أول ما وقع عليه بصري كان طرف رداء مطرز بعناية بشعارات وزخارف تدل على انتمائه لبرج السحر.
وحين رفعتُ رأسي، رأيت خصلات شعر بلون السماء، وعينين بلون نبيذ روزيه تحدقان في التاجر بنظرة باردة.
“السيد إيليا…؟”
إنه إيليا ماراكش.
“إ-إذا كان المقصود هو إيليا التابع لبرج السحر، فـ…”
تلعثم التاجر وهو يبلع ريقه مرتجفًا، وقد شحب وجهه تمامًا.
“س-سيد البرج؟”
بدلًا من أن يجيب، أطلق إيليا ضحكة ساخرة خفيفة، ثم نقر بأصابعه نقرة حادة.
“هل ناديتني، يا سيدي؟”
تقدّم ساحران كانا بانتظاره في الجوار بسرعة، وانحنيا أمامه باحترام.
فأمرهما إيليا:
“خذوه إلى مكتب إدارة السوق العليا، وأخبروهم أنه تاجر وقح حاول بيع سلعة مزيفة.”
شحب لون التاجر كليًّا وراح يلوّح بيديه مستنكرًا:
“س-سيد برج السحر! الأمر ليس كما تظن… أنا بنفسي لم أكن أعلم…!”
لكن إيليا لم يبدِ أيّ اهتمام، وكأنّه لم يسمع شيئًا.
“أبلغوهم أيضًا أن مَن حاول بيع البضاعة المزوّرة لم يكن سوى شخص تجرّأ على خداع تلميذة سيد برج السحر، وأميرة دوقية لوزانهير.”
“تلميذة سيد برج السحر؟!”
اتّسعت عينا التاجر ذهولًا، وفتح فاه على مصراعيه، وبدت الصدمة على الساحرين أيضًا وهم يحدقون بي بعيون مستديرة.
‘…إن كنتُ شعرتُ للحظة أن أعينهم مرّت فيها لمحة من الشفقة، فهل كان ذلك مجرّد وهمٍ بصريّ؟’
“ألن تتحرّكا؟”
“ن-نعم! حالًا!”
ردّ الساحران بتوتر وهبّا إلى التنفيذ بسرعة. أشار أحدهما بأصابعه، فانبثقت حبال من الهواء وأوثقت جسد التاجر.
“أ-آآاه…!”
صرخ التاجر فزِعًا، فعبس إيليا ونقر بأصابعه مجددًا. وسرعان ما أصبح التاجر عاجزًا عن إصدار صوت، لا يُحرك سوى شفتيه كسمكة ذهبية.
“كان عليك التأكد من معالجة الأمر كما يجب.”
“أعترف بتقصيري.”
“تبًّا… خذوه من أمامي.”
“أمرك سيدي!”
وفي لحظات، ابتعد الساحران آخذين التاجر المقيّد تحت تأثير سحر التكميم والتقييد.
تمتمتُ قائلة:
“…لم يخطر ببالي أنه سيكون مجرد احتيال.”
ردّ إيليا بامتعاض، وكأنّه يتذمّر:
“حتى وإن كانت السوق العليا خاضعة لإدارة صارمة، إلا أن وجود أمثال هؤلاء أمر لا مفرّ منه.”
“صحيح… لحظة، انتظر.”
استغرقني الأمر لحظة لأدرك حقيقة الموقف بسبب سلاسة سير الحوار.
“ما الذي أتى بك إلى هذا المكان أصلًا؟”
> “بل هذا ما ينبغي عليّ أن أسألكِ أنا.”
قال إيليا وهو يكتف ذراعيه وينظر إليّ:
“الشخص الذي يُفترض أن يكون في العاصمة، ما الذي جاء به إلى هنا؟”
“أوه… لقد جئت إلى عطلة كورال هذه السنة أبكر من المعتاد، فحسب.”
عند سماع جوابي، أطلق إيليا تنهيدة من فمه استياءً.
“كنت أتساءل لمَ هناك كل هذا الكم من الأشخاص المزعجين هذه الأيام…”
“أعتذر إن كنتُ أزعجتك.”
“ما هذا؟!”
قالها إيليا وهو يرمقني بنظرة مصدومة، وكأنه لا يصدق ما سمع.
“ما هذا الأسلوب الفظ؟! أنا لم أقل قط إنكِ أنتِ من يزعجني.”
“آه، ألم تكن تقصدني؟ ظننتُ أن الكلام موجّه لي خصيصًا.”
رفعتُ كتفي بخفة، وإيليا حدّق بي بذهول أكبر.
“كيف يتسنّى للمرء أن يسيء الفهم بهذا الشكل؟ بل، دعينا من هذا الآن.”
“نعم؟”
“ماذا فعلتِ بشأن المهمة التي أوكلتها إليكِ؟ ما الذي أتى بكِ إلى هنا بدلًا من العمل عليها؟”
“آه…”
كنتُ قد نسيتُ الأمر تمامًا. ضاقت عينا إيليا وهو يتأملني بريبة.
“أظن أنك وعدتِ بأنك ستعوضين ما فاتكِ من التدريب فور انتهاء مهرجان تأسيس المملكة.”
“نعم، لكن…”
“أيّ لسانٍ هذا الذي قطع بذلك الوعد ثم تنكّر له؟”
“ه-هاها… سؤال وجيه.”
“سؤال وجيه؟”
ردّد إيليا عبارتي بنبرة ساخرة، لم يكن فيها أدنى أثر للرضا أو المرح.
أدركتُ أنه لا مجال للمراوغة، فاعترفت بسرعة:
“أنا آسفة.”
