذتي.”
ارتجف حاجبا كاليكس، وتساءل بشيء من الدهشة:
“……ما الذي تعنيه بكلامك؟”
“أعني أن برج السحر سيحمي شقيقتك، ايها الدوق الصغير. أهذه العبارة البسيطة استعصت على فهمك؟”
‘أوه… مهلاً، ما هذا الجو المتوتر؟’
لم أكن أتوقع منهم حديثًا وديًّا دافئًا، لكنني أيضًا لم أظن أن الأمور ستؤول إلى هذا النوع من الجدال المحتدم.
وبينما بقيت أنا عاجزة عن التدخل، انطلق الثلاثة في جدال جادٍّ لا هوادة فيه.
“أسلوبك في الحديث مستفز يا سيد ماراكش. حتى أنا بدأت أشعر بالإهانة.”
كان كاميل، على ما يبدو، لا يسعى للجدال بقدر ما كان يستمتع بإشعال الفتنة بينهم.
قهقه إيليا ساخرًا:
“إن كان ما يُقال لك يزعجك إلى هذا الحد، فلعلك ضيق الأفق أكثر مما تظن.”
“وبالنظر من جانبي،” قاطعهم كاليكس قائلاً:
“يبدو أن سيد البرج يميل إلى الأسلوب العدواني.”
“ليس عدوانًا بقدر ما هو—”
كيف آلت الأمور إلى هذا الشكل أصلًا؟ دارت عيناي بتعب.
لكن إيليا وكاليكس كانا قد اندمجا في جدالهما إلى الحد الذي أصبحا فيه يتبادلان الانتقاص من بعضهما بلا توقف، بينما كامييل يتدخل بين الحين والآخر لإضافة جملة تزيد الأمور توترًا.
وكأننا أمام تفاحة إيريس الذهبية تمامًا…
بدأت جفوني تثقل مع تصاعد وتيرة هذا الجدال التافه.
أجل… لقد استنزفت اليوم قدرًا كبيرًا من طاقتي التطهيرية.
لم أستخدمها كلها، لكنني اقتربت من الحد الأقصى. لم أكن على وشك الإغماء، لكنني كنت متعبة بما يكفي.
“أظن أنني سأصعد إلى غرفتي الآن.”
“ولهذا السبب بالذات، فإن أسلوب الدوق الصغير هو ما يُفاقم الأزمة!”
“وأسلوبك يا سيد البرج ليس بأفضل منه كثيرًا، على ما أظن.”
انتهى الأمر. مهما قلت، فلن ينصتوا.
تنهدت نهوضًا من مكاني.
ليتشاجروا كما يشاؤون حتى مطلع الفجر، هؤلاء الحمقى…
‘سأصعد وأحظى ببعض الراحة.’
“……”
لوّح لي كاميل بيده وابتسم لي بعينين لامعتين وكأن في الأمر متعة كبيرة، لكن لم أشعر تجاهه بأدنى امتنان.
يا له من رجل صعب المراس.
بصراحة، لم يكن في أي منهم ما يُطمئن.
***
رغم صعودي إلى الغرفة، لم أتمكن من النوم بسهولة من شدة التعب.
فما كان مني إلا أن نهضت وجلست على السرير، مرتديةً رداءً خفيفًا فوق ملابس النوم. عندها، بادرت إينا بالخروج لتجلب لي شاي أعشاب يساعد على النوم العميق.
“؟”
لكن إينا عادت إلى الغرفة ويداها خاليتان.
“أوه؟”
ولم تكن يداها فارغتين فحسب، بل حدقت بي بدهشة بالغة وكأنها رأت شبحًا.
“سيدتي… ما الذي تفعلينه هنا؟”
“أنا؟”
استغربتُ.
“كنتُ أنتظركِ لأنكِ قلتِ إنكِ ستحضرين شايًا يساعد على النوم… أليس كذلك؟”
“لكن الأمر ليس كذلك…”
ثم شرحت إينا ما حدث، وقالت:
“ألم تكوني أنتِ من أرسل ورقة صغيرة إلى سمو الارشيدوق تطلبين فيها لقاءه في الحديقة على انفراد؟”
“ماذا؟”
“نعم، أثناء مروري من قاعة الاستقبال، قال لي سمو الارشيدوق ذلك بنفسه… فظننت أنه صحيح.”
“……”
لم أفعل شيئًا من هذا القبيل. في اللحظة ذاتها، شعرت في داخلي باليقين.
‘إيليني.’
لا يمكن أن يكون أحد غيرها من فعل ذلك.
‘ما الذي تحاول قوله للارشيدوق باسمي؟’
وإن كان ما تريده بالغ الأهمية إلى هذا الحد… فلعل عليّ الاستماع إليه بنفسي.
“……”
“آنستي؟”
“عند التفكير… ربما أكون أنا من أرسل تلك الرسالة.”
وقفت بسرعة.
