الفصل السابع والخمسون: الكبار والصغار (2)
«…كنتُ أظنّه عرضًا لا يستحقّ حتى التردّد.»
يبدو أنّ تلك المربية أحسنت “تربية” الأمير، هكذا فكّر الدوق وهو يسحب يده عن كتف إدوين بملامح غير راضية.
«لِمَ تتردّد؟»
«إنّه فقط…»
ابتلع إدوين بقية الكلام. على الرغم من أنّ أوضاعه صارت أفضل قليلًا، إلّا أنّه يعرف أكثر من أيّ أحد أنّ شيئًا جوهريًا لم يتغيّر.
ولهذا أنا أكثر حيرة.
ماذا لو حدث شيء سيّئ إن قبل العرض؟ وماذا لو كان الأسوأ إن رفضه؟
بوصفه طفلًا، لم يكن يدري أيّ خيار سيقوده إلى نتيجةٍ أفضل.
ضحك جيروم ضحكة قصيرة وقال ساخرًا: «يبدو أنّ سموّك ممّن لا يملك قرار نفسه.»
«…عفوًا؟»
اضطرب إدوين من تقلّب نبرة الدوق الذي بدا ودودًا قبل لحظات فحسب.
شدّ الأمير قبضته الصغيرة، فتابع جيروم متنهدًا: «لا أدري ما الذي لقّنَتكِ إيّاه مربيتك خلال هذا الوقت، لكن عرضي هذا صادرٌ عن حسن نية لا غير.»
قالت شيئًا؟ ريتشل؟
قطّب إدوين حاجبيه. «ماذا تقصد…؟»
أومأ جيروم كأنّه يستوعب: «أفهم. ما دمتَ صغيرًا فمن الطبيعي أن تتأثر بكلام البالغين من حولك. غير أنّك أمير. والأسد لا يُصغي إلى نباح الكلاب.»
اسودّ وجه الأمير عند هذا القول، لكن الدوق واصل بلا اكتراث:
«هل تعلم أنّ مربيتك مُتَبَنّاة من بيتٍ كَونتي؟ إنّها لا تعدو أن تكون امرأةً ساذجة تجهل كيف يدور هذا العالم.»
أهان الدوق مربّية الأمير الغائبة. وقبل أن يتمّ كلامه—
ارتفع صوتٌ ثابت من تحت ذقنه: «يا دوق كراونر.»
عينان زرقاوان كعيني الإمبراطور حملقتا فيه من أسفل.
«ليست ريتشل من هذا الصنف. فلا تتحدّث عنها بتلك الطريقة.»
كان الأمير الصغير في لحظةٍ ما قد رفع رأسه وحدّق مباشرةً في عيني الدوق، وفي عينيه انعكاسٌ لعدائه.
هكذا إذن… ارتجف جفن جيروم قليلًا.
«يا للأمير إدوين…» أغمض عينيه وجيزًا ثم فتحهما وقال: «لا يأمر المرءُ إلّا من موقعٍ أعلى.»
وفي اللحظة التالية غمر جسدَ إدوين فحيحُ نية قتلٍ خانقة.
«هئ—!» شهق الأمير وخفض رأسه. عرقٌ باردٌ انساب على وجهه المتلوّن شحوبًا.
قال جيروم بلا مبالاة وهو يسحب تلك الهالة: «يا للأسف. ظننتُ أنّ سموّك سيفهم مقصدي.»
لهث إدوين كمن كاد يغرق.
تابع الدوق: «سأعدّ ذلك رفضًا لعرضي إذن.» ثم استدار نحو ساحة التدريب وكأنّ شيئًا لم يحدث. «انتهى الحديث. بوسعك الانصراف الآن.»
الانصراف؟
أيعني ألّا يعود إلى التدريب؟ تجمّد إدوين في مكانه بوجهٍ متألم.
قال جيروم، وهو يرمقه عبر كتفه: «ما بالك واقفًا؟ ألا تنضمّ إلى الصف؟»
تنفّس الأمير الصعداء وأسرع ليلتحق بالفرسان، غير أنّ الدوق أردف: «آه… وإن عجزتَ عن إتمام تدريب اليوم، فلا حاجة بك إلى العودة بعد الآن.»
ثم ابتسم في لطفٍ زائف وهو يحدّق في وجه الأمير الشاحب: «فالمنسحبون لا يجلبون إلا المتاعب.»
في وهج الظهيرة اللاهب كانت الشمس تصبُّ نارها صبًّا.
فرسانُ الكتيبة الثالثة من فرسان «غلوريا» يجرون وهم يلتفتون خلفهم بين آونةٍ وأخرى.
قال أحدهم: «أهذا مقبول حقًّا؟»
أجابه آخر: «ماذا تعني؟»
«أعني… إنّه أمير. أننجدهده مثلنا هكذا؟»
«دع الأمر. القائد قال: لا تنشغلوا به.»
«ومع ذلك…»
«نعم، لا يزال طفلًا…»
قطّب الفرسان جباههم وهم يرمقون الأمير الثالث يلهث خلفهم غارقًا في الدموع والمخاط والعرق.
«لم هو هزيل إلى هذا الحد؟ أخي الصغير أسمن منه.»
«ألا تعلم؟ يسمّى “الأمير الرثّ”.»
«الرثّ؟ وما معنى ذلك؟»
«أي أنّه فقير مثلنا.»
