لم يكن من الحكمة أن أصرّ على العناد دون داعٍ، فينتهي بي الأمر إلى استفزازه أكثر. لا بدّ من التحلي بالحكمة؛ فالعناد له وقته، والكرامة كذلك.
ولأغيّر مجرى الحديث قليلًا، سألته:
“هل عدتَ إلى وعيك؟”
“لا مجال لذلك.”
“لكن نبرة حديثك عادت إلى طبيعتها.”
ضحك كاميل ضحكة خفيفة، وهزّ رأسه نافيًا:
“سأكررها ثانية… لا تتوقعي مني أن أستعيد وعيي. الفارق الوحيد هو ما إذا كنت قادرًا على ضبط نفسي أم لا.”
“آه… فهـ، فهمت…”
سألت مترددة، وأنا أراقب تعبيره بحذر:
“وهل أنت الآن… في حالة تحكم بالنفس؟”
“من يدري؟ ماذا تظنين أنتِ؟”
قالها وهو يبتسم بمكر، ومع ذلك بدأ يستعد للنزول، محتضنًا إياي بذراع واحدة.
‘أحمـ… الحمد لله.’
كنت على وشك أن أقول له: “يبدو أنك استعدت وعيك”، لكنني خشيت أن أثير حفيظة كاميل دون داع، فآثرت الصمت.
همس كاميل قائلاً:
“قرار حكيم.”
وبعد لحظات، أنزلني برفق فوق الأرض المبلّلة.
“بغضّ النظر عن حالتي، أن تقومي بإقامة حاجز في مثل هذا الظرف، كان قرارًا بالغ الذكاء يا أميرتي.”
“إن كان رأيك كذلك، فأنا مرتاحة.”
رغم أننا نزلنا من على الشجرة، إلا أن الحاجز الذي أقمتُه كان ضيقًا جدًا، مما اضطرّنا إلى الوقوف قريبين من بعضنا البعض، وكأننا نتشارك مظلّة صغيرة.
تلفت كاميل حوله وسأل:
“إذن، هل نتابع طريقنا؟”
“لا بد من ذلك.”
فقد أضعنا ما يكفي من الوقت، وحان الوقت للتحرك فعلًا. كان علينا الإسراع لإنقاذ الأرواح قبل أن يفوت الأوان.
استأنفنا السير من جديد.
كانت الأمطار تهطل بغزارة. سُحب داكنة تمطر مدرارًا حتى إنني بالكاد أستطيع أن أرى أمامي، ومع ذلك، بدا أن كاميل يميز الطريق بخبرة عجيبة ويقودني بثبات.
ومضت خمس دقائق تقريبًا من السير على هذا الحال، ثم فجأة، بدأت شدة المطر تخفّ بسرعة.
“ما هذا؟”
سألتُ متفاجئة من اتّساع الرؤية المفاجئ.
“!”
شعرنا بانفجار هائل يهزّ الأرض من مكان غير بعيد.
وكأن نيزكًا ارتطم بالأرض، فموجة الصدمة التي نتجت عنه هزّت الهواء كله كما لو كانت هزّة ارتدادية.
صدى صراخٍ مدوٍّ يكاد يشق السماء دوى من جديد، يهز الأرض ويخترق الآذان.
“هذا الصوت…”
“يبدو أن أحدهم سبقنا إلى مواجهة الليفياثان.”
ويبدو أن حدس كاميل كان صائبًا.
قال وهو يمد يده نحوي:
“علينا أن نتحرك بسرعة، أميرتي.”
ترددت لوهلة، لكن الوضع لا يسمح بالجدل الآن. ليس هذا وقت التفريق بين الحلول الأفضل والأسوأ.
“!”
ما إن أومأت برأسي حتى رفعني كاميل عن الأرض، فطوّقت عنقه بذراعيّ دون وعي. وفي لحظة، اندفع بين الأشجار بسرعة تفوق الخيال.
‘آآه، يا إلهي…’
اضطررت أن أعض على شفتي حتى لا أصرخ من شدة السرعة.
رحلة أكثر إثارة من أي قطار ملاهٍ، استمرّت للحظات بدت أبدية… إلى أن—
“هناك…!”
ظهر الوحش أخيرًا، معلقًا في الهواء من بعيد.
هيئته تشبه الأفعى المائية التي رأيناها في بحيرة سوليا، لكن ما يميزه هذه المرة هو امتلاكه لأطراف أمامية ضخمة، تنتهي بمخالب حادة، تضفي عليه هيئة أكثر رعبًا وسطوة.
‘لكن… إنه ليس في حالته الكاملة.’
أغمضت عينيّ وفتّحتهما مجددًا لأتأكد، فرأيت أن نصف جسده تقريبًا مقطوع بانحراف غريب.
