رمشت الأميرة سيسيليا بعينيها في حيرة أمام السؤال المفاجئ.
“عفواً، ماذا تقصد…؟”
“كاليكس.”
سارعتُ إلى مقاطعة كاليكس قبل أن يتمادى في الحديث.
ولحسن الحظ، يبدو أن الأميرة سيسيليا ليست ممن ينتبهون إلى التفاصيل الدقيقة، إذ ابتسمت مجددًا ببراءة وأجابت:
“لا أتذكر كل ما قاله تحديدًا، لكن ما أستطيع قوله هو أن سمو ولي العهد لم يفعل إلا أن مدح الآنسة يوري كثيرًا.”
ازداد وجه كاليكس تصلبًا.
“أحقًا قال ذلك؟”
“سمو الأميرة…”
لم أشأ أن أترك الأمور تتصاعد على هذا النحو، فبادرت بسرعة وقلت:
“يبدو أن الوقت قد حان… ما رأيكِ بأن نتابع حديثنا بعد أن ننتقل إلى جزر كورال؟”
“نعم، دعونا نفعل ذلك.”
أجابت الأميرة سيسيليا بنعومة وهي توافق بسرور على اقتراحي، ولحسن الحظ انتهى الموقف عند هذا الحد.
خلال هذه الإجازة، تقرر ألا نقيم نحن الثلاثة في فيلا العائلة الإمبراطورية، بل تقيم الأميرة سيسيليا في فيلا عائلة روزانهير.
فجزر كورال، مقارنةً بالعاصمة، كانت ذات مساحة ضيقة، ولذلك كانت فيلات النبلاء متمركزة في منطقة واحدة متقاربة.
أما فيلا العائلة الإمبراطورية، فكانت تقع في مكان ناءٍ بعض الشيء عن سائر المنازل. وكان ذلك جيدًا لمن ينشد الهدوء، إلا أنه يتطلب اهتمامًا أكبر بالجانب الأمني.
ولهذا السبب، وُجِّهت دعوة إلى الأميرة سيسيليا للإقامة في فيلتنا.
“إنه أول يوم في حياتي أزور فيه فيلا تخص شخصًا آخر!”
ويبدو أن الأميرة كانت مسرورة جدًا بذلك.
“أتمنى أن تقضي وقتًا مريحًا دون أي إزعاج خلال إقامتكِ معنا.”
قالت إليني بلطف، وهي تمسك بيد الأميرة سيسيليا برقة.
“سأبذل جهدي لمساعدتكِ بكل ما أستطيع، جسدًا وروحًا.”
“أشكركِ على كلماتكِ الطيبة.”
توردت وجنتا الأميرة سيسيليا بلون وردي خفيف. في البداية ظننت أن الأمر مجرد بقايا من الحماس الذي لم يخمد بعد، ولكن…
كلما راقبتها أكثر، كنت أتساءل في نفسي:
‘هل من الممكن أنها لا تستطيع التحكم بتنفسها كما تشاء؟’
فتحدثتُ إليها بحذر:
“سمو الأميرة، إن شعرتِ بالتعب، يمكنكِ النوم قليلًا حتى نصل إلى الفيلا.”
كنا في تلك اللحظة في طريقنا إلى فيلا روزانهير، في عربة خُصصت لنقلنا من موقع دائرة الانتقال السحري. ولم يكن في أخذ قسط من الراحة ما يدعو للقلق.
بدت الأميرة سيسيليا متفاجئة من اقتراحي، ولم تخفِ شعورها بالحرج.
“في الحقيقة، لست معتادة أن أبدو متعبة بهذا الشكل…”
قالت ذلك وهي ترمش ببطء وكأنها تعتذر عن حالتها.
فجأة، سألتها إيليني:
“هل تعانين من مشكلة صحية خطيرة؟”
كان سؤالًا قد يُعد فظًا في بعض السياقات، لكن الأميرة سيسيليا لم تنزعج، بل أجابت بلطف:
“لا أعاني من مرض محدد، لكنني وُلدتُ بجسد ضعيف بطبيعتي.”
ثم أخذت نفسًا عميقًا مرة أخرى، وابتسمت بخجل وكأنها تشعر بالإحراج:
“أشكركِ على اهتمامكِ، آنسة يوري. ما دمتِ لا تمانعين، فسأرتاح قليلًا فقط…”
وما إن أنهت جملتها، حتى غلبها النعاس سريعًا.
رغم أنها قالت إنها ستأخذ قسطًا بسيطًا من الراحة، فإنها لم تستعد وعيها الكامل حتى بعد وصولنا إلى الفيلا.
