بدلًا من أن يقول: “لا داعي لذلك”، ترك إيليا جسده بين يدي يوري دون اعتراض.
وبعد لحظات، انبعث من يديها نور متلألئ أخذ في الانتشار.
“!”
تضاءلت آلام الجرح المتعفن بشكل واضح. لم يدر إيليا كيف يصف شعوره في تلك اللحظة، فقد داهمه شيء من الذهول.
‘هل تُحسن استخدام طاقة التطهير إلى هذا الحد…؟’
مع أنه لم يمضِ وقت طويل منذ أن أظهرت هذه القدرة، إلا أن مستواها الآن يدعو إلى التساؤل: متى وصلت إلى هذا الحد من الإتقان؟
“هل تشعر بتحسن؟”
سألت يوري بحذر، بعد أن تأكدت من توقف التحلل البطيء حول الجرح المتآكل.
وما كان من إيليا إلا أن أجاب، من دون تفكير، بكلمات خرجت منه على غفلة:
“ألا تلاحظين؟… بالطبع يؤلمني.”
“كنت أعلم ذلك.”
أومأت يوري برأسها دون أدنى تردد، كما لو أن الأمر كان متوقعًا تمامًا.
أما إيليا، فقد بلع ريقه من الدهشة، متفاجئًا من نفسه.
‘قلتُ إن الأمر يؤلمني…؟’
مع أنه لم يكن غير صادق — فالجرح كان يؤلمه بلا شك — إلا أن مجرد الاعتراف بذلك بهذه البساطة كان غريبًا عليه.
من الطبيعي أن يؤلم هذا النوع من الجروح، بل إن الألم — إن أردنا الصراحة — كان لا يُحتمل بحق.
ومع ذلك، كان إيليا من أولئك الذين خبروا إصابات أشد فظاعة من هذه مرارًا. ولم يكن ذلك بسبب قتاله مع الوحوش فحسب، بل لأن التعويذات غير المكتملة أو التجارب السحرية غير المحسوبة كثيرًا ما كانت تُفضي إلى نتائج مدمّرة.
ومن بين كل تلك الحوادث، ورغم ما أصابه من تشوهات وخسائر، لم يسبق له قط أن وصف حاله لأحد بكلمة: “إنني أتألم”.
غير أن تلك الكلمات خرجت من فمه على غير العادة، كما لو أنه سُحر، بمجرد أن واجه نظرات القلق في عيني يوري.
‘هل جننت؟’
انتابه الذهول، ولم يجد سوى أن يوبخ نفسه بصمت. وفي تلك الأثناء، كانت يوري تراقب حاله بقلق وتقول:
“لونك شاحب جدًّا. من الأفضل أن نعود فورًا ونقوم بالإسعاف.”
فأجابها بلهجة حازمة:
“الذي يحتاج إلى إسعاف هو ذلك الوحش.”
ليفياثان كان من الوحوش القادرة على التجدد والانقسام بشكل مخيف، ولم يكن من الحِكمة الاعتقاد بأنه قد مات لمجرد توقفه عن الحركة. لا بد من إحراقه بالكامل حتى لا يعود.
وحين شرح ذلك، رمقته يوري بنظرة مندهشة ممزوجة بالاستياء:
“وهل من الضروري أن يكون إيليا هو من يتولى هذا الإسعاف بنفسه؟”
“ليس بالضرورة، لكن…”
“إذن، فلندع الأمر لأولئك الأشخاص، وعدْ معي الآن لنتولى معالجة جروحك.”
كانت تشير إلى السحرة التابعين لبرج السحر، أولئك الذين جاؤوا يُبلغونه بظهور الشق الزمني.
نظر إليهم إيليا، ورأى ملامح الذهول ترتسم على وجوههم، وحينها فقط أدرك ما الذي يفعله حقًّا.
‘تبًا.’
أن يبدو ضعيفًا أمام تلميذته — تلك الفتاة الأصغر سنًّا والأقل خبرة — ويظهر لها وكأنه يعاني… يا له من تصرف مشين.
قبل ثلاثة أشهر فقط، لكان إيليا قد وصف شخصًا كهذا بالمجنون من دون تردد. والآن، ها هو يُدرك في داخله كم صار أحمقًا هو نفسه.
‘لماذا بحق السماء؟’
‘أي سبب يجعلني أتظاهر بعدم قدرتي على علاج جرح بسيط كهذا؟’
“إيليا؟”
نادته يوري بقلق، فقطع عليه حبل أفكاره. وفي تلك اللحظة، فهم الجواب.
لقد أعجبه الأمر.