قال كاميل:
“يبدو أن الصدع أغلق قبل أن يكتمل تجسّده.”
“رائحة الدماء فظيعة…”
ارتفع زئير ليفياثان وهو يتلوى بجسده النصف المقطوع.
وبالقرب من رأسه المتخبط في الهواء، ظهرت دوائر سحرية متوهجة واحدة تلو الأخرى، لتطلق بعدها سهامًا جليدية ضخمة ضربت جلده السميك مباشرة.
تأخر الإحساس بالمانا العنيفة قليلًا، لكنه كان كافيًا ليرتعش جسدي من قوّتها.
“إيليا…!’
أصدر ليفياثان زئيرًا عظيمًا آخر، وهو يدور في الهواء بحركة ثعبانية متعرجة على هيئة رقم 8.
«أيها البشر التافهون—!»
همس كاميل:
“سأقترب أكثر. تمسّكي بي جيدًا.”
شددت ذراعيّ حول عنقه، وفي اللحظة التالية، انطلق بجسده إلى الأمام كالسهم.
في يده الأخرى، اشتعل سيفه بطاقة زرقاء متوهجة—الأورا بدأت تتجمع من حوله.
وفي لحظة، اندفع كاميل في الهواء، شاقًا السماء بسيفه المغطى بالأورا الزرقاء، ليقسم عين ليفياثان اليسرى إلى نصفين بضربة واحدة.
رشّ الدماء كان وشيكًا، وأغمضت عينيّ على الفور، متوقعة أن أغرق فيه، لكن كاميل كان أسرع، واستغلّ ذراع ليفياثان الضخمة التي اندفعت نحوه كمنصة، قفز منها لينأى بجسده عن أي رذاذ.
هبط على الأرض بقوّة حتى ارتجّت التربة من تحته، ثم نظر إلى الوحش الغاضب المنتصب أمامه، وأنزلني من بين ذراعيه.
قال:
“ابقَي هنا، أميرتي، لبعض الوقت.”
“هل… هل ستكون بخير؟”
سألت دون وعي، وأنا أحدّق في هذا الكائن الجبّار الذي يحطم الهواء نفسه من فرط قوته.
ابتسم كاميل قائلاً بنبرة ساخرة:
“أهذا ما قلتيه لي للتو؟”
“ذاك… الأمر ليس كذلك تمامًا…”
“إن كانت مزحة، فهي مضحكة إلى حد ما.”
قال ذلك ثم عدل قبضته على سيفه براحة واسترخاء.
وفجأة…
دويٌ عظيم، ورعدٌ مدوٍ!
«أيها البشر الحثالة…!»
انفجرت صاعقة تزامنًا مع زمجرة الرعد، واندفعت السحب الداكنة من حيث لا يُعلم، لتُسدل من جديد ستار المطر.
<النظام> تحذير! تم رصد “الطاقة السحرية المشوّهة”.
<النظام> هل ترغب في استخدام طاقة التنقية؟ نعم أو لا.
ظهر تنبيه النظام في تلك اللحظة بالضبط.
“الارشيدوق روين!”
صرخ إيليا. ولدهشتي، التفتُّ فورًا عند سماع صوته المرتفع الذي لم يكن من طبيعته.
“السيد إيليا!”
كان كم سترته اليسرى قد تمزق بحدة، والدم ينضح منه بغزارة. غير أن إيليا لم يبدُ مهتمًا بندائه ولا حتى بجراحه.
“لقد جئتما في الوقت المناسب. علينا القضاء على ليفياثان قبل أن يبدأ بالشفاء.”
“أتطلب منا كسب بعض الوقت؟”
“نعم، هذا ما أطلبه.”
“حسنًا. أيها الدوق الصغير؟”
أومأ كاليكس برأسه موافقًا، وفي اللحظة ذاتها، بدا أن ليفياثان استعاد وعيه، فاندفعت مخالبه الأمامية الهائلة مجددًا نحونا!
وفي المقابل، انبعثت من سيف كاميل شفرة أورا زرقاء ساطعة.
ببراعة مذهلة، شقّ سيف كاميل باطن مخلب ليفياثان. حاول الوحش سحق كاميل بمخالبه الأخرى، لكن كاليكس تدخل بسيفه ليقطع طريق الهجوم ويمنعه.
أصدر ليفياثان زمجرة غاضبة، وكأن السماء الغائمة بدأت تلتف على نفسها من شدّة صوته.
عندها صرخ إيليا:
“ابتعدا عن الطريق كلاكما!”
اندفعت طاقة سحرية هوجاء من حوله، وظهرت عشرات الدوائر السحرية في السماء في وقت واحد. كانت كافية لإثارة القشعريرة في الجسد.
من الدوائر السحرية المتوهجة باللون الأزرق، اندفعت الصواعق كالسيل.
التعليقات لهذا الفصل " 108"