الفصل 44: المحاكمة الأولى (4)
يتدرّب القتلة التابعون لمنظمة نَفَس المَلَك منذ الصغر على التمييز بين الكاذب والصادق.
ولذلك كان واضحًا لي منذ اللحظة الأولى أنّ ساج كان صادقًا فيما يقول.
قال العجوز:
«حين تصل إلى سني، يكفي أن تنظر في العيون لتعرف إن كان صاحبها سيصبح شيئًا عظيمًا أم لا.»
ثم التفت إليّ بعينيه الباهتتين:
«ذلك الطفل كان يمكن أن يصبح شيئًا مهمًا… ولهذا هو أمر مؤسف.»
شيئًا مهمًا؟ وماذا في ذلك؟
حياتي كانت منحرفة منذ ولادتي أصلًا.
وقفت بصمت.
النفاق أمر كريه، لكن التعاطف الصادق أصعب في الاحتمال.
كأنني أقف حافية فوق حجارة متقدة.
قلت ببرود:
«لا داعي لإضاعة الوقت. علينا المغادرة قبل غروب الشمس.»
تذمّر ساج:
«ما كل هذه العجلة! علينا تجهيز الدواء وتوزيعه أولًا!»
عند كلمة دواء، التفت إدوين بعيون متلألئة.
«دواء؟ لكن ليو قال إنه لم يعد قادرًا على صُنعه…»
أجاب ساج:
«إنه ليس علاجًا كاملًا. لكن إذا أُعطي بجرعات صغيرة وعلى مدى طويل، يمكنه إيقاف تقدم المرض. صحيح أنه يترك ندوبًا، لكنه يحافظ على الحياة.»
السبب في عدم إعطائه دفعة واحدة كان واضحًا:
لو تحسّن جميع المرضى في وقت واحد، لأثار ذلك الشبهات.
قلت بحزم:
«أنا سأتكفل بتوزيعه. أما أنت أيها العجوز، فاستعد للرحيل.»
وفي تلك اللحظة، ظهر ليو من خلف المقصورة، وذراعه ملفوفة بضماد.
بفضل تدخل ساج السريع، كان السم قد زال من جسده.
قال بصرامة وهو يجذب إدوين من يده:
«وأنت، تعال معي قليلًا.»
تساءل ساج وهو ينظر إليّ:
«ألا تمنعينه؟»
«لم يبتعد كثيرًا، فلا حاجة.»
ضحك العجوز باستهزاء:
«حقًا، أنت غريبة. ربما أنت الخادمة الوحيدة التي تسمح لأمير بالتجول بحرية.»
أجبته ببرود:
«ابدأ بالحزم قبل أن أضربك وأجرّك بالقوة.»
ابتسم بخبث وقال:
«مخيفة أكثر مما تبدين. لو تبعتك، لست واثقًا أنني سأعيش طويلًا.»
«هل تريد أن آخذ رأسك وحده إذًا؟»
«حسنًا، حسنًا! سأجهّز نفسي!»
بينما كان يتذمّر ويجمع حاجياته، نظرت عبر الباب نصف المفتوح، فرأيت الولدين واقفين وجهًا لوجه.
المواجهة بين ليو وإدوين
صرخ ليو فجأة:
«هل جننت؟! من سمح لك بفعل شيء متهور كهذا؟ ماذا لو متَّ وأنت تحاول إنقاذي؟ هل تريد أن أقضي حياتي كلّها أعيش بذنب موتك؟!»
تلعثم إدوين:
«لكنني…»
«وماذا لو قَتَلنا الوحش نحن الاثنين؟!»
«لكنه لم يفعل! نحن على قيد الحياة الآن! فلماذا تصرخ؟!»
أجاب ليو بعصبية:
«حتى لو حاولت، كان يمكن أن نموت معًا! لو لم أصل إلى تلك المرأة التي معك! لو تأخرت لحظة فقط! لكنا جميعًا في عداد الموتى!»
لم يجد إدوين ما يرد به، فاكتفى بإحناء رأسه.
كانت عينا ليو الكبيرتان تلمعان بالدموع.
«من طلب منك أن تنقذني أصلًا؟ لو متّ، لكنت نمتُ مرتاحًا باقي عمري!»
سأل إدوين بارتباك:
«أأنت… تبكي؟»
«من قال إني أبكي! أنا غاضب فحسب!»
صرخ ثانية، ثم أدار وجهه بعيدًا. وبعد لحظة طويلة من الصمت، قال بصوت خافت:
«…شكرًا.»
تسمرت عينا إدوين في دهشة.
«ماذا؟»
«ماذا تعني ماذا؟ لقد نجوت بفضلك، ومن الطبيعي أن أشكرك! هذا حقك.»
كان وجه ليو وأذناه محمرّين وهو يتجنب النظر إلى إدوين.
أكان ذلك خجلًا أم غضبًا؟
«المهم… لولاك لكنت الآن في عداد الموتى. لذا، شكرًا.»
«حقًا؟»
«طبعًا حقًا! أتظنني أكذب؟!»