“وهذه التي تعترف الآن بخطئها، هي نفسها التي تتسكّع هنا وكأنّ شيئًا لم يكن؟”
“حسنًا… أعترف أنني ارتكبت خطأين، إذن.”
“وتوشكين على شراء سلعة مزيفة من محتال سوقي أيضًا!”
“لكن… لم يكن الخطأ خطئي بالكامل!”
“لو كنتِ تجتهدين في التقدّم، لكان بوسعي تعليمكِ كيفية التمييز بين تلك السلع الحقيرة من النظرة الأولى!”
“وهل من الطبيعي أن أبلغ ذلك المستوى في هذا الوقت القصير؟ أ-أقصد… آسفة!”
بدا أن الغضب بدأ يتملّك إيليا، إذ أصبحت نظراته أكثر حدّة. فسارعت إلى التزام الصمت.
“لأنّ تدريبكِ ناقص، تقع فريسة لباعة أنذال من هذا النوع يستغلّون صغار السحرة أمثالك!”
كان منطقًا إعجازيًّا، حتى إنني شعرتُ أنه ما إن يمر قليلٌ من الوقت حتى يُلقى عليّ باللوم في زرقة السماء نفسها.
“أليس من الطبيعي أن لا يستطيع التلميذ فعل شيء دون أستاذه…؟”
قلت ذلك وأنا أتهيأ للرضوخ فور أن يُبدي إيليا أدنى انزعاج، لكنني بادرتُ بالاعتراض على أي حال.
“نعم، هذا طبيعي تمامًا.”
لكن إيليا فاجأني حين تقبّل كلامي مباشرةً.
“سيدي؟”
“إذا كان التلميذ لا يُحسن شيئًا دون أستاذه، فالخطأ في ذلك عائد إلى الأستاذ.”
“أعتقد أن سيدي يجز على أسنانه الآن…”
“ولهذا، ما دمنا قد التقينا، فلا بُدّ لنا من إجراء تدريب خاصّ.”
“ماذااا؟”
‘ما الذي يهذي به الآن؟!’
“لا يُمكن ترككِ على هذه الحال، كطفلٍ تُرك وحيدًا عند حافّة المياه… صحيح أن غباؤكِ حين لا أكون معكِ أمر لا حيلة فيه، لكن على الأقل يجب أن تملكي أدنى قدرة على حماية نفسكِ.”
“أهذا… أهو قلقٌ عليّ أم استهانة بي؟ هل لا يمكنك أن تختار شعورًا واحدًا فقط؟”
“أن تكوني قد استنهضتِ قوى مقدّسة وجعلتكِ أكثر ندرة وقيمة، ثم لا تملكين القدرة على حماية نفسكِ، فهذا يُشبه من ينام ليلًا والباب مفتوح.”
حاولتُ أن أحتج، لكن إيليا لم يكن مهتمًّا بسماع أيّ شيء.
“الطريقة الوحيدة لإنقاذ حالتكِ الآن هي التدريب المكثّف. فلنذهب.”
“آه…”
هذا بالذات ما كنتُ لا أريده.
لأنّ ما يُطلق عليه إيليا ماراكش “تدريبًا خاصًّا”، يعني سحق جسدي ومناي حتى آخر قطرة، وإخراج نتائج مهما كلف الأمر.
‘لو أمسكني به، فسوف أظل طريحة الفراش لثلاثة أيام على الأقل.’
صحيح أنني بحاجة لتطوير قدراتي السحرية، لكن ليس بهذه الطريقة. هذا ما كنت أشعر به بكل صدق…
نظرتُ حولي بسرعة أبحث عن منقذ، لكن لم يكن أحد يجرؤ حتى على الاقتراب من هذه الجهة.
‘لا…!’
لو استمرّ الأمر هكذا، فسأُؤخذ بالقوّة فعلًا. بدأ العرق البارد يتصبّب مني بينما أفكّر بسرعة.
“التـ… التعلُّم الميداني!”
“هاه؟”
“ماذا لو اعتبرنا هذا اليوم يومَ تعلُّم ميداني يا سيدي؟”
“وما هذا الهراء الجديد؟”
“أنت من انزعج لأنني كنتُ على وشك أن أُخدع، صحيح؟”
حدّق إيليا بي بنظرة معقّدة لبُرهة.
“لا أعلم إن كان عليّ أن أمدحكِ لأنكِ تعينَ قدركِ، أم ألومكِ لأنكِ تفتقرين إلى أدنى حسٍّ بالكرامة…”
“المهم! لهذا السبب علينا أن نجعل هذا اليوم تدريبًا عمليًّا. تتجوّل معي، وتُعلّمني كيف لا أقع في الخداع مجددًا، بطريقة واقعيّة حيّة، أليس هذا مفيدًا؟”
<النظام> تفعيل تأثير لقب “خبيرة التفاوض”!
<النظام> إيليا ماراكش بدأ يُصغي إليكِ بجدّية.
كنتُ أرغب أصلًا أن أتجوّل بمفردي، لكن بما أن الأمر آل إلى هذا، فلم يكن أمامي خيار.
“تجربة ميدانية حية! وسط سوق يعج بالمواد الخام والمواد التعليمية! ألا ترى أنه من الحكمة الاستفادة من هذا المحيط؟”
“كلامكِ ليس خاطئًا تمامًا، لكن… لماذا أشعر أنني أنجرّ لما لا أريده؟”
قالها إيليا وهو يعبس غير راضٍ. نظرتُ إليه بعينين لامعتين، متذكّرةً تعابير “القطّ مرتدي الجزمة”.
التعليقات لهذا الفصل " 103"