مرّ قرابة شهرٍ منذ انضمّ الأمير الثالث إدوين إلى تدريب الفرسان.
وبخلاف البدايات، صار يبدو متمكّنًا إلى حدٍّ ملحوظ من التمارين.
وأثناء ركضه بين فرسان الوحدة الثالثة، قال له أحدهم:
«أحسنت، بات أداؤك مواكبًا لنا.»
فمرّر إدوين سبابته بخجل أسفل أنفه، وما إن رأى بقية الفرسان ذلك حتى توالت التعليقات:
«صحيح. في البداية كنتَ بالكاد تلاحق ظلالنا.»
«مستواك تحسّن كثيرًا مقارنةً بأول يوم.»
«بهذا الإيقاع، قد تصبح من فرسان غلوريا أيضًا يا سموّك.»
«جيّد. متى ما انضمّ سموّه، تفضّل وغادر أنت.»
«ماذا قلتَ أيها الوقح؟»
ضحك إدوين في هدوءٍ على مزاحهم—مشهدٌ لم يكن ليتخيّله يوم لقائهم الأول.
وكلّ الفضل لكاثرين.
تذكّر يومَ جاءت كاثرين للمرة الأولى إلى الثكنة، بعد نحو أسبوع من بدء تدريبه.
كانت قد حضرت بصحبة ريتشل.
أن تأتي ريتشل مفهوم، لكن كاثرين أيضًا؟
أما ريتشل فبدت متضايقة كأنها لم تودّ المجيء أصلًا.
قالت كاثرين بخفّة وهي تلوّح:
«أوه يا سلام… مرحبًا، أيها الفرسان! واضح أنكم تُجهدون أنفسكم في التدريب!»
ولم يكن إدوين وحده من تفاجأ؛ فالفرسان—ومعظمهم من عامّة الناس—نادراً ما يلتقون بمن ينتمون إلى البلاط، وها هما امرأتان من القصر أمامهم. وبينما أخذ رجالُ الوحدة الثالثة يتصرّفون كعزّابٍ سيقوا إلى الطاحونة:
«آه، كدتُ أنسى التعريف بنفسي. أنا كاثرين فايل، أخدم سموّ الأمير الثالث.»
وضعت يدها على صدرها بانحناءة رشيقة، ثم تناولت السلّة الكبيرة من ريتشل وكشفت ما فيها:
«وكما أمر سموّ الأمير، جهّزتُ الكثير، فكلوا حتى الشبع~!»
عندها مال إدوين برأسه حيرة؛ إذ لم يصدر عنه أمرٌ كهذا قط. وكاد يعترض، غير أنّ كاثرين ابتسمت ولوّحت له بخفية أن «لا تقل شيئًا»، وريتشِل بجانبها رفعت إصبعها إلى شفتيها إشارةً إلى الصمت.
وبينما ظلّ الأمير متحيّرًا من هذه الإشارات:
«شكرًا لكم، يا سموّ الأمير!»
هتف الفرسان بصوت واحد ملأ ساحة التدريب.
ولعلّها كانت تلك اللحظة التي بدأ فيها نظرُ الفرسان يتبدّل تجاه الأمير.
بعد ذلك صارت كاثرين تزور فرقة الفرسان يومًا بعد يوم وهي تحمل الوجبات، فارتفعت شعبية إدوين بين أفراد الوحدة الثالثة يومًا بعد يوم.
«يا سموّك… هل تلك السيّدة مرتبطة بأحد بجدية؟»
«أيّ سيّدة؟»
«الملاك صاحبة الشعر العاجي.»
«آه، تعني كاثرين؟»
«نعم!»
«لستُ متأكدًا، لكن على الأغلب لا.»
— واااه—
ما إن أجابهم حتى دوّى هتافٌ غريب؛ فشعبية كاثرين بدورها كانت تتصاعد بسرعة.
«صحيح. بفضلها صرتُ آكل جيدًا حتى أشعر أن وزني ازداد.»
«آه! نائب القائد! متى وصلت؟»
وفيما هم مستغرقون في الثرثرة، كان فيليب قد لحق بهم من الخلف.
«أضيفوا عشرة طلعات ذهابًا وإيابًا.»
«آآاخ! يا نائب القائد! كثيرٌ هذا—!»
عاد الفرسان إلى الركض وهم ينوحون، وتنهد إدوين وهمّ بالالتحاق، لكن فيليب أوقفه:
«سموّ الأمير.»
«هل تخصّص لي دقيقة من وقتك؟»
طلبٌ غير متوقَّع؛ فحدّق إدوين بعينين واسعتين، لكنه لم يرفض:
«ه؟ أ-أجل، بالطبع.»
«من هذا الطريق.»
استدار فيليب إشارةً إلى أن يتبعه. نادرًا ما يستدعِيه أحد من خارج قصر الأمير الثالث.
وبين قلقٍ وترقّب، تبعه إدوين حتى وصلا إلى مكتب نائب القائد.
تردّد الأمير خطوةً: هل ضاق صدره من طريقة تدريبي؟ أترى سيخبرني بألا آتي بعد الآن؟
وقال بصوتٍ يتخلّله الارتجاف: «لِمَ جئتُ إلى هنا…؟»
فقال فيليب وهو يفتح درجًا: «تفضّل، خُذ هذا.»
«هاه؟»
على خلاف توقّعاته، لم يعنّفه ولم يطرده؛ إنما أخرج شيئًا من الدرج وقدّمه له.
قفّازات؟
تناول إدوين القفّازات: جلدٌ بلونٍ بُنّيّ داكن ولمعانٍ مميّز.
