الفصل الرابع: طقوس البداية المكثفة (2)
“حسنًا، أظن ذلك.”
لو أجابت المرأة أمامه إجابة صحيحة أخرى واحدة، لكانت قد فازت. ابتسم جيل بمكر.
“لكن هل أنتِ واثقة جدًا من نصرك، أيتها الخادمة؟”
على عكس جيل، الذي أراد الاستمتاع بالرهان وإطالة أمده، بدت راشيل متعجلة لإنهائه بسرعة. والتسرّع يعني نفاد الصبر، ونفاد الصبر يعني الحكم الخاطئ.
(هذا ليس أسلوب المقامرة.)
ابتسم بخبث وهو يضع الكرة هذه المرة تحت الكوب الأوسط. ثم بدأ بتحريك الأكواب بسرعة مرة أخرى.
صفعة.
توقفت يده مجددًا.
“حسنًا، هذه المرة…”
“الكوب الأيمن.”
أجابت بلا أي تردد. ثباتها نشر الصمت بين الموجودين، لكن جيل كان يبتسم.
رفع الكوب الأيمن ببطء.
“يا للأسف، أيتها الخادمة.”
لكن الكرة لم تكن تحت الكوب الذي اختارته. هز رأسه متصنعًا خيبة الأمل، ثم رفع الكوب الأيسر ليُظهر الكرة بين يديه.
“بوهاهاها!”
انفجر جميع الحاضرين بالضحك، ما عدا الأمير والخادمة.
استرخى جيل مبتسمًا وهو يرمقها.
“آسف يا آنسة خادمة.”
“لا تزال هناك فرصة أخيرة.”
رغم خسارتها، لم تتزعزع ملامح راشيل.
(تحاول جاهدة أن تبدو هادئة.)
ضحك جيل بخفوت. لم يكن يهم أي كوب تختاره، فالنتيجة محسومة سلفًا. كان مسرحًا لا يُكتب فيه النصر إلا له.
(فالأمر كله مُزوَّر منذ البداية.)
تبادل نظرات مع الفتى البرتقالي بجانبه، ثم ابتسم بخيلاء.
“حسنًا، الجولة الأخيرة.”
صفعة.
تحركت يده كالصاعقة وتوقفت فجأة.
“أي واحد هو؟”
“ذاك البرتقالي… يده اليسرى.”
تجمد جيل فجأة، وكأن ماءً باردًا سُكب فوقه. حدقت به راشيل صامتة. انعكس وجهه المرتبك في عينيها الخضراوين الممزوجتين بالذهب.
“ماذا؟ ما معنى هذا؟”
“البرتقالي؟ الوحيد ذو الشعر البرتقالي هنا هو هو.”
بدأ الأولاد يتهامسون. والفتى البرتقالي بدأ يتصبب عرقًا، ثم صرخ بعصبية:
“م-ما الذي تقولينه؟ أنا كنت واقفًا فقط!”
قالت راشيل بهدوء:
“هل أحتاج أن أؤكد ما تُخفيه في يدك؟”
ارتبك الصبي وتراجع بخطوات مرتبكة، وكأنه على وشك الهرب. لكن راشيل لم تدعه. أمسكت معصمه وأدارته بحركة سريعة.
“آآخ!”
صرخ قصير، وسقط شيء من يده. كانت الكرة.
شهق الجميع بدهشة، بما فيهم إدوين. وحدها راشيل بقيت هادئة وهي تلتقط الكرة.
ضغطت عليها بين أصابعها، فانبسطت ثم عادت لشكلها فورًا.
“كرة مطاطية.”
“أ-أعيديها!”
اندفع الفتى البرتقالي إليها، لكن راشيل تملصت بسهولة، ثم التفتت نحو جيل.
“قبل قليل، كان هذا الصغير يجلس بجانبك مباشرة. وعندما خلطت الأكواب، لا بد أنك رميت الكرة إليه خلسة.”
كلامها جعل كليهما يتلعثم.
‘كيف… كيف عرفت؟’
أكملت راشيل شرحها بنبرة باردة:
“من يجلس مقابلك لا يمكنه رؤية إن ألقيت الكرة نحوك. وقد التقطها هو بخفة.”