أغلبُ رجال الكتيبة الثالثة فرسانٌ من العامة مهرة، لكنهم ظلّوا في هذه الكتيبة لأنّ أصلهم واطئ.
«وإلا فكيف يتدرّب أميرٌ مع أمثالنا؟»
«لكن ماذا لو سقط مجددًا؟ مهما يكن، إرغام طفلٍ على تدريبنا هذا…»
«لا تشغل بالك. نحن نموت هنا أيضًا. من لديه فُسحة لغيره؟»
«أسرعوا الخطى! إن لحق بنا الأمير قتلنا القائد!»
«اللعنة! ولمَ كان لا بدّ أن ينقلب النهارُ جحيمًا اليوم بالذات!»
وسرعان ما نسي الفرسان الأمير.
أما إدوين فكان بؤسه لا يقلّ عنهم—بل أشدّ.
أم أنّي متُّ سلفًا؟
ركبتاه تصطكّان، وباطنا قدميه يحترقان.
راوده الهربُ غير مرّة، وذهَب ذهنه شذر مذر.
لِمَ قال الدوق إنّه سيعلّمني؟ ماذا حدث بينه وبين ريتشل؟
ثم هزّ رأسه: لا يهمّ. لقد أغضبتُ سيدي جيروم… وأوجعه ذلك. كان ذلك مريرًا. ومع هذا—
لا أندم.
لم يحتمل أن يسمع إهانةً تصيب أعزّ الناس عنده.
بل إنّ ما حدث ترك في قلبه خيبة: كيف لبطلٍ أن يزدري عزيزًا على غيره بتلك الخفة؟
تمتم: «ما أحمقني…»
فجاءه صوتٌ هادئ من جانبه: «ما دمتَ تتمتم، فبقي لديك بعض القوة.»
«آه!» صرخ متفاجئًا. «سي… سير فيليب؟»
الآتي من غير صوت كان نائب القائد فيليب ماير نفسه.
رمقه إدوين ثم نظر إلى مؤخرة الصف متحيّرًا.
حسم فيليب الكلام مقاطعًا: «تشدّ كتفيك أكثر من اللازم. قَصِّر خطوتك.»
تجمّد إدوين.
تابع فيليب: «لا تلوّح بذراعيك عبثًا. اقبض كفّيك قليلًا وحرّكهما إلى الأمام والخلف.»
ظلّ الأمير يحدّق مذهولًا.
أردف فيليب: «الجبل ليس أرضًا منبسطة. ضع قدمك كلها لا العَقِب فحسب. شهيقٌ من الأنف، زفيرٌ من الفم.»
تألّق درعُه الفضي تحت شمسٍ مخفّفة بأوراق الشجر.
وختم: «إن أردت متابعة التدريب فالتزم بما قلتُه.»
صحّح إدوين هيئته كما أُمر—فوقعت المفاجأة: صار الجري أهون، وكأنّ سرعته زادت شيئًا يسيرًا.
قال فيليب باقتضاب وهو يتجاوز الأمير: «سأسبقك.» ثم انطلق.
أَعانني؟ تساءل إدوين وهو يحدّق في ظهره. لِمَ؟
لم يفهم، لكن الوقت لا ينتظره، فقد ابتعد الفرسان. أسرع يحفّزه تنفّسه الذي صار أهدأ.
عشرون صعودًا ونزولًا إلى قمة الجبل. أنجزها إدوين حتى آخرها على نحوٍ مدهش.
وليس ذلك فحسب؛ حتى تمرين «عبور الجدول» الذي أغمي عليه فيه بالأمس—أتمّه اليوم.
لم يُظهِر الفرسان دهشتهم، لكنّهم تضايقوا في صدورهم؛ فلم يتوقّع أحدٌ من فتى صغير نحيل أن يصمد لتدريب الفرسان.
جلس الأمير تحت ظلّ شجرة، ينظر إلى أولئك المجتمعين في الجهة المقابلة يتبادلون الحديث وهم يمسحون عرقهم.
أريد ماءً… قال في نفسه وهو يعانِي ظمأً حارقًا من شدّة التعرّق. لكنه آثر الصبر. فطلبُه الماءَ يعني أن يخاطبهم، ولم يشأ أن يثقل عليهم.
سيتحرّجون منّي.
طالما حذّرته إيما—مربيته الراحلة—أنّ مجرّد كونه من الدم الإمبراطوري قد يزعج الآخرين.
فجأة ظهر أمام عينيه قِرْبَة صغيرة.
«آه! سير فيليب…؟»
مرّة أخرى، تسلّل فيليب ماير بلا صوت وجلس بجانبه.
قال باقتضاب: «ماء.»
«آه… شكرًا.»
أخذها الأمير في تردد، حدّق قليلًا، ثم فتح الغطاء وشرب. كان ماءً عاديًا، لكنه ذاقه أعذبَ من العسل.
قال وهو يناوله القِرْبة في حرص: «شكرًا جزيلاً. رَوِيتُ منه.»
سأله فيليب ببرودٍ وهو يتلقّى القِرْبة: «أآمنٌ أن تقبل شيئًا هكذا بهذه السهولة؟»
«هـ-هٰه؟»
أضاف من غير أن يغيّر تعبير وجهه: «لا تدري ما عساني أكون قد خلطتُه به.»
التعليقات لهذا الفصل " 57"