كانت اعتذاره خالصًا تمامًا، لم يتضمّن أي نبرة تبرير أو دفاع عن النفس.
“……”
لم يُبدِ الارشيدوق أي اعتراض أو محاولة تفسير، لكنني لم أستطع منع نفسي من تذكّر كيف كان يتشبّث بي متوسلاً.
بصراحة… لم يكن في كامل وعيه على الأرجح.
ومع ذلك، الغريب في الأمر أنه لم يكن مخيفًا أو مزعجًا…
‘هل لأن كل ما فعله هو التوسل والتشبث بي فحسب؟’
لا أعلم حقًا كيف أصف ذلك.
وقتها، صدمني الموقف فعلًا، لكن حين أفكر فيه الآن…
‘ذلك التوسل بدا لي كصرخة يائسة من شخص يتشبث بالحياة.’
تمامًا كالغريق الذي يتخبّط في الماء، فيتعلّق بأي شيء يقع بين يديه، بدافع النجاة.
حسنًا، من الأفضل أن أتوقف عن التفكير أكثر من هذا.
“كم مضى من الوقت منذ أن أحضرتني إلى هنا؟”
“لم يمضِ وقتٌ طويل، ربما ساعة تقريبًا؟”
أومأت برأسي ببطء.
“إن عدنا إلى القصر الإمبراطوري الآن، يمكننا التذرع بأن كِلا منا كان يتجول في مكانٍ ما داخل القصر… أظن أن تلك الحجة ستكون مقبولة.”
“هل تقصدين أنكِ ستُغطين على الأمر؟”
“بخصوص مسألة امتصاص الجوهرة، فلا يمكنني فعل شيء حيالها.”
قلتُ ذلك بوضوحٍ قاطع، فالجوهرة، من الناحية المبدئية، ليست ملكي الكامل، وإن قرر والدي تحميله المسؤولية فلن يكون بوسعي الاعتراض.
“لكن مسألة إحضاري إلى هنا… لم يحدث بيننا شيء يُذكر، وإن انتشر الخبر فسيثير ضجّةً كبيرة، لذا أظن من الأفضل لي أن نتكتم على الأمر.”
“…صحيح. يبدو ذلك منطقيًا.”
أومأ الارشيدوق موافقًا، وكأنما أراد أن يؤكد لي أنه فهم أنها لم تكن محاولة تغطية من أجلي بل لأجل مصلحتي أنا فقط.
“سأتولى تعويضكِ شخصيًا عن هذا الأمر.”
“آه، إن كان الأمر كذلك، فلن أمانع إطلاقًا.”
ابتسمتُ ابتسامة مشرقة، مشكّلة دائرة صغيرة بإبهامي وسبابتي.
“وللمعلومية… أنا أحبّ التعويضات المادية كثيرًا.”
ضحك الارشيدوق قليلًا.
“سآخذ ذلك بعين الاعتبار، وبكل تأكيد.”
***
بمساعدة أحد السحرة، انتقلنا سريعًا إلى محيط القصر الإمبراطوري، ثم تسلّلنا إلى الداخل دون أن يلحظنا أحد.
وكما خرج بي دون أن يشعر به أحد، استطاع الارشيدوق العودة بالطريقة ذاتها دون أدنى صعوبة.
بل إنه كان بارعًا لدرجة جعلتني أتساءل:
‘هل حراسة القصر… بهذا السوء فعلًا؟’
لكن، في النهاية، ليس هذا منزلي، فلا داعي أن أشغل بالي.
على كل حال، نفذنا خطتنا ببراعة: تجولنا كل في جهة ثم عثر علينا وكأننا كنا نبحث عن طريق العودة.
لم يساور أحدٌ الشك فينا.
أما سبب مغادرتنا القاعة فجاء على النحو التالي:
الارشيدوق صُدم من امتصاصه للجوهرة، وأنا انصدمت من انتزاعها مني.