كانت الرحلة قصيرة جدًا لدرجة أنه يصعب تسميتها “سفرًا”، لكن يبدو أن حتى هذا الجهد كان عبئًا على جسدها الواهن.
كنت أظن أنها بخير، خاصة وأنها حضرت حفلات الرقص والمهرجان التأسيسي…
…لكن، إن تذكرت جيدًا، لم يسبق لها أن بقيت حتى نهاية أي مناسبة.
عندما عادت إلى غرفتها، بدت متحسرة للغاية، لكن مُربيتها المُسنة هدأتها قائلة إنها ستكون قادرة على الاستمتاع غدًا إذا ما أخذت قسطًا جيدًا من الراحة.
اقتنعت الأميرة بكلماتها ودخلت غرفتها بهدوء.
“آه، سمو الأميرة…”
قالت المُربية، وهي تراقبنا بطرف عينها وتتكلم بصوتٍ يبدو وكأنه موجه لنا:
“لقد كانت بصحة ممتازة وهي صغيرة. الحمد لله أنها لا تعاني من مرض خطير!”
…يبدو أنها قلقة من احتمال أن نبدأ بنشر شائعات عن صحة الأميرة.
على أية حال، ما إن دخلت الأميرة إلى غرفتها، حتى تبعتها إليني بسرعة، معتذرة بأنها ستخلد إلى غرفتها هي الأخرى.
وما إن بقينا وحدنا، حتى سألني كاليكس:
“أختي، ماذا تنوين أن تفعلي الآن؟”
“من يدري… ما الذي يمكن فعله؟”
ورغم أن هذه كانت زيارتي الأولى الفعلية إلى جزر كورال، فإنني كنت على دراية عامة بها من خلال ما عرفته في اللعبة.
الأماكن الجديرة بالزيارة؟… الشاطئ، المسرح، السوق… تقريبًا هذا كل شيء.
وكانت جزر كورال تُعد مركزًا تجاريًا هامًا للإمبراطورية، ويُقال إن السوق هناك يعج بالسلع الغريبة والنادرة.
ربما سيكون من الممتع التجول قليلًا على الأقل.
بينما كنت ألملم أفكاري، رددت عليه بالسؤال:
“وأنت، كاليكس؟”
“أنا…”
توجّه كاليكس بنظرات غير راضية نحو أمتعتي التي كان يتم إنزالها من العربة.
“…لديّ بعض الأعمال التي جلبتها من العاصمة، وأظن أنه عليّ إنهاؤها أولًا.”
“لا بد أن الأمر متعب.”
في مثل هذه اللحظات، تراودني أفكار كثيرة. صحيح أنني أضع حياتي على المحك في محاولة اختراق نهاية سيئة، لكن مع ذلك، يبدو وضعي هذا أفضل من أن أكون وريثة للعرش.
تنهد كاليكس وقال:
“يبدو أنكِ تنوين الخروج.”
“على أي حال، ألسنا في إجازة؟”
صحيح أنني لم أغادر العاصمة بمزاجٍ عالٍ، لكني على الأقل خرجت.
ولوهلة، اعتقدت من تنهيدته أنه سيقترح أن نخرج سويًا، لكنه فاجأني بإلقاء نظرة على ساعته ثم أومأ موافقًا.
“أتفهم رغبتكِ في ألا تضيعي وقتك وأنتِ في إجازة نادرة.”
“أوه، حقًا؟”
اتسعت عيناي بدهشة من موافقته غير المتوقعة، لكن كاليكس صوب نحوي نظرة حادة وأردف:
“لكن عليكِ العودة في وقتٍ مناسب.”
أنا لست طفلة، ولا حاجة إلى مثل هذا التوبيخ…
…لكنني لم أرغب في التفوه بذلك علنًا ثم أضيّع فرصة نادرة للحرية، لذا اكتفيت بهز رأسي بمظهرٍ مطيع.
بمجرد أن أخرج، فمتى أعود؟ هذا أمر أقرره أنا.
كاليكس حدّق في وجهي بنظرة متشككة وكأنه يعلم ما يدور في خاطري.
“لا يجب أن تكرري ما حدث في المهرجان السابق عندما افترقتِ عن الفرسان المرافقين.”
“نعم، نعم.”
“أرجوكِ كوني حذرة أثناء خروجكِ. هل فهمتِ؟”
“نعم، سأكون كذلك.”
رغم أنني أجبت بلطف على كل ملاحظة، فإن ملامحه ظلت متجهمة دون أن تلين.
لكن الواقع أن لا حيلة لديه الآن، فتنهد أخيرًا وسمح لي بالذهاب.
