الفصل 41: المحاكمة الأولى (1)
«سُمّ! إ-إنه سُمّ! ماذا نفعل؟ ماذا نفعل!؟»
ارتجف إدوين وقد أوشك على البكاء، لا يدري ما العمل.
«اصمت.»
كمّ ليو فم إدوين بيده السليمة.
«ليس هذا ما يهمّ الآن. انظر هناك.»
عند كلمات ليو أدار إدوين رأسه يتبع نظره.
كان يقف أمام الغلامين ذئبٌ هائل يلهث وتتقاطر اللعاب من شدقيه—لم يعرفا متى ظهر.
لا، لم يكن ذئباً تماماً، بل وحشاً.
بدلاً من الفراء كان يغطيه قِشرٌ أسود أملس، وله أربع عيون.
مجرد النظر إليه أوهن ركبتي إدوين، فابتلع ريقه بصعوبة.
قال ليو وقد غلّظ صوته: «إنه وحشٌ متحوّر. كما ترى، لا يشبه العاديين في شيء.»
«اللعنة… لم أتوقع أن يظهر ذاك الشيء مجدداً.»
«مجدداً؟ ظهر من قبل؟»
«رأيته قبل بضعة أشهر. ليس نفسه، لكنه من الفصيلة.»
وكان ذلك طبيعياً؛ فذاك الذي ظهر قبل أشهر أُحرق حتى الموت حين اتحد ساج مع أهل القرية.
«لكن هذه منطقة حجرٍ صحّي! البشر أنفسهم لا يدخلونها بسهولة، فكيف تسلّل وحش؟»
«لا بدّ أنه عبر السور المتصل بسلسلة الجبال. تباً… ارتفاعه كعلوّ مبنى من ثلاث طوابق، فكيف نفذ؟»
وحشٌ يستطيع خرق سورٍ بذاك الارتفاع؟ أيوجد شيءٌ كهذا حقاً؟
همس إدوين بصوتٍ مرتجف: «إذن ماذا نفعل؟»
لم يُجب ليو.
لكن الأمير الصغير أدرك بالفطرة أن حتى ليو لا يملك حلاً حقيقياً.
ماذا نفعل؟ ماذا عليّ أن أفعل؟
كانت مخالبه قد خطفت قطعة من كمّ ليو.
نظر إدوين ثانيةً إلى جرح ليو—الذراع التي اتّقته بنفسه شُقّت بمخلب الوحش واقتُطع منها لحم.
سرت برودة في عموده الفقري.
لو لم يحمِني ليو…
لربما كانت رأسي أو ظهري بين تلك المخالب.
أمعقول أنني سأموت هنا؟
كسُدى، غذاءً لوحشٍ في كهف؟
عضّ إدوين شفتَه السفلى.
لا. ليس هذا وقت تلك الأفكار. ماذا أفعل؟
ما الذي عليّ فعله، يا رايتشل؟
على نحوٍ غريب، كانت أوّل من خطر بباله في تلك اللحظة رايتشل—
من جاءت به إلى هنا، ومن كانت دائماً تمدّ له يدها حين يحتاج العون.
لكن لسوء الحظ، تلك—رايتشل—لم تكن هنا الآن.
«آه…»
كان نفس ليو يشتدّ ثِقلاً شيئاً فشيئاً، ويده الممسكة بذراعه تزداد برودة.
وبرُدت أفكار إدوين معه.
دائماً هكذا معي…
كلما وقع في خطر، يفديه غيرُه بنفسه، ولا يملك هو إلا أن يقف متفرّجاً عاجزاً.
أغمض عينيه بإحكام وأعمل فكره.
…لا بدّ أن أفعل شيئاً.
فكّر… فكّر. الوحيد القادر على إنقاذي الآن هو أنا. ابحث عن طريقة للهروب من هذا الوحش اللعين، يا إدوين.
صحيح، الكتاب… ماذا قال عن الوحوش؟
تذكّر أنه قرأ يوماً شيئاً عن الوحوش:
«كائنات لُعنت لأنها عاندت الإله.»
