تدفّق مطر ليفياثان الأسود عاجزًا، مرسومًا في خطوطٍ باهتة على سطح الحاجز المتلألئ الذي لم يستطع اختراقه.
تمتم الارشيدوق وهو ينظر إليّ، وقد غطاني الحاجز:
“هذا هو…”
“ذاك… في الحقيقة، يُفترض أنه حاجز، على الأقل مؤقتًا.”
<النظام> يتم استهلاك 0.5 وحدة من قوة التطهير في كل ثانية للحفاظ على الحاجز.
نصف وحدة في الثانية… أجريت حساباتي بسرعة في داخلي. يبدو أنني سأتمكن من الحفاظ عليه لأكثر من ساعة بقليل.
لكن المشكلة…
كانت تكمن في أن الحاجز صغير، صغير بما يكفي ليُسبق بـ “صغير” كصفة تصفه.
عند النظر حولي، بدا نطاق الحماية أقرب إلى مظلّة مطوية بأقصى اتساع ممكن.
تحدثت إلى الدوق الأكبر الذي كان يقف متسمّرًا، يحدّق نحوي دون حراك:
“أمم… يا سمو الارشيدوق، ألا تظن أن من الأفضل أن تأتي إلى هنا؟”
قلتُ بنبرة خجولة قليلًا، إذ شعرت بالحرج من دعوته إلى داخل حاجزٍ بالكاد يتّسع لي وحدي.
“أن… يا سموك، لِمَ لا تقترب من هذا الجانب؟”
“…تطلبين مني أن أقترب منكِ، أميرتي؟”
“نعم، لكن… الأمر ليس كما يبدو تمامًا…”
يبدو أن الارشيدوق لم يطمئن كثيرًا لهذا الحاجز الصغير.
لوّحتُ بيدي وأنا أشرح له:
“أعلم أن شكله لا يوحي بذلك، لكنه على الأقل يصدّ المطر جيدًا.”
“المشكلة ليست في ذلك…”
ضحك الارشيدوق ضحكة باهتة. رمشتُ بعينيّ، متسائلةً عمّا يقصده تحديدًا.
“حسنًا… بما أن الدعوة جاءت منكِ، فلن أمانع.”
هزّ كتفيه بابتسامة خفيفة وقال:
“على أية حال، لا تلومي أحدًا لاحقًا.”
“عفواً؟”
وما إن هممت بالاعتراض على ذلك التحذير المريب، حتى باغتني واقترب مني فجأة.
“!”
وحين التقت عيناي بعينيه الحمراوين عن قرب، أدركت متأخرةً حجم الخطأ الذي ارتكبته.
“يا، يا سمو الارشيدوق…”
لكي يستفيد من الحاجز معي، كان لزامًا علينا أن نكون قريبين جدًا من بعضنا… بل ملتصقين تقريبًا.
وفوق ذلك… هذا الرجل بالذات…
كان يُظهر تفاعلًا غير معتاد مع قوتي التطهيرية.
تأخر إدراكي، لكنه كان قد أصبح قريبًا بالفعل.
همس بصوت منخفض:
“ناديني كاميل.”
وزاد الطين بلّة، أن صوته بدا رطبًا منذ الآن.
“ألا تظن أن هذا غير مناسب، سمو الارشيدوق…؟”
احتججتُ همسًا، لكن لم تأتِني أيّ إجابة.
ارتفع كتفه في شهيقٍ عميق، وزفر بأنفاسٍ ساخنة وبملامح فقدت رباطة جأشها.
خرج منه صوتٌ أشبه بالأنين:
“هذا… لا يُحتمل…”
“يا، يا سمو الارشيدوق، رجاءً تمالك نفسك…!”
“أنا متماسك.”
لكنّ تصرفاته لم توحِ بذلك إطلاقًا.
وبينما كنتُ أفكر في الابتعاد قليلًا عنه، حذّرني بصوت منخفض:
“أنا أبذل جهدي، لذا لا تتحركي. هذا سيساعدني.”
“آه، حـ… حاضر.”
تبًا لك… هل هذا رجل أم شبح؟!
رفعتُ بصري إليه بتحفّظ، فوجدته يحدّق بي ببشرة محمّرة وعيونٍ ملتهبة، كما لو كان مصابًا بحمّى.
آ’ه…’
كانت نظراته تلك محرجة للغاية، حتى أنني لم أستطع مواجهتها.
لذا حولتُ بصري نحو كتفه وقلت:
“الـ… المطر يشتدّ أكثر فأكثر…”
“أعلم.”
“فـ… أليس من الأفضل أن نتابع السير على الفور؟”
“…أميرتي.”