«إنها قفّازات من جلد الويفرن. استعملها عند تسلّق السلالم.»
«آه…»
نظر إدوين إلى كفّيه؛ يدان صغيرتان بيضاوان غطّتهما الفقاعات والجلَدُ السميك من قسوة التدريب.
«لكن… أنا وحدي من يتلقى شيئًا كهذا…»
قال فيليب: «لا حاجة للقلق على بقية فرسان الوحدة الثالثة.»
فهؤلاء تمرّسوا سنواتٍ في التدريب وأيديهم لا تفارق مقابض السيوف؛ ولا تُقاس بكفّي أميرٍ غضاوين.
«بل يمكنك أن تنال قفّازات أفضل لو أردت. إن لم تُعجبك هذه، فارْمِها…»
«لا! لن أرميها أبدًا!»
ارتفع صوتُ إدوين فجأة، وارتداها بعناية.
وتلألأت عيناه وهو يطالع كفّيه المغلّفتين—تلألؤًا يكاد يُثقل على الناظر.
راقب فيليب الأمير وهو يحرّك أصابعه بمرح، وشعر على نحوٍ غريبٍ بالحرج: أكلّ هذا من أجل قفّازين؟ أهو لم يتلقَّ هديةً من قبل؟
وكأنّ إدوين قرأ خواطره، التفت إليه بابتسامةٍ صافية:
«هذه أول مرّة أتلقى فيها هديةً من شخصٍ غير إيما!»
«…ماذا؟»
«أوه، وليو أيضًا. أنتَ الثالث يا سيدي فيليب!»
بُهِت فيليب. مهما يكن فقره، فهو أمير. كيف لم يتلقَّ هدايا كما سائر الأمراء؟
«أ-أحقًا؟»
«ماذا؟ أنك الثالث؟»
«لا، أعني أنها ثالث هدية في حياتك.»
«نعم، صحيح.» فكّر لحظة ثم قال بثقة: «هذه ثالث هدية أتلقاها مباشرةً من أحد.»
— وعادةً ما تُقدَّم هداياُ الأمراء يدًا بيد من مُهديها، إلا إذا جاءت من بلاد بعيدة…
«…يسعدني أن أكون الثالث إذن.»
كتمَ فيليب أسئلةً كثيرة ازدحمت في صدره، ثم راقب الأمير في صمتٍ وهو يلهو بالقفّازات لا يدري ماذا يفعل، قبل أن يقول:
«…سموّ الأمير إدوين.»
«نعم؟»
«إن لم يكن ثمة ما يمنع…» رفع فيليب بصره فالتقت عيناه بعيني الأمير: «أتأذن لي أن أعلّمك فنّ السيف؟»
«السيد فيليب، تقول؟»
«نعم!»
نظرتُ إلى إدوين المتحمّس نظرةً مُطرِبة. كان أكثر نشاطًا من المعتاد بعد عودته من التدريب.
«قال لي سيدي فيليب: إن شئتَ، سأعلّمك السيف!»
مال نحوي يكاد يهوي من شدّة الحماس:
«هل أستطيع تعلّم المبارزة؟ أرجوكِ!»
برغم آدابه الرصينة على المائدة، كان في فرط الحماس على خلاف عادته.
أكان يتوق إلى تعلّم السيف إلى هذا الحد؟
لم أرسله إلى الفرسان إلا لبناء لياقته؛ وتوقّعتُ أن لا أحد سيقبَل تعليمه فنون السيف أصلًا.
وفوق هذا، لا يسوغ أن أعلّمه أسلوبي؛ فأسلوبُ السيف لدى القتلة يُعرف من أول نظرة.
لو تشهّرت يدُ أميرٍ بأسلوبٍ كهذا، لأشار إليه الجميع.
إنه فنٌّ غايته القتل وحسب؛ لا أناقة ولا زينة، ضربةٌ قاضية لا غير.
وكذلك جميع ما تعلّمته من «التنظيم»: ذهنيةٌ لا ترعوي عن وسيلة، وتقنيات قتلٍ فعّال بلا أثر.
هذه الأشياء…
نظرتُ إلى الصغير المتشبّث بكمّي بعينين متألقتين: لا يمكن أن ألقّنها له.
فيليب ماير… فارس من عامّة الناس ونائبُ قائد أقوى فيالق الإمبراطورية. خياره غيرُ سيئ.
تذكّرتُ ذاك الذي التقيتُه عرضًا في الفيلق: رجلٌ مُتحفّظ صلب—ومن طينةٍ كهذه يخرج الإتقان الأمين، لا يعرف التحايل. معلّمٌ مثالي لهذا الفتى.
أومأتُ لإدوين الذي يحدّق بي بتوسّل: «فرصةٌ عظيمة. افعل ما تشاء يا سموّك.»
«حقًا؟ حقًا؟»
«نعم. لكن الأفضل ألا يعلم أحد.»
ففي القصر كثيرون لن يروقهم أن يتلقى إدوين تدريبًا على السيف—كالقرينة الثانية التي تريد ابنَها إمبراطورًا.
«سأتحدّث أنا مع السيد فيليب.»
«حسنًا!»
هزّ رأسه بحماسة، ثم انغمس في طعامه مسرورًا… لكن ما لبث أن شحب وجهُه مع مرور الوقت.
«…أوه…»
وفي النهاية، وبعد لقمةٍ من آخر الشوربة، أسقط الملعقة وهو يلهث.
قلتُ ببرود: «ظننتُك اعتدتَ الأمر، لكن يبدو العكس.»
التفت إليّ مذعورًا، فواصلت: «إنه سُمُّ عقربٍ صحراوي. كيف الطعم؟»
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 59"