هكذا وُصفت الوحوش في الكتاب الذي عثر عليه مصادفة.
وماذا أيضاً…
اعتصر ذاكرته بحثاً عما ينفعهما الآن.
قطّب الأمير الصغير جبينه في شرودٍ عميق، ثم اتسعت عيناه فجأة.
نعم—قيل إن الوحوش تحبّ الأحجار السحرية، وأنها تكثر حيث توجد تلك الأحجار.
حدّق إدوين في الوحش.
كان واقفاً في مؤخرة الكهف، يكشر عن أنيابه لهما، مستعداً للوثوب وتمزيقهما في أي لحظة.
هذا منجمُ أحجارٍ سحرية… لعلّ ذاك الشيء يعدّ المكانَ حِماه؟
إن كان كذلك، فتصرفه مفهوم: هذا الكهف كنزه الذي يحرسه، وإدوين وليو دخيلان.
قبضَ الأمير كفّيه كمن عقد عزمه.
«…إدوين؟ ماذا تنوي أن تفعل؟»
حدّق ليو فيه متحيراً إذ انفلت إدوين واقفاً فجأة.
قال إدوين بنبرة جادّة: «سألفتُ نظره. وأنت اهرب. ساقاك ما زالتا بخير، أليس كذلك؟»
«ماذا؟ ما الذي تهذي به؟»
«إن بقينا هكذا سنموت معاً. وأنا أُشغله وأنت اذهب إلى القرية واستدعِ رايتشل.»
رايتشل—تلك المرأة المشبوهة؟
حدّق ليو في إدوين فارغ النظرات، ثم أمسك بحاشية سرواله.
«اذهب أنت! سأكون أنا الطُّعم…!»
«لا. لقد سُمِّمتَ. إن هوَيتَ وأنت تهرب فلن يبقى لنا أيّ خيار.»
«وما الفرق بين أن أنهار في الطريق وبين أن أنهار الآن؟ الأولى أن يجرّ الوحشَ المسمومُ نفسُه…»
«لا.» وأدار له ظهره وقال بخفوت: «أنت شخص تحتاجه هذه القرية. عليك أن تعيش.»
«ماذا؟ ما الذي تقوله!» صرخ ليو وهو يقطّب، «أيها الأحمق! لا أعرف بماذا تفكّر لكن توقّف! لا تذهب!»
تمتم إدوين بمرارة: «لا تقلق… أنا بارعٌ في الهرب.»
التقط الأمير حجراً سحرياً كبيراً ولوّح به أمام الوحش.
«هيه! أيها الوحش! سأأخذ هذا! فهمت!؟»
وما إن رأى الوحش الحجرَ السحري في يد الأمير حتى ثار واستشاط.
وحين انبعثت منه نيةُ القتل، انطلق إدوين عدوًا.
«إدوين—!»
اخترق صراخ ليو السماء في تلك اللحظة.
طعمٌ مُرٌّ فاض إلى حلقه.
انحدر العرق على جبينه ولسع عينيه.
لهث إدوين، وقلبه يدقّ طبولاً.
«هَه… هَه…!»
ضغط على أسنانه، لكن أنفاسه المنقطعة انطلقت رغماً عنه.
لمح بطرف عينه وراءه.
كان الوحش يطارده صامتاً كالظلّ.
لا ذكاء في بريق عينيه—بل غضب صرف.
كأنّ ضيقَهُ أنه لا يزال يقصُر عن اللحاق بإدوين.
«ئـيك—!»
كلما غاص أعمق في الغابة، خدشت الأغصان والأوراق جسده كله.
لسعت الجراح، لكن الأمير لم يستطع التوقف.
إن لم يعدُ فسيهلك أحدٌ لا محالة—هو، أو ليو، أو أهل القرية.
أطبق عينيه بإحكام، فومضت على جفنيه ذكريات قديمة.
«أنقذونا! إيما… إيما مريضة جداً!»
