الفصل الخامس والخمسون: الدوق والمربية (2)

قال جيروم بوجهٍ متشنّج وقد بدا عليه العجز عن استيعاب ما سمع:

«ماذا قلتِ؟! لا تثقين بدوقٍ من دوقات هذه الأمة؟ وما السبب؟»

الأسباب عندي كثيرة.

عاد إلى ذهني مشهد ساحة القتال يوم التقيتُ جيروم كراونر لأول مرة، حين تسلّلتُ إلى خيمته تنفيذًا لأمر المنظمة باغتياله.

قال يومها وهو يبتسم ابتسامة سخرية: «امرأة إذن؟ فأنتِ “جزّارة الخيط الفضي” المشهورة؟»

غير أنّ أحد الأعضاء الصغار الموفدين معي ارتكب خطأً، فكُشف أمرنا سريعًا.

أركعتُ نفسي وقلتُ: «دع هذا الفتى يرحل.»

كان لم يزل طفلًا لم يبلغ سنَّ الرشد، زُجّ به في المنظمة بعدما عجز أهله عن إطعامه.

تابعتُ: «سأُخبرك بمن أمر باغتيالك، فدع حياته تُعفَ.»

ومثل هذا ممنوع على القتلة: لا يُستعطَف الهدف ولا يُكشف سرّ الآمر. لكنني لم أحتمل أن يموت الطفل ميتةً عبثية. أردتُ فقط أن أشتري له وقتًا ليهرب. لكنه كان قد انهار، وسقط مغشيًّا عليه، وابتلّت ثيابه من شدّة الفزع.

قال جيروم وهو يتأملني: «ستُخبرينني بمن أرسلكِ إذن؟ لستُ متشوقًا لذلك… لكن لدي اقتراح.» ثم ابتسم ابتسامة خطرة:

«إن هزمتِني، أُخلي سبيلكِ أنتِ والصبي. ما رأيكِ، يا جزّارة الخيط الفضي؟»

ما جدوى السؤال عن احتمالي هزيمة أقوى فارس في الإمبراطورية وجهًا لوجه؟ لم يكن لي خيار سوى القتال.

في البداية طغت قوته عليّ، ثم غيّرتُ مجرى المعركة عبر الضربات المباغتة والأسلحة الخفية في ثيابي. وأخيرًا جثا على ركبةٍ أمامي.

لكنني ارتكبتُ خطأً فادحًا: وثقتُ بوعود البشر.

قلتُ له وأنا أمسك بيد الطفل: «فزتُ كما اتفقنا. سأغادر، ولن تُعاد محاولة الاغتيال. فاطمئن…»

غير أنّ الدم اندفع فجأةً، وصرخ الصغير. التفتُّ فإذا بذراعه قد بُتر.

صاح جيروم هائجًا وهو يلوّح بسيفه: «إلى أين تهربين أيتها الجرذ؟!»

انهارت الخيمة من ضراوة حركته، وتعالت لعناته:

«إن التقيتكِ ثانيةً قتلتكِ. أتحسبين أنكِ تنجين بعد أن استهدفتِ دوقًا من دوقات البلاد، أيتها السفّاحة!»

حملتُ الطفل وركضتُ حتى خرجتُ من المعسكر، لكني لم أستطع إنقاذه. كان نزفه أعظم من أن يحتمله جسده الغض.

عدتُ إلى الحاضر وقلتُ بصوت ثابت: «باختصار، لا أرى في المنصب أو المكانة سببًا كافيًا لبناء الثقة.»

صمت جيروم طويلًا، وقد ظهر الاضطراب في عينيه.

ثم استدرتُ: «عليّ أن أنصرف. غدًا ينتظرني واجب عند أصحاب السموّ.»

قال بسرعة: «انتظري! إن أردتِ تكرار هذا العرض، فاطلبيه من سموّ الأمير مباشرة لا مني.»

ابتعدتُ عنه، متجاهلةً محاولته إيقافي، وأنا أشعر بحدة نظراته خلف ظهري.

كان عرضًا عظيمًا في الظاهر—أقوى فارس في الإمبراطورية يعلّم الأمير بنفسه. لكنه لم يكن عرضًا نزيهًا، بل حسابًا سياسيًا.

لقد سمعتُ حواره مع الإمبراطور: لم يُرِد أن يرفع إدوين إلى العرش، بل أن يجعله درعًا يحمي وليّ العهد أو دميةً تُدار لخدمة إرادة كافيليوس الثالث.

لن أنخدع للمرة الثانية.

ومرّ في خاطري وجه ذلك الطفل الذي فقد حياته يومها، فخبا في قلبي ما كنتُ أشعر به من انتصار.

في ساحة تدريب فرسان غلوريا:

«حيُّوا القائد!»

اصطفت الصفوف، واعتلت الأبصار المنصّة. وقف جيروم على القمة، ومسحهم بنظرة صاعقة:

«رأيتُ أداءكم في قتال الوحوش أمس… وكان مُخزيًا.»

شحبَت وجوههم.

«نصف يومٍ لتطرحوا بضعة وحوش “وايفرن”؟! ألم تشاهدوا فرسان آدامانت يُسقطون واحدًا في دقائق؟ ثم تزعمون أنكم نخبة الإمبراطورية؟!»

«لا يا سيدي!»

قال بصوت كالرعد: «غرّكم ما يُقال عنكم. واليوم سأكسر هذا الغرور. من هذه اللحظة… يتضاعف التدريب.»

وقع الخبر كالصاعقة. عشرون صعودًا ونزولًا للجبل بالدروع الكاملة. تبادلوا نظرات الوجل، لكن لم يجسر أحد على الاعتراض.

«ما بالكم واقفين؟ انطلقوا!»

ارتجّت الأرض بخطواتهم، ثم صاح فجأة: «أنت… توقّف.»

التفت آخر الصف.

«الأمير إدوين.»

شهق الفتى: «أنا؟!»

اقترب جيروم حتى صار فوقه وقال بلطفٍ مفاجئ: «لنجرِ حديثًا قصيرًا.»

وفي كوخ سِيدج وسط الأعشاب:

قال وهو يفرز أوراقه: «جيروم كراونر… لم أسمع هذا الاسم منذ زمن. كنتِ محظوظة إذ لم يتعرّف إليكِ.»

أجبته وأنا أتكئ على مقعده: «الناس أسرى ما تراه أعينهم، وهو مثلهم. لا يرون الآن إلا امرأة عاديّة.»

تأملني ثم سأل: «تنكّركِ هذه المرة بارع. هل استعملتِ شرابًا لتقصير قامتك؟»

«شيء من هذا القبيل.» لم أشأ أن أبوح له بالحقيقة.

قلتُ: «سألتك عنه لأني لا أعرف “الرجل” جيروم، بل أعرف “الفارس” فحسب.»

فكر قليلًا ثم قال: «ما أعلمه أنّه ليس وارثًا شرعيًا. لقد تبنّاه الدوق السابق ليكون خلفًا له.»

سألته: «ابن غير شرعي إذن؟»

هزّ رأسه وقال: «الأمر أعقد من ذلك. يُقال إن طليقة الدوق السابق خانته مع فارسٍ من عامة الناس، وكان جيروم ثمرة تلك الخيانة.»