أن يرى يوري إلروز — التي اضطر إلى قبولها كتلميذة تحت ظروف قاهرة — تنظر إليه بعينَيها القلقتين بهذا الشكل… راق له ذلك.
لذلك، ومن دون أن يشعر، تظاهر بأن جرحه لا يُعالج بسهولة، وادّعى الألم أمامها.
وما إن أدرك إيليا هذا الاعتراف الذي نطق به قلبه، حتى شهق بفزع ووضع يده على فمه، في محاولة يائسة لإخفاء تعابير وجهه الذي احمرّ خجلًا.
‘هذا جنون… لقد جننت تمامًا!’
“إيليا؟ ما بك؟ هل ساءت حالتك؟”
“لـ… ليس كذلك…”
يالها من مصيبة. راح إيليا يتمتم متلعثمًا، وهو الذي لم يعتد التراجع في كلامه أبدًا.
وفي خضم هذا الموقف المربك، أتى صوت ساخر يقتحم اللحظة:
“هل ما أراه الآن حقيقي؟ سيد برج السحر غير قادر على معالجة جرح بسيط بنفسه؟”
كان المتحدث هو كالكس روزانهير، شقيق يوري.
‘آه…’
تلقى إيليا ضربة موجعة بتلك الكلمات، فأخرسه الموقف للحظة. لكن يوري سارعت إلى الدفاع عنه:
“لا تتحدث بهذه الطريقة! الجرح سببه وحش سحري، وقد لا يكون من السهل معالجته بهذه البساطة.”
لكنه لم يكن كذلك.
فالأجزاء التي لوّثتها طاقة الوحش الشريرة كانت قد نُقّيت بالفعل بفضل قدرة يوري، وحتى من دون ذلك، فقد كان في وسع إيليا علاج نفسه لو أراد، وإن تطلب ذلك وقتًا أطول.
‘ألم أكن أقول سابقًا إنني أستطيع إعادة توصيل ذراع مبتورة؟ كيف نسيتُ ذلك الآن؟’
فكّر في يوري، وابتسم داخليًّا بسخرية… بل بشيء من الحنان؟
‘انتظر لحظة… ماذا؟’
‘حنان؟ لأي سبب؟”
تجمد ذهن إيليا، وقد صُدم بما تردد في خاطره.
وفي تلك الأثناء، انضم كاميل إلى صفوف المتندّرين عليه:
“شكلك الآن لا يُحسد عليه. ألا تنوي إنهاء الأمر ومعالجة نفسك؟”
“…لا تتدخل.”
رغم ارتباكه، لم ينسَ إيليا كيف يرد بحدّة، ثم عضّ على شفتيه وبدأ بتفعيل طاقته العلاجية.
ما إن انبعث الضوء الأبيض من راحة يده حتى بدأت الجراح العميقة تلتئم تدريجيًّا.
اتسعت عينا يوري بدهشة وهي تشاهد ذلك:
“كنت قادرًا على علاج نفسك؟!”
“…لم أقل إنني لا أستطيع.”
“ماذا قلت؟”
وبينما كانت يوري تتفحصه مذهولة، شعر إيليا بخزي شديد، وراح يتجنب نظراتها.
“ما هذا بحق…؟”
وقبل أن تتم عبارتها، حدث شيء مفاجئ…
“أختي! كاليكس!”
من جهة الممر المؤدي إلى الجرف البحري، حيث واجهوا ليفياثان، ظهرت فتاة شقراء تركض وشعرها يتطاير في الهواء.
“إيليني؟”
كانت إيليني.
وقفت أنظر إلى إيليني، التي كانت تقترب نحونا، وقد ارتسمت على وجهي ملامح الذهول.
‘كيف وصلت إلى هنا؟’
صحيح أن هناك ممرًا يؤدي من منطقة الفلل إلى هذا الجرف، لكن المسافة بينهما ليست قصيرة.
ومن المؤكد أنها قد رأت القتال مع الوحش من بعيد، لكن بدلًا من أن تهرب، اختارت الاقتراب أكثر!
لم أستطع أن أستوعب الأمر، وظللت أحدق بها مذهولًا.
“آه، هناك!”
“إيليني!”
وفجأة، انبثق شيء من جثة ليفياثان المتفحمة.
كان كائنًا هلاميًا يشبه الـطين، مكوّنًا من دم أسود لزج، فاندفع نحو إيليني ولفَّ خصرها بقوة.
“آآه!”
صرخت إيليني بذعر، وسحب كاليكس سيفه وقد شحب وجهه، لكن الـطين زاد عناده وكأنما يفاخر، فغلف جسدها تمامًا وقيّدها بشدة.