وبالطبع، أمر امتصاص الجوهرة—ذلك الحدث الصادم—أُبقي سرًا محصورًا بين المعنيين فقط.
وقبل بدء مأدبة الاحتفال بمناسبة تأسيس المملكة، استدعى الإمبراطور جميع من كانوا على الشرفة وقت الحادثة، وأمرهم بعدم إفشاء شيء.
ثم استدعى الإمبراطور والدي وأنا، ومعنا كاليكس والارشيدوق، لمناقشة الأمر على نحو خاص.
في أجواء مشحونة، حيث لم يجرؤ أحد على البدء بالكلام، كسر الإمبراطور الصمت أولًا:
“بحسب ما سمعته منكما، يبدو أن امتصاص الارشيدوق روين للجوهرة كان محضَ حادث عرضيّ فعلًا.”
“……”
تنفّس الإمبراطور الصعداء، وقال:
“نظرًا إلى أنّ ما حدث غير مسبوق، فأنا حقًا لا أعلم كيف عليّ التعامل مع الأمر، لكن من حيث المبدأ… أظن أن المسؤولية الأولى تقع على عاتقي.”
وهذا صحيح.
فمن أمرني بإجراء العرض السحري من الأساس—رغم أنه لم يكن ضروريًا—هو الإمبراطور، ووقوع الحادثة أثناء ذلك العرض يجعل مسؤوليته واضحة تمامًا.
رغم أنني لم أتوقّع أن يعترف بها بهذه السهولة.
نظر الإمبراطور إلى والدي بنظرة جادة، وقال:
“سأتكفل بهذه المسألة قدر استطاعتي، وسأعوضكم شخصيًا.”
“…نعم، مفهوم.”
بما أن الإمبراطور تحمل المسؤولية بنفسه ووعد بالتعويض، لم يكن هناك ما يمكننا المطالبة به أكثر.
وأثناء سير هذه المفاوضات، لم ينطق الارشيدوق بكلمة واحدة.
وحالما انتهت المناقشة، غادر المجلس دون أن يلتفت وراءه.
“أختي؟ ما الذي تنظرين إليه بهذه الطريقة؟”
“آه، هاه؟”
كنت أحدّق في ظهر الارشيدوق وهو يبتعد، قبل أن ينتشلني صوت كاليكس من أفكاري.
“لا، لا شيء.”
رمقني كاليكس بنظرة قلقة.
“…هل تشعرين بالإرهاق؟ هل تريدين العودة إلى المنزل؟”
“لا، ليس إلى هذا الحد.”
هززت رأسي نفيًا.
“وإن عدتُ الآن إلى المنزل، قد يثير الأمر بعض الشبهات بين الحضور.”
“هذا… بالفعل صحيح.”
كان من الواضح أن النبلاء رفيعي المستوى الذين بقوا في القاعة الداخلية، والذين لم يعرفوا شيئاً عن الجوهرة، سيتناقلون الأحاديث حولي، كيف أنني اندفعت فجأة خارج الشرفة ولم أظهر في الحفل بعد ذلك.
وكان حفل العشاء الرسمي بمناسبة ذكرى تأسيس المملكة يحضره عدد أكبر بكثير من الناس مقارنة بحفل الليلة السابقة.
ما إن دخلت قاعة الاحتفال، حتى بدأت همسات خفيفة تنتشر بين الحضور.
“انظروا هناك.”
“يا إلهي، إنها الآنسة يوري إلروز.”
“ما أروع المشهد حين عرضت الجوهرة في الساحة اليوم.”
“هل علمتِ؟ هناك إشاعات تنتشر بين عامة الناس بأن الآنسة يوري قد تكون ‘قديسة’.”
“تبدو مبالغاً فيها بعض الشيء، أليس كذلك؟”
“بالفعل، فهي لم تُظهر سوى القوة المقدسة، لا أكثر.”