التفت إليه بنظرة حادة وصوته يعلو.
«وكفّ عن صنع ذلك الوجه البليد! يبدو كأني أتنمّر عليك!»
«وجه بليد؟! أنا لست غبيًا!»
«لم أقل إنك غبي. قلت فقط توقف عن هذا الوجه الغبي!»
«هذا نفس الشيء! وأنت توقف عن التقطيب، تبدو مخيفًا!»
تشاجر الاثنان حتى انقطعت أنفاسهما.
ثم مدّ ليو كيسًا ثقيلاً نحو إدوين.
«خذ هذا.»
«ما هذا؟»
«الأحجار السحرية التي حفرتها اليوم. هي لك.»
«ماذا؟! كلها؟!»
كان الكيس ثقيلًا لدرجة أن الأمير أمسكه بكلتا يديه.
«أتعطيني كل هذا؟»
«بالطبع. أنت من حفرها. ثم إنها بلا قيمة هنا في القرية. الأفضل أن تستعملها خارجًا في شيء مفيد.»
تردّد إدوين قليلًا، ثم قال بخجل:
«شكرًا.»
وبعد صمت قصير، تردّد قبل أن يسأل:
«ليو… هل تود أن تأتي معي؟»
تفاجأ ليو، ثم قال:
«إلى القصر؟»
«أأنت تعلم؟ أنني أمير؟»
«اكتشفت قبل قليل. العجوز أخبرني وهو يعالج جرحي.»
أشار إلى ذراعه الملفوفة بالضماد.
تغيرت ملامح إدوين للحظة وقال بقلق:
«إذن… لا تريد المجيء، صحيح؟»
«ماذا؟ ولماذا لا أريد؟»
«لأنك لا تحب أصحاب المقامات العالية…»
ضحك ليو بدهشة:
«ما علاقة هذا؟ أمير أو لا، أنت من أنقذني. لماذا أكرهك؟»
ثم نظر إليه بحدة:
«وأنت؟ هل ستتجاهل أنني حميتك من الوحش فقط لأنني أقل منك مكانة؟»
«مستحيل! لولاك لكنت ميتًا!»
«إذن انتهى الأمر.»
ضحك ليو قليلًا وأضاف:
«لو كان جميع الأمراء مثلك، لكان العالم أفضل. لكنك على الأرجح استثناء.»
«استثناء؟»
«يعني مختلف. مميز. وهذا شيء جيد.»
كانت تلك أول مرة يسمع إدوين فيها كلمة مميز. لم تكن سيئة أبدًا.
بل أحبها.
«إذن ستأتي معي، صحيح؟»
«لا. لن آتي.»
ارتسمت خيبة على وجه إدوين:
«ولِمَ لا؟»
«لأنك قلتها بنفسك: أنا شخص تحتاجه القرية. ولو غادرتُ أنا والعجوز، لانهارت.»
ثم ابتسم بخفة وهو يضع يده على كتف الأمير:
«لذلك… اعمل جاهدًا مع ذلك العجوز، حتى يأتي يوم أستطيع فيه أن أزورك بنفسي.»
مغادرة القرية
لم يكن الخروج من قرية لوكسِن أمرًا صعبًا.
كما قال ساج، حراس البوابة ضعفاء الملاحظة، وفوق ذلك فهم يؤمنون أن الكاهن لا يكذب.
قلت:
«يا صاحب السمو، من الأفضل أن تعود إلى داخل العربة. السير في الليل خطر.»
«لا أستطيع النوم. شخير المعلم يصمّ الأذن!»
ضحك وهو يجلس بجانبي على مقعد السائق.
«تريد أن نربطه في الخلف ونسحبه؟»
«أ… أنت تمزحين، صحيح؟»
«أنا دائمًا جادة.»
هز رأسه بتعب، ثم قال:
«أريد أن أسألك شيئًا… كيف أجعل ليو يأتي لرؤيتي يومًا ما؟»
ليو، إذن… حتى أصبح يناديه باسمه.
أجبته ببرود:
«ذلك الفتى رفض عرضك بالذهاب إلى القصر، فلماذا تسأل؟»
«لا سبب… مجرد فضول.»
فكرت قليلًا ثم قلت:
«الطريقة الوحيدة أن تُزيل قرية الطاعون نفسها.»
«ماذا؟! مستحيل! هذه بلدة ليو!»
نظرت إليه بصرامة:
«تلك ليست بلدته ولا بلد أي إنسان. إنها سجن.»
ارتبك الأمير وسأل:
«إذن كيف يمكن إزالتها؟»
«هناك طريقتان:
الأولى، توزيع الدواء للقضاء على المرض.
الثانية، أن يمنح الإمبراطور حرية كاملة لسكّانها.»
«لكن كلتاهما شبه مستحيلة.»
«ولِمَ؟»
أجبته بنبرة جازمة:
«لأنها ستقود إمّا إلى حرب… أو إلى ثوره >>
التعليقات لهذا الفصل " 44"