“أ… أخي!”
نادته وهي بالكاد تلتقط أنفاسها، لكن كاليكس توقف فجأة وهو يهم بإطلاق نصل الأورا من سيفه، فقد خشي أن تصيب ضربة واحدة من سيفه إيليني نفسها وتؤذيها مع الوحش.
قال إيليا بصوت حازم:
“الطين المتجدد يمتلك القدرة على هضم البشر بسرعة كبيرة.”
“ماذا؟”
“إن تُرك بهذا الشكل، فقد لا نعلم ماذا قد يحدث لها. علينا فصلها عنه على الفور…”
وفي تلك اللحظة بالذات:
<النظام> تحذير! تم الكشف عن “طاقة سحرية مشوهة”.
<النظام> هل ترغب باستخدام قوة التطهير؟ نعم أو لا.
“!”
ظهر إشعار من النظام في الوقت المناسب تمامًا. دون تردد، اخترت “نعم”.
<النظام> جارٍ استخدام قوة التطهير…
<النظام> إجمالي الطاقة المتوفرة: 392
<النظام> سيتم استخدام 366 وحدة من الطاقة في عملية التطهير…
فانطلقت من جسدي هالة ذهبية اجتاحت السلايم الذي كان على وشك ابتلاع إيليني.
صرخ الوحش بصوت حاد وبدأ يتآكل ويتفكك بفعل طاقة التطهير. وفي اللحظة التي اختفى فيها، فقدت إيليني دعمها وسقطت من الأعلى نحو الأرض.
“إيليني!”
اندفع كاليكس بسرعة لإنقاذها، لكن مقاومة الوحش الأخيرة أبطأته لحظة حاسمة.
“آآآه!”
سقطت إيليني على الأرض بقوة، وصرخت من الألم. كان كاحلها الأيسر ملتويًا في اتجاه غريب ومريع.
“أخـي… أُخيـ… الألم… لا يُحتمل…!”
قالت وهي تتلوى على الأرض، فركض كاليكس إليها وأمسك بها ليسندها، لكنه لم يكن قادرًا على فعل شيء حيال كاحلها المكسور.
وما إن أمسك بها، حتى باغتته كتلة أخرى من الطين كانت مختبئة، والتفت حول قدمه فجأة.
“أه!”
بدأ نسيج سرواله يذوب بفعل ابطين اللزج. لكنه أسرع بسحب سيفه وقطعها بضربة مباشرة، فصرخت الكتلة بصوت مرعب وذابت بسهولة.
غير أن الضرر كان قد حصل — فقد احمرّ كاحله بشدة كما لو أنه أُصيب بحرق عميق.
“هل أنت بخير، كاليكس؟”
“الأمر… لا بأس به.”
ردّ كاليكس وقد عضّ على أسنانه من الألم، غير أن نبرته كانت تخون ما يدعيه.
“أخي…!”
“ابتعدا كلاكما للخلف فورًا.”
قالها إيليا بنبرة صارمة لا تقبل الجدل.
سحب كاليكس نفسه بصعوبة وهو يسند إيليني، ثم ابتعدا إلى الجهة الجانبية. وما إن أخلوا المكان، حتى أطلق إيليا تعويذته.
رُسمت دائرة سحرية متألقة على الأرض، وما هي إلا لحظات حتى تصاعدت منها نيران سوداء داكنة، وابتلعت جثة ليفياثان بالكامل.
“نيران الجحيم…”
همس أحد السحرة من خلفه بصوت مرتجف، وقد بدت عليه علامات الصدمة.
“أن يستخدم تعويذة بهذا الحجم، بعدما أطلق تعاويذ علاجية أيضًا… وما زال يحتفظ بهذه القوة؟!”
من الواضح أن إيليا كان يُظهر مستوى غير عادي من القوة الخارقة.
مرت لحظات، ثم خمدت النيران، ولم يتبقَ في مكانها سوى كومة صغيرة من الرماد.
“…أوه!”
“سيد إيليا!”
تمايل إيليا فجأة وكاد يسقط. هرعت نحوه وأمسكت به قبل أن يرتطم بالأرض.
“ما كان عليك أن تُجهد نفسك إلى هذا الحد!”
“أنا بخير… لا حاجة لذلك.”
“لكن وجهك شاحب، وتبدو وكأنك ستنهار في أي لحظة.”
“ليس إلى هذا الحد…”
رغم نفيه، لم يستطع إخفاء العرق البارد الذي كان يبلل جبينه.
التعليقات لهذا الفصل " 109"