تساءلت بدهشة عندما فوجئت بأن الحديث موجّه إليّ، ففتح كاليكس عينيه على اتساعهما، وكأن الأمر لم يخطر بباله قط، ثم سأل:
“لا تقصدين أنكِ كنتِ تفكرين في الانضمام إلينا للبحث عن ليفياثان، أليس كذلك؟”
في الواقع، هذا بالضبط ما كنت أفكر فيه. لا، بل كنت أعدّ ذلك أمرًا طبيعيًّا لا بد منه.
“أختي!”
صرخ كاليكس، وكأنه قرأ ما دار في داخلي بدقة مدهشة.
“ليفياثان وحش خطر بدرجة تفوق بكثير الأفعى المائية التي ظهرت في بحيرة سوليا. وإن حدث لكِ مكروه أثناء مواجهته…”
“لكن، على ما يبدو، أنا الوحيدة بينكم القادرة على تتبّع هذا الوحش بدقة…”
“صحيح أن كفاءتهم أقل قليلًا، لكن معظم السحرة يستطيعون تعقّب آثار الفجوات. لا تنسي أن معنا السيد ماراكش، كبير السحرة وسيد برج السحر. لذا ليس من الضروري أن…”
” الدوق الصغير.”
قاطع الارشيددوق كلام كاليكس وتدخّل قائلًا:
“أقول هذا لأنك ترى جانبًا واحدًا من المسألة وتغفل عن الآخر، ولكن اعلم أن أقوى القوات التي يمكن حشدها في جزر كورال قد تجمعت هنا الآن.”
“ذلك لأن…”
“فما الذي تظنه سيحدث لو عادت أختك إلى المنزل، ولم نتمكن نحن من القضاء على الوحش في الوقت المناسب؟”
لم يستطع كاليكس الرد، واكتفى بعضّ شفتيه.
ففي تلك الحالة، ستكون منطقة الفلل الأرستقراطية المتاخمة لغابة هيرين هي الأشد عرضة للهجوم.
ومن ثم، فإن بقائي هنا والمشاركة في تتبّع الوحش قد يكون أكثر أمانًا من العودة إلى هناك.
وهذا ما كان الارشيدوق يحاول التنبيه إليه.
وحين التزم كاليكس الصمت، تحدّث إيليا أخيرًا:
“إذن، بما أن الأمور توضّحت، فلنبدأ بالتحرك.”
هزّ الارشيدوق رأسه نافيًا:
“في رأيي، التحرك كمجموعة واحدة ليس فعّالًا. مجرد تمشيط نصف غابة هيرين سيستغرق نصف يوم.”
“أتقترح أن نقسم أنفسنا إلى فرق؟”
“هذا هو الحل الأكثر كفاءة.”
“وما معيار تقسيم الفرق؟”
“من الطبيعي أن نُقسّم إلى سحرة ومبارزين. فحتى دون احتساب الحالات الخاصة مثل الأميرة، فإن السحرة يتمتعون بقدرة أعلى على تتبع موقع الوحش مقارنة بنا.”
عضّ كاليكس على شفتيه بصمت.
فأعلى المبارزين كفاءة في هذه المجموعة هو الارشيدوق، وأعلى السحرة كفاءة هو إيليا.
ولا يمكن ضمّي أنا وكاليكس في فريق واحد باعتبارنا الحلقة الأضعف؛ فذلك سيخلّ بالتوازن القتالي.
عندها أومأ الارشيدوق برأسه ناحيتي قائلًا:
“سأذهب مع الأميرة.”
كاليكس، وحتى إيليا، بدت عليهما علامات الانزعاج من ذلك القرار، لكن لم يكن هناك بديل واقعي آخر.
خطوت خطوة نحو الارشيدوق وأومأت برأسي بحذر:
“أظن أن هذا هو الخيار الأفضل.”
لم يكن الوقت مناسبًا للتفكير بمن أشعر بالراحة معه ومن لا.
تنهد كاليكس بعمق.
كان من الواضح أنه يتمنى لو أنني لم أشاركهم من الأساس، لكنني الآن كنت عنصرًا أساسيًّا لا يمكن الاستغناء عنه في تتبّع أثر الوحش.
***
<النظام> تشكيل الفريق: تم تشكيل فريق مع كاميل!
<النظام> تم تفعيل تعزيز الفريق بناءً على مستوى الألفة.
زادت قوة التطهير لدى “يوري إلروز” مؤقتًا بمقدار 500.
تحسّن وضع كاميل البدني، وازدادت جميع قدراته بشكل عام.
***
‘… مهلاً، ولماذا أنا يقتصر التعزيز لديّ على قوة التطهير فقط، بينما الارشبدوق ترتفع كل قدراته؟’
حتى مع تذمّري الصامت، لم يتغيّر حكم النظام.