ثم أمسكت ذراع جيل فجأة، فسقطت كرة أخرى مطابقة من كمّه.
“بالطبع أعددت عدة كرات. لتضعها سرًا تحت الأكواب غير المختارة.”
عض الفتى البرتقالي شفته. لقد كشفت خدعتهما تمامًا.
“ماذا؟! هل خدعنا جيل أيضًا؟”
“لقد غشّ مع هذا البرتقالي؟ وماذا عن نقودي؟!”
حتى الفتيان الباقون شعروا أنهم كانوا ضحايا.
نظر جيل إلى راشيل بغيظ، ثم رمى السوار على الصندوق بازدراء.
“خذي. لقد ربحتِ.”
بصق نحوها ومشى مغتاظًا، لكنه لم يجرؤ على التظاهر أكثر.
قالت له راشيل بازدراء:
“هل احتلتَ على الأمير أيضًا؟ يا لها من وقاحة. أنت مجرد بلطجي صغير.”
“ماذا قلتِ؟!”
زم شفتيه بغضب، ثم أمسك بتلابيبها. همس في أذنها بتهديد:
“لو رحمتكِ، كان عليكِ الانسحاب. لا تدفعي نفسك للهلاك.”
ابتسمت ببرود:
“رحمة؟ بخدعة تافهة كهذه؟ من تظن أنك تخدع؟”
كانت تبتسم بوجه ملاك، لكنها كشفت عن أنياب شيطان.
“أيها الأحمق.”
اقتربت من أذنه وهمست:
“الاحتيال على العائلة الإمبراطورية جريمة تُعاقب بالإعدام. كان عليك اختيار ضحيتك بحكمة أكبر.”
تجمد وجه جيل.
أضافت:
“الأمير الذي ازدرَيتَه ما زال من دم الإمبراطور. أكنتَ تجهل ذلك حقًا؟”
حاول أن يتظاهر باللامبالاة وقال:
“ومن يهتم؟ إنه مجرد الأمير الحقير. يعاملونه أسوأ من خدم القصر.”
نقرت راشيل لسانها:
“أتصدق ذلك؟ دم الإمبراطورية يبقى دمًا إمبراطوريًا، حتى لو مات صاحبه ثم عاد. وأنت تعلم أن من يهين العائلة الإمبراطورية يُعاقب كخائن.”
تجمد وجهه، وازداد شحوبًا.
قالت بابتسامة ماكرة:
“ابن نبيل تافه… في مواجهة أمير من الدم الإمبراطوري. من برأيك سيختارون؟”
صرّ على أسنانه:
“تبا!”
أفلت تلابيبها، ثم غادر غاضبًا مع رفاقه.
أما الفتى البرتقالي، فقد بقي مترددًا، ثم قال:
“أ… أنا آسف.”
رفعت راشيل حاجبيها بدهشة.
“لم أفعل ذلك إلا لأن جيل أمرني…”
لكنها ردت بصرامة:
“لا تعتذر لي، بل لصاحب السمو.”
التفت الطفل فورًا نحو الأمير وانحنى قائلًا:
“أنا آسف حقًا يا صاحب السمو. لن أسيء إليك مرة أخرى.”
بدا الأمير مرتبكًا، وكأنه أول مرة يسمع اعتذارًا كهذا. لكنه سرعان ما اعتدل وقال بصوت عالٍ:
“سأغفر لك هذه المرة فقط. لكن إن كررتَها، فلن أتركك. فهمت؟”
انتفخ صدره بكبرياء، وصوته يحمل سلطة حقيقية.
اختفى الطفل بعد انحناءات متكررة، تاركًا راشيل تتأمل الأمير عن قرب.
شعر ذهبي لامع، عينان زرقاوان كالياقوت، بشرة ناعمة بيضاء. عن قرب، بدا الأمير وسيماً بشكل ملحوظ، لكن جسده النحيل ووجهه الشاحب أثارا شفقتها.
حينها التفت الأمير نحوها، عيناه مملوءتان بالريبة، وصوته حاد:
“من أنتِ؟”
تجمدت راشيل للحظة من وقع السؤال.
التعليقات