بالطبع، لم ينسَ أن يوصي الفرسان المرافقين مرارًا وتكرارًا بأنهم سيُحاسَبون بشدة إن تركوني أفلت من رقابتهم.
وهكذا، حصلتُ أخيرًا على حريتي.
***
خرجتُ بصحبة الفرسان المرافقين متجهة نحو السوق، وهو المكان الذي اخترته كوجهتي الأولى.
وكما يُتوقّع من مركز بحري للتجارة في الإمبراطورية، كان سوق جزر كورال يعج بالحيوية والازدحام.
ما يميز هذا السوق هو أنه مقسوم إلى قسمين:
السوق العليا والسوق السفلى.
وكان الفاصل بينهما ببساطة هو: السعر.
السوق السفلى كانت أقل أمانًا نسبيًا، بينما كانت السوق العليا تتمتع بحراسة مشددة، ما جعلها أكثر أمنًا وسهولة في التجوال.
ربما أتجول قليلًا، ثم أتناول طبقًا من المأكولات البحرية في المطعم الشهير الذي ظهر في اللعبة؟
كنت آمل كذلك أن أستلهم فكرة ما قد تُفيدني في مشروعي التجاري القادم بينما أتجول في السوق العليا.
بهذه الخطة البسيطة في ذهني، أوقفت العربة عند مدخل السوق العليا وترجلت منها.
ورغم أن السوق كانت تخضع لتفتيش أمني صارم منذ المدخل، إلا أنني، بما أنني وصلت في عربة تحمل شعار دوقية روزانهير، لم أُطلب مني إبراز هويتي.
دخلت السوق يرافقني فارسان، وعند البوابة سلّمني موظف السوق شيئًا.
“خريطة السوق.”
أخذ الفارس الخريطة نيابةً عني، وراح يفحصها بدقة ليتأكد من أنها آمنة، ثم ناولني إياها.
‘كاليكس…’
تنهدت في داخلي وأنا آخذ الخريطة من يده.
عندما فتحتها، وجدت أن السوق العليا مقسمة بحسب أنواع البضائع، وكانت المنطقة التي وصلت إليها مخصصة لكل ما يتعلق بالسحر.
‘السحر، هاه…’
راقت لي الفكرة. أمسكت بالخريطة وبدأت بالسير.
رغم وجود زحام نسبي، إلا أنه لم يكن بمستوى زحام مهرجان توار. وكان الناس منشغلين بإغراء الزبائن والمساومة، حتى أنني تمكنت من التنقل دون أن يلاحظني أحد كثيرًا.
رغم أنهم يتنحون قليلًا دون وعي، إلا أن الأمر لا يُزعجني. طالما أنه مريح، فلا بأس. فليس كأنني أتنكر في زي خفي.
رغم أن كلمة “سحر” أغرتني، إلا أنني لا أمتلك المعرفة الكافية للحكم على المعروضات، فاكتفيت بالتنقل بين الأكشاك بنظرات فضولية، أصغي لنداءات الباعة.
ثم فجأة، جذب شيء على أحد الأكشاك نظري.
“هاه؟”
كانت هناك كرة عين ضخمة محفوظة داخل زجاجة طويلة بتقنية حفظ خاصة.
عين صفراء اللون ذات حدقة طولية ممزقة بدت مألوفة جدًا لدي.
“أترغبين في الاطلاع، آنسة؟”
سألني البائع، الذي يبدو أنه لاحظ اهتمامي، وهو يفرك يديه بود.
أومأت برأسي قليلًا.
“هل هذه عين مخلوق سحري؟”
“أوه، يا لها من نظرة خبيرة! نعم، هذه عين مخلوق يُدعى ذئب الكومودو.”
ذئب الكومودو… كان هذا اسم الوحش الذي واجهته أثناء مهرجان الصيد. وهو أول وحش قطع رأسه الارشيدوق وأهداني إياه.
وتذكّرت حينها كلمات إيليا، حين نظر إلى الرأس المقطوع بسعادة:
“عين ذئب الكومودو مفيدة جدًا كمحفز لصناعة الإكسير، خاصة تلك التي تعزز استجابة المانا.”
لا تزال صورة وجهه المبتسم وقته حاضرة في ذهني.
‘بما أنني صادفته هنا، لم لا أشتريه له كهدية؟’
“بكم ثمنه؟”
“في العادة، بخمسة دنانير ذهبية من روديم، لكن إن أردته الآن، فسأمنحكِ إياه بأربعة فقط.”
“…سعر جيد.”
لكن، في تلك اللحظة تمامًا، تسللت بيني وبين التاجر نبرة باردة لصوت مألوف:
التعليقات لهذا الفصل " 102"