“سأذهب هناك. إينا، هل يمكنكِ إعداد الشاي كي يكون جاهزًا حين أعود؟”
“آه؟ ن-نعم، بالطبع.”
أجابت إينا وهي لا تزال مشوشة، لكنها أومأت برأسها.
أما أنا، فأعدلت ردائي الذي كنت قد ارتديته على عجل، ثم أخذت معي حجر المانا “صديق الأرواح” الذي استخدمته سابقًا في مهرجان الصيد، وغادرت الغرفة.
‘قالت إن اللقاء سيكون في الحديقة، أليس كذلك؟’
بما أن جزيرة كورال ضيقة المساحة، فلم يكن من الممكن إنشاء حديقة كبيرة حتى في فيلا أحد النبلاء الكبار. فبسبب كثافة المباني، كانت هناك بيوت لا تملك حدائق أصلًا.
إن كانت إيليني قد رتبت لقاءها مع كاميل في الحديقة، فهذا يعني أن التجسس عليهما لن يكون صعبًا.
أوقفت أحد الخدم المارين وسألته عن أقرب طريق إلى الحديقة، ثم اتجهت نحوها.
اقتربت عبر الممر الصغير الممتد في الطابق الأول، وما إن وصلت حتى بدأت أسمع أصواتًا متداخلة.
“……هاه، ليست لديّ أيّ رغبة فيكِ.”
كان صوت كاميل.
“كنت أعلم أن سموك سيقول ذلك.”
أجابت إيليني بصوت واثق وسريع.
“لكن لا بد لك من الاستماع إليّ.”
“وجوابي هو أنني لا أجد أدنى سبب لذلك.”
“أمتأكد من ذلك؟”
“أفهم أنكِ تحاولين إثارة اهتمامي، لكن هذا الأسلوب… مبتذل.”
كان كاميل يستعد للمغادرة، لكن صوت إيليني سبقه فجأة:
“أنا أعلم! أعلم أنك أنت أيضًا… وعاء.”
“……”
توقف كاميل عن السير. وعم الصمت. صمت بارد، استشعرته حتى من هذا البعد.
‘وعاء…؟’
‘ما معنى ذلك أصلًا؟’
لم أفهم ما تقصده، فحبست أنفاسي من غير قصد، وأصغيت بانتباه أشدّ.
“…أملك من الجرأة ما يكفي لأمتدحها، على الأقل.”
اختفت تمامًا تلك النغمة الخفيفة الممزوجة بالابتسامة التي كانت دومًا تميز صوت كاميل.
“لكن… ألم تتعلمي شيئًا؟ من يتفوه بكلمات عليه أن يتحمل مسؤوليتها.”
شعرت وكأن الهالة الباردة التي انبعثت من حوله تخنق عنقي أنا أيضًا.
“أنا فقط…”
“أنا أعلم.”
شعرت وكأنني أرى ملامح ابتسامة هادئة ترتسم على وجه كاميل.
“لقد كنتِ تقصدين أنكِ تريدين الموت، أليس كذلك؟”
ثم سُمع صوت خطواته، وكأنه اقترب منها بخطوة واحدة.
‘ماذا أفعل؟’
‘هل أتدخل الآن؟’
إن حدث خطأ الآن، وقتلت آنسة روزانهير على يد الارشيدوق كاميل، فقد يتعجل في إعلان تمرده…
‘وقد أُقتل أنا أيضًا!’
بلعت ريقي من هول الفكرة، وفي تلك اللحظة، تكلمت إيليني بصوت مرتجف:
“أنا… أنا فقط أردت أن أقول إنني… أفهم ما تشعر به.”
“تفهمين؟”
قهقه كاميل بسخرية. وبدأ شعورٌ قاتمٌ كأنه نصل بارد يقترب من الرقبة يملأ الأجواء.
ثم تمتم كاميل بنبرة حادة:
“أتجرؤين؟”
“ل-لا، لا يمكنك معاملتي هكذا…”
قالت إيليني بصوت خائف:
“أنا الوحيدة في هذا العالم التي يمكنها فهمك حقًا…!”
“……”
عم الصمت مجددًا.
بشكل صادم، لم يجب كاميل بشيء هذه المرة.
بل حتى التوتر المهيمن على المكان تبخّر تمامًا.
‘ما السبب؟’
‘ما قالته لم يكن منطقيًا على الإطلاق، ومع ذلك… هل وجد فيه كاميل ما يثير شيئًا بداخله؟’
ربما هذا ما ظنّته إيليني أيضًا، فقد تابعت كلامها على عجل:
“أنا جادة. أنا أيضًا وِعاء مثلك تمامًا.”
‘…ما هذا الـ”وعاء” الذي تتحدث عنه أصلًا؟’
“أختي لا تفهم شيئًا. لا أحد سوى أنا يمكنه فهمك.”
همست إيليني بسرعة:
“كما تعلم… أختي لا تملك حتى قطرة من دم العائلة الإمبراطورية.”
التعليقات لهذا الفصل " 111"