ناداني بنبرةٍ واهنة، وكانت عيناه قد فقدتا صلابتهما السابقة، تومضان ببريقٍ غامضٍ غير مألوف.
“أعتذر، لكن… لا أظن أنني بخير الآن.”
“نـ… نعم؟!”
وبينما ما زلتُ تحت وقع المفاجأة، لف ذراعه حول خصري بشدة…
“مـ، مهلاً! سمو الارشيدوق!”
ثم رفعني كما لو أنني حقيبة خفيفة، ووضعني على كتفه!
“مـ، ماذا تفعل؟!”
<النظام> تحذير! تمّ رصد “طاقة سحرية ملوثة”
<النظام> هل تودّ استخدام قوّتك التطهيرية؟ نعم أو لا.
“آآه!!”
صرختُ دون أن أجد وقتًا للرد على الرسالة النظامية، فقد بدأ يصعد بي فوق شجرة ضخمة مجاورة.
“أنزلني فورًا!”
“لن أفعل.”
وكما وعد، صعد بالشجرة بسهولة وهو يحملني، واستقرّ فوق غصنٍ عريض.
“مـ، ما الذي تفعله بحق السماء؟!”
“هممم…”
أجاب بصوتٍ خافت كأنّه يمازحني، ثم شدّني نحوه ليحتضنني بين ذراعيه.
‘آه…’
أجسادنا تلاصقت تمامًا. بدا أن حرارة جسده أعلى من المعدل الطبيعي، فقد اخترقت برودة ملابسي المبللة وبثّت دفئًا قوّيًا في جسدي.
‘مـ… ماذا أفعل؟!’
كان ذراعه مشدودًا حول خصري، وصدره القويّ الدافئ يضغطني بقوّة لم تكن مؤلمة، لكنها محسوسة للغاية.
وحين بدا وكأنه نال ما يكفي من هذا القرب، تنفّس بعمق وزفر هواءه الدافئ على كتفي.
ما كان بوسعي سوى أن أضع وجهي على كتفه العريض، وأحرّك عينيّ في حذر بينما ظللت جامدة في مكاني، بلا أيّ حيلة.
وحين بدأ الارشيدوق يداعب برفق عنقي بوجهه، وكأنه يتدلل، شعرت فجأة بجفاف في حلقي وقلبي يخفق بعنف.
“هذا… أشبه ما يكون بـ…”
تصرفاته كانت تمامًا كقط من فصيلة السنوريات، أو كوحش مفترس يصعد إلى أعلى الشجرة بعدما أمسك بفريسته، ليستمتع بها على مهل.
‘أي أنني الفريسة، كما يبدو…’
شعرت بقشعريرة تسري في ظهري. لم أستطع أن أتحرك وكأن عنقي قد عُض بالفعل.
‘لا، لا يمكنني ترك الأمر على هذا النحو.’
لأثبت له أنني لست فريسة، حركت جسدي قليلًا محاوِلةً التملص، ومددت يدي لأدفع كتفه.
“يا سمو الارشيدوق؟ سمو الارشيدوق؟ أرجو أن تستعيد وعيك. سأتغاضى عن كونك تعانقني، لكن ما تفعله الآن غير مقبول، أليس كذلك؟”
“…إل.”
“عفوًا؟”
“…لماذا لا تنادينني بكاميل؟”
رفع رأسه أخيرًا، وكانت نظراته تحمل ظلًا من العتاب.
“أعني… أجل، لماذا حقًا؟”
حتى أنا لم أجد مبررًا معقولًا لإجابتي، وكان من الطبيعي أن تزداد حدّة نظرته.
ثم سأل مجددًا:
“لماذا ظهرتِ قبل قليل برفقة سيد بُرج السحر؟”
“ماذا؟”
“ألم تأتِ في إجازة؟ يفترض أنكِ مع عائلتكِ، أليس كذلك؟”
“بلى… هذا صحيح.”
“فلماذا إذًا كنتِ مع سيد البرج، لا مع ذلك الكلب الحارس؟”
“أعني…”
‘هل أشرح له؟ وهل لو شرحتُ له، سيفهم؟’
في تلك اللحظة، ضيّق ذراعيه على خصري كمن يطالب بإجابة فورية.
“حسناً، سأشرح! سأشرح!”
ضربتُ ذراعيه العريضتين ضربات خفيفة، فاستجاب وخفف قبضته قليلًا.
“نعم، أتيت في إجازة، وصادفته صدفة أثناء نزهتي.”
“ثم ماذا؟”
“ثم… تجولنا سويًا لبعض الوقت.”