“ونحن جميعاً نعلم أن سلالة دوقات روزانهير تنحدر من سحرة يمتلكون القوة المقدسة.”
“يا للأسف. أليس من المبكر أن نعلق كل هذه التوقعات على شابة صغيرة؟”
أسمع كل شيء، حرفياً كل شيء.
تحدث كاليكس إليّ بوجه متجهم:
“أختي، لا تكترثي لهم.”
“لا، لا أشغل بالي، لا تقلق.”
كان من الطبيعي أن تكثر الأحاديث عني بما أنني لفتُّ الأنظار كثيراً. تنهدت في داخلي، ثم تناولت كأساً من أحد الخدم المتجولين.
كان حمل الكأس بمثابة إشارة غير مباشرة تعني: “أنا لا أرغب في الرقص حالياً.”
وبدا أن كاليكس ينوي أن يلازمني طوال الحفل، إذ هو الآخر يأخذ كأس أيضاً، ولكن…
“أخي، كنت أبحث عنكِ.”
لقد ظهرت إيليني.
“إيليني؟”
بدا كاليكس مرتبكاً بوضوح. ربما لأنه أدرك غرض إيليني من قدومها.
قالت إيليني، وقد علت وجهها ملامح خفيفة من الخجل:
“هل سيكون من الصعب أن… ترقص معي؟ أعني، بعد ما حدث البارحة…”
ترددت كلماتها وهي تخفض صوتها، في حين نظر إليّ كاليكس وقد بدا عاجزاً عن التصرف.
‘يا للمأزق…’
تنهدت في داخلي.
كنت أعتمد على بقاء كاليكس بجانبي اليوم…
كان من المفترض أن يكون كاليكس درعي الواقي من الأسئلة المرهقة وفضول الناس طوال هذا اليوم.
خصوصاً بعد أن تركني والدي مع كاليكس ليغادر لتدبير بعض شؤونه.
“أختي…”
قالها كاليكس بنظرات من الرجاء. فأومأت له برأسي بتفهم.
“لا بأس يا كاليكس، اذهب.”
“سأعود بسرعة… أرجوكِ انتظريني قليلاً.”
“حسناً.”
تنهد وهو يمد يده لإيليني، فأمسكت بها بقوة، وكأنها لن تدعها تفلت أبداً.
وبذلك بقيت وحدي، فأخذت أتلفت حولي.
”هل أذهب إلى الشرفة لأقضي بعض الوقت قبل أن يُمسكني أحدهم؟’
وبينما كنت أتحرك على هذا الأساس…
“…ها أنتِ هنا، أميرتي.”
“!؟”
صوت مألوف ناداني.
رفعت رأسي فجأة، فالتقت عيناي بتلك العينين الحمراوين التي رأيتها كثيراً اليوم.
“…صاحب السمو الارشيدوق.”
لقد عاد، بعد أن غادر دون أن ينبس ببنت شفة.
“لماذا أتيت إليّ مجدداً…؟”
“أليس ثمة سبب وحيد يجعل الناس يبحثون عن شخص ما في قاعة الرقص؟”
“عذرًا؟”
ابتسم ابتسامة خفيفة ومد يده نحوي، قائلاً:
“ارقصي معي، أميرتي.”
كان عرضاً صادماً.
“…ألم تقل إنك لم ترقص قط منذ كنت في الخامسة من عمرك؟”
“هذا صحيح.”
ردّ بلا خجل:
“لكن من يدري؟ ربما كنت عبقرياً في الرقص منذ الخامسة، فامتلكت حينها مهارات مكتملة.”
نظرت مطولاً إلى تلك اليد التي رفضت أمس أن تُمد لإيليني.
لو أمسكت بها الآن ورقصت معه، فستتعرض إيليني، التي أمسكت يد كاليكس في محاولة لتغطية ما حدث البارحة، لشائعات مزعجة لا طائل منها.
‘…لا يبدو خياراً سيئاً.’