“هل ننطلق؟”
ابتسم الارشيدوق وهو ينظر إليّ. وفي تلك اللحظة، شعرت ببعض التردد حول مدى صواب قراري بالذهاب معه.
“أنتبهي على نفسكِ، أختي.”
قالها كاليكس وهو يرمقني بنظرة تحمل أكثر من معنى.
أومأت برأسي قائلة:
“سأفعل. وأنت أيضًا.”
***
أوصلنا إيليا، أنا والارشيدوق، إلى أطراف غابة هيرين.
“سوف نبدأ بتضيق دائرة الحصار من الجهة المقابلة.”
“حسنًا.”
وقبل أن يغادر، وضع إيليا يده برفق على جبيني.
انبعث من يده نور أبيض دافئ.
“مـ… ما هذا؟”
“لقد ألقيتُ عليكِ تعويذة حماية. ستُفعّل تلقائيًا في حال وقوع طارئ.”
“آه… شكرًا جزيلًا.”
رددتُ بامتنان، فأومأ إيليا برأسه ببرود، ثم اختفى باستخدام التليبورتيشن بصحبة كاليكس.
حين لم يبقَ سوانا، التفت الارشيدوق إليّ وابتسم بلطف.
ارتجف كتفي لا إراديًا.
‘الآن بعد أن فكرت في الأمر… صحيح أنني وافقت لأن القرار منطقي، لكن… أليس من الغريب أن أظل معه وحدي لبعض الوقت؟’
لم يخطر ببالي ذلك وسط التوتر قبل قليل، لكن الآن وقد أصبحنا وحدنا، عادت إلى ذهني أحداث يوم تأسيس المملكة بشكل لا إرادي.
بدا وكأن الارشبدوق يقرأ أفكاري، لكنه لحسن الحظ لم يعلّق، بل عرض عليّ الأمر بلطف قائلًا…
“هل ننطلق، يا أميرتي؟”
“ن-نعم، أظن أن ذلك هو الأفضل.”
ثم خطونا، أنا والارشيدوق، إلى عمق الغابة المظلمة.
كانت غابة هيرين لا تمتد على أرض منبسطة، بل قد شُيدت في منطقة جبلية. والأسوأ من ذلك أن تضاريسها كانت وعرة بعض الشيء.
“تمسكي.”
تسلق الارشيدوق المنحدر الحاد أولًا، ثم مدّ يده إليّ. لم يكن لدي متسع من الوقت للتردد، فأمسكت بها.
‘!’
وقبل حتى أن أتمكن من تثبيت قدمي، جذبني بقوة ذراعه وحدها وسحبني إلى الأعلى بخفة.
“شكرًا جزيلًا.”
“لا حاجة للشكر.”
ثم نظر من حوله وسأل:
“هل تشعرين بشيء؟”
“بشكلٍ واضح… نعم.”
ربما بسبب غضب الوحش الذي لم يتجسد كليًّا بعد، باتت الطاقة السحرية في المنطقة شديدة الاضطراب، لدرجة أنني كنت أشعر بوخز حاد على سطح جلدي.
“وما الاتجاه؟”
حاولت التركيز بكل ما أوتيت من طاقة. ولكن ربما لأننا اقتربنا كثيرًا، أو لأن قوة ليفياثان طاغية للغاية، فقد بات من الصعب تحديد الاتجاه بدقة.
“كل ما أستطيع قوله إننا يجب أن نتوغل أعمق في الغابة.”
“هذا كافٍ.”
أومأ كاميل برأسه وبدأ يسير على الطريق داخل الغابة، فتبعته بخطوات حذرة.
لم يكن هناك صوت حشرات، ولا حتى زقزقة طائر.
‘هل يشعرون بغريزتهم بوجود الوحش؟’
كانت الغابة ساكنة بشكل مقلق، لا تبعث على الطمأنينة. والأسوأ أن الطاقة السحرية الملوّثة التي خلفها الوحش ما زالت تدور في المكان بعنف…
‘كيف يمكنني وصف هذا الشعور؟’
الهواء ذاته كان لزجًا، كما لو أنني أسير داخل سائل كثيف لزج يعيق التنفس.
“هل تستطيعين المتابعة سيرًا على الأقدام؟”
سألني الارشيدوق.
“السير بحد ذاته لا بأس به.”
“أي إن كل شيء ما عدا المشي صعب، أليس كذلك؟”
كان سريع البديهة فعلًا.
“أستطيع تحمله.”
“أي إنه مزعج بالفعل.”