“إلى أين ذهبتما؟”
“إلى سوق هاي ماركت… لحظة! لماذا تسأل عن كل هذا بالتفصيل؟”
بينما كنت أجيبه، لم أتمالك نفسي من أن أسأله ساخرة:
“هل تغار؟”
كنت أُمني نفسي بإجابة مثل: “بالطبع لا، ما هذا الهراء؟”
“غيرة؟”
كالعادة، عقد حاجبيه وقال بنبرة مشوشة:
“لا أدري بالضبط…”
“إذا لم تكن تغار، فلا تسألني كل هذه الأسئلة.”
“وما الذي يُعد غيرةً في رأيكِ؟”
سأل فجأة.
“ماذا؟”
“عندما رأيتكِ برفقة سيد البرج… شعرت بالغضب.”
قالها بصوت خافت، كأنه يحادث نفسه.
“للحظة، فكرت بتمزيقه إربًا…”
“مـماذا؟!”
“قلتُ لنفسي فقط، لا تقلقي… لكن هل يُعتبر هذا غيرةً؟”
كانت عيناه الحمراوان تحدّقان بي مباشرة، يشع فيهما بريق ذهبي غريب.
بلعت ريقي بلا وعي.
‘أجل، يبدو أنها الغيرة فعلًا…’
لكن الاعتراف بهذا… كان مستحيلًا تمامًا.
قبل أن أنطق بشيء، قال هو:
“أجل، إن كان هذا ما يُسمّى بالغيرة… فربما أكون أغار فعلًا.”
ثم احتضنني بشدة، وعيناه تلمعان بحرارة غريبة. ثم تنهد بصوت منخفض عند أذني وهو يضمني أكثر:
“حين أضمكِ، أشعر بالدفء والسكينة… ويغلبني النعاس.”
“لا! لا يمكنك أن تنام الآن!”
“لا أنام، لا أنام… أعلم أنه ليس الوقت المناسب.”
“لكن طريقتك في الحديث توحي بأنك على وشك الغفوة!”
ضربتُ ظهره العريض بقوة، علّه يعود إلى رشده. لكنه لم يزد على أن ضحك بهدوء، وكأن الأمر ممتعٌ له.
“يُداعيكِ الضرب؟”
كلماته كانت كصفعة على وجهي. وأنا أضربه بكل ما أوتيت من قوة، وهو لا يزيد عن الضحك!
“سأفقد صوابي فعلًا…”
‘هل أجرب استخدام طاقتي التطهيرية؟’
أيًا يكن، فلن يسوء الوضع أكثر مما هو عليه.
عادةً، بعد استخدامي لتلك الطاقة، كان يفقد تركيزه لبعض الوقت، ثم يعود إليه ويغادر.
لقد فعلها من قبل، وأخذني إلى المنزل حينها.
إذن فلتكن هذه خطتي.
بسطت كفّي فوق كتفه العريض، بعدما كنت أضربه، استعدادًا لتفعيل طاقتي.
وظهرت الرسالة النظامية المعهودة:
<النظام> تحذير! تم رصد “طاقة سحرية ملوثة”.
<النظام> هل تودّ استخدام طاقتك التطهيرية؟ نعم أو لا
بالطبع اخترت: نعم.
<النظام> سيتم تفعيل الطاقة التطهيرية.
<النظام> إجمالي الطاقة المتاحة: 2436
بفضل تأثير الفريق، كانت طاقتي وفيرة هذه المرة.
“عليّ ألّا أفرط هذه المرة… فقط ما يكفي لتفعيل الحاجز لمدة 30 دقيقة!”
<النظام> محاولة تطهير بمقدار 1542…
لكن يبدو أني لم أتحكم جيدًا، فأنفقت أكثر مما كنت أنوي.
انبثقت هالة ذهبية منّي، وبدأت تتغلغل ببطء داخل الهالة المظلمة المتلوية المحيطة بكاميل.
<النظام> تمّ التطهير بنجاح بمقدار 1542!
نجحت!
“آهخ…”
في اللحظة ذاتها، أطلق كاميل أنينًا، وضغط على جسدي أكثر بذراعيه.
“يا سمو الارشيدوق؟ سمو الارشيدوق؟”
استغليت الفرصة وبدأت أضربه مجددًا على ظهره.
“هل عدتَ إلى وعيك؟ أليس كذلك؟”
“…قلتُ لكِ أن تناديني كاميل.”
“آه! نعم، بالطبع… كـ… كاميل.”
أنا بلا مبدأ.
رددتُ على الفور، فابتسم كاميل ابتسامة خفيفة.
“يا لها من سرعة استجابة.”
التعليقات لهذا الفصل " 107"