«عذراً يا سموّ الأمير، الطبيب ذهب إلى قصر الأمير الثاني.»
كان لاهثاً يومها أيضاً.
حين سقطت إيما بعد أن شربت الشاي، ركض إلى دار العِلاج فلم يجد الطبيب.
وعلى كلمةٍ واحدة من القيّم ركض من جديد.
لم يكن يدري أنّ الطريق من الدار إلى قصر الأمير الثاني طويلٌ إلى هذا الحد.
ومع أنه ركض كل تلك المسافة، لم تُفتح له أبواب قصر الأمير الثاني.
«سقطت كذلك سموّ السيدة الثانية. نعتذر.»
اضطر الأمير الصغير أن يفقد عزيزاً عليه عاجزاً.
هذه المرة ستكون مختلفة.
غشت الدموعُ بصره، لكنه تجاهلها عنوةً.
مسحها ودفع ساقيه أكثر.
هذه المرة ستكون مختلفة!
على الأقلّ هذه المرّة لن يفقد أحداً.
على هذا الأمل، ظلّ الأمير يعدو.
كلما شعر بقشعريرة، خفّض رأسه فتخطف مخالبُ الوحش الهواء من فوقه.
كان يشعر أنه قد ينهار في أيّ ثانية، لكنه لا يستطيع الوقوف.
غير أنّ شيئاً نسيَهُ إدوين:
جسدُ الوحش أقوى بما لا يُقاس من جسد طفلٍ أمير.
«كراااا—!»
زمجر الوحش غاضباً ووثب فوق رأس الأمير،
تقدّمه في طرفة عين، ثم استدار ببطء.
حاول إدوين أن يتوقف فجأة فاختلّ توازنه وسقط على ظهره.
«هف!»
تحطّم الحجر السحري الذي كان يقبض عليه إذ لامس الأرض.
وانشقت راحة يده، لكنه لم يشعر بالألم؛
لأن الموت كان يفتح فاهه أمامه.
ارتجف وهو يحدّق في أنياب الوحش الحادّة.
أسأموت؟
أهكذا سيموت حقاً؟
في مكانٍ لا يعرفه أحد، ومن غير أن يدري به أحد، ومن غير أن يخلّف أثراً—
تماماً كأولئك الذين ماتوا هنا من قبل.
«فأثبت إذن يا أمير الصغار. أثبت أنك لستَ ’أيّ أحد‘.»
لعلّ ذلك الشيخ العجوز كان يعرف الجواب منذ البدء.
أنا لستُ بأيّ ’أمير‘… أنا مجرد—
لا أستطيع حماية أحد: لا أمّي، ولا إيما، ولا إيملْيا، ولا نفسي، ولا ليو.
قبض إدوين قبضتيه المرتجفتين.
لم يُرِد أن يبكي بهذا البؤس، لكن الدموع انهمرت.
«يا سموّ الأمير، تذكّر هذا.»
دوّى صوت رايتشل في أذنيه فجأة:
«ما دمتَ ضعيفاً، فإلا إذا تعلّمتَ الجُبن، فلن تقدر على حماية نفسك ولا غيرك ولا أيّ شيءٍ قطّ.»
تزحلق جالساً على مقعدته متراجعاً، يتفادى الوحش المقترب ببطء.
كانت رايتشل على حق.
الضعيف لا بد أن يكون جباناً ليبقى.
إن حاولتَ الشجاعة من غير معرفةٍ بقدرك، متّ—كما الآن.
غرغر الوحشُ غُرغرةَ رضا وهو يحدّق بفريسته المرتعشة.
وبينما كان يهمّ أن يطبق على الطفل أمامه—
«رايتشل—!»
أطبق إدوين عينيه وصرخ باسم مربّيته.
لم يكن يدري حتى لماذا.
فقط شعر بأنه إن ناداها فستظهر—حتى الآن.
ولعلّ لذلك—لم يصدق عينَيه حين رأى رايتشل تطير أمامه كالطير.
التعليقات لهذا الفصل " 41"