أبعد كاميل الأغصان التي كانت تعترض الطريق، وسمح لي بالمرور أولًا. وبينما مررت بحذر بجانبه، قلت:
“لا أظن أن الأمر يستدعي كل هذا القلق.”
“حتى لو أقلقني، لا يوجد شيء أستطيع فعله حياله.”
“إن أردتِ التفصيل، فمعكِ حق.”
ابتسم الارشيدوق ابتسامة قصيرة، كأنها تلاشت وسط سكون الغابة.
لا أدري كم مشينا بعد ذلك، لكن قدمي كانت قد غاصت كليًّا في الطين، حتى أن مجرد خطوة واحدة صارت تتطلب جهدًا كبيرًا.
“هل الأمر سيء؟”
“المشي بات صعبًا بعض الشيء…”
“يبدو أننا نقترب أكثر.”
“أظن أن الأمر كذلك.”
وفي تلك اللحظة بالضبط—
صوت شيء يطرق برفق على ورقة شجر.
“؟”
نظرت حولي سريعًا، لكن لم ألحظ أي كائن حي يتحرك.
ثم همس الدوق قائلاً:
“إنها تمطر.”
“عذرًا؟”
وفي اللحظة ذاتها، بدأت قطرات المطر تتساقط على أوراق الشجر شيئًا فشيئًا.
‘مطر؟’
ما إن أدركت أن ما يهطل هو المطر، حتى انهمرت الأمطار فجأة بغزارة كأنها سيل جارف.
وبسرعة، تبللت ملابسي بالكامل. حاول كاميل أن يقتادني إلى ظل شجرة لحمايتي، لكن المطر كان غزيرًا لدرجة أن ذلك لم يُجدِ نفعًا.
مددت كفّي تلقائيًا نحو السماء، وبدأت حبات المطر تصطدم براحتها بعنف. لكن…
‘سوداء؟’
“يا سمو الارشيدوق، هذا المطر…”
“نعم.”
أجاب وهو ينظر إلى كفّه كما فعلت أنا:
“ليس مطرًا طبيعيًّا.”
“كما توقعت.”
“يبدو أننا دخلنا نطاق تأثير ليفياثان.”
صرنا في لحظات مثل فأرين ابتلاهما الماء. بللنا المطر كليًّا.
“يبدو أنه علينا الاحتماء من هذا المطر!”
اضطررت لرفع صوتي بسبب دويّ قطرات المطر.
“يُفضّل أن تفعلي ذلك، يا أميرتي.”
“وماذا عنك، يا سمو الارشيدوق؟”
“سأتابع البحث عن ليفياثان الهارب، حتى تحت هذا المطر.”
“بهذا الشكل؟”
“هل تملكين بديلاً؟”
لا، لكن… التعرّض المستمر لهذا السائل الغريب، والذي قد يحمل تأثيرًا مجهولًا، لم يكن أمرًا يُستهان به.
‘خاصة وهو شخص يتأثر حتى بالطاقة السلبية المعتادة لدرجة أن تطهيره يؤتي ثماره.’
قد يتعرض لتأثير أقسى مني.
‘ألا يوجد حل ما؟’
مثل التعويذة الوقائية التي وضعها إيليا من قبل… أو ربما حاجز سحري من نوع ما.
… انتظري، لحظة.
‘حاجز؟’
بدت فكرة جيدة.
صحيح أنني لا أمتلك القدرة السحرية الكافية لإنشاء حاجز بالشكل التقليدي…
لكن—
‘ماذا لو استخدمت قوة التطهير لإنشاء حاجز؟’
كأن يكون مظلة تحمينا من المطر، وتنتقل معنا أثناء تنقّلنا.
لم أجرّب ذلك من قبل قط، لكن أي شيء أفضل من ترك أنفسنا تحت المطر.
“يا سمو الارشيدوق، لحظة من فضلك.”
“؟”
رفع كاميل حاجبيه مستغربًا.
“هل لديكِ فكرة ما؟”
“لا أستطيع الجزم… لكن أعتقد أنني أستطيع تجربة شيء ما.”
أغمضت عينيّ، وركّزت طاقتي، ثم بدأت بإطلاق قوة التطهير من داخلي.
‘ببطء، وبكثافة متساوية…’
وتخيّلت قبة تحيط بنا من الأعلى.
“أميرتي، هل أنـ…”
وقبل أن يكمل الارشيدوق سؤاله—
***
<النظام> تم إنشاء حاجز (صغير) باستخدام قوة التطهير.
<النظام> تم الخروج من نطاق تأثير مطر ليفياثان.
انتشرت طاقة ذهبية من جسدي، متخذة شكل قبة صغيرة تحيط بنا.
التعليقات لهذا الفصل " 106"