حين طال صمتي، قال الارشيدوق:
“إن لم ترغبي، فلا بأس…”
“لا، لا أمانع.”
بعد أن أكملت حساباتي، وضعت يدي في يده.
“فلنرقص.”
“…”
بدا وكأنه لم يتوقع أنني سأوافق، وظل ينظر إليّ بذهول.
“ألست سترقص؟”
“أنا…”
قال بنبرة شبه مبحوحة:
“…ألستِ خائفة؟”
“…”
سؤال مبكر جداً. ابتسمت ابتسامة خفيفة.
“لا، لست خائفة.”
“…”
“لقد توسلت إليّ، أليس كذلك؟”
حين ذكرته بما فعله، حين كاد يركع عند قدميّ، ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه.
“هذا صحيح.”
لا أعلم لمَ أستطيع تطهيره، ولا لمَ يشعر بالراحة عند ذلك، لكن ثمة شيء واحد واضح…
أنا من يمسك بزمام الأمور في هذه العلاقة.
“…”
بدلاً من الرد، ابتسم قليلاً وأخذ يقتادني برفق.
وبينما كنا نسير بخطوات رقص نحو مركز القاعة، أحسست بأن أنظار الجميع تلاحقنا.
خُيّل لي أنني التقطت طرفاً من نظرة إيليني الخضراء، لكنني لم أكن واثقة تماماً.
لم يكن الارشيدوق بارعاً مثل إيان، لكنه قادني بثقة. على الأقل كان أفضل بكثير من سيدريك أو إيليا.
“يبدو أنك كنت عبقرياً فعلاً في الرقص وأنت في الخامسة.”
“نعم، شيء من هذا القبيل.”
قلت ذلك بسخرية، لكنه أجاب بجدية. فلم أتمالك نفسي وضحكت بخفة.
“كيف خطرت لك فكرة دعوتي للرقص؟”
“لا أدري، لماذا يا ترى؟”
“لم تعد تتوسل، على ما يبدو.”
ابتسم الارشيدوق، بابتسامة فيها معنى خفي.
“أما تفكرين أنني أتمالك نفسي بصعوبة؟”
“حتى لو كان كذلك، فهذا المكان ليس مناسباً.”
إن طهرته هنا، من يدري ما قد يحصل وما الإشاعات التي ستنتشر؟
رفع حاجبيه بسخرية.
“هل تظنين أنني فقدت صوابي إلى هذا الحد؟”
“آه، في الحقيقة…”
“إن كان الأمر كذلك، فأنتِ محقة.”
“…”
قادتني كلماته، رغم ابتسامته، إلى تجمد خفيف، لكنه تابع رقصه بلطف.
استجمعت قواي سريعاً وقلت:
“أرجوك، دعني أذهب الآن.”
“آسف، لا يمكن يا أميرتي. لقد وافقتِ بالفعل.”
أجابني بنبرة مرحة، لكن حازمة.
“نصيحة متأخرة، لكن كان يجدر بكِ الحذر من البداية.”
“…”
“فمن يمنح أمثالي الموافقة مرة، لا يستطيع التراجع عنها أبداً.”
“هذا عقد مرتجل وغير رسمي.”
“لكنكِ وقعتِ عليه، أليس كذلك؟”
ردّ بثقة. وبينما كنت أستدير اعتماداً على يده، رفعت شفتيّ قليلاً بانزعاج.
قال بلهجة مليئة بالمرح:
“من الجيد أن تظني أنكِ انتصرتِ عليّ. لستِ واهمة في ذلك. لكن تذكري شيئاً واحداً فقط.”
ثم اقترب من أذني وهمس بصوت رتيب كأنما يغني:
“…حين أتوسل، فهذا ما أعنيه.”
وكانت رقصة لا يمكن التراجع عنها، استمرت لفترة طويلة.
التعليقات لهذا الفصل " 100"