الفصل 38: الحكيم، ساج ريل (1)
“كـ… كيف عرفتَ…؟”
لا بدّ أن إدوين دُهش من قدرة ساج على استنتاج كونه أميراً فوراً؛ فقد اتسعت عيناه إلى أقصى حد.
“الثوب الذي ترتديه. هذه حرير مملكة آشا—يكاد يستحيل الحصول عليه إلا للملوك. إن كنتَ ستتنكّر، فلتفعل ذلك كما ينبغي.”
عند كلام ساج، رفع إدوين رأسه نحوه مذهولاً؛ بدا وكأنه لا يصدق أن هويته كُشفت من مجرد الملابس.
“إذن تريدين أن أصبح معلّم هذا الصغير مقابل حياتي؟”
“نعم.”
“أن أصبح معلّماً ليس بالأمر العسير.”
نظر ساج إلى إدوين من علٍ بنظرة متعالية.
“لكنني لا أتخذ أيّ أحدٍ تلميذاً لي.”
“أليس الأميرُ ‘ليس أيّ أحد’؟”
“هذا يتوقف على أيّ أميرٍ هو، أليس كذلك؟”
قهقه ساج ساخراً وتابع: “بصراحة، لا ضير لديّ أن أوفي دَين الحياة بحياتي نفسها. لقد عشت ما يكفي، ولا روابط لي تُبقيني في هذا العالم.”
يا لها من ذريعة. كنت أعلم جيداً أن هذه كذبة صريحة. لا أحد في هذا العالم أشدّ حرصاً على ترك إرثٍ بعده من هذا الرجل.
مرّر ساج أصابعه فوق رُزم الرقّ المكدّسة على طاولته وقال: “مع ذلك، بدأتُ أفكّر بأن تربية تلميذٍ أخيرٍ قبل موتي قد لا تكون سيّئة.”
“إذن لا داعي للتردد. ننطلق فـ—”
وقبل أن أعرض نقله بالعربة فوراً، قاطعني ساج.
“قلتُ لكِ آنفاً: لا أتخذ أيّ أحدٍ تلميذاً.”
عاد بصرُه الحاد إلى إدوين.
“إذن أَثبِت ذلك، أيها الأمير الصغير. أثبِت أنّك لستَ ‘أيّ أحد’.”
كان في ابتسامة العجوز المتجعّدة مسحةُ مشاكسة.
الحكيم العظيم، الفيكونت ساج ريل.
قبل أربعين عاماً، وهو في العشرين فحسب، نال رتبة أستاذٍ أصيل في الأكاديمية الإمبراطورية—على رغم كونه من عامّة الناس.
كان أولَ من كسر القاعدة غير المكتوبة: “لا أستاذية لعامّي مهما بلغ ذكاؤه.”
من الأدب والتاريخ والسياسة والفلسفة إلى الطبّ أيضاً؛ أتقنها جميعاً—فربما بدا الأمر طبيعياً.
والأغرب أنه، رغم طبعه الحاد، كان يُكثر من اقتراح السياسات الداعمة للطبقات الدنيا. حسّاده سموه مُرائياً وحاولوا تشويه سمعته، لكن ذلك لم يمحُ إنجازاته.
معظم سياسات الإغاثة الجاري العمل بها اليوم في الإمبراطورية خرجت من عقله.
ومنحه الإمبراطور بنفسه لقب النبالة تقديراً لجهوده، وراح الناس يلقّبونه: “الحكيم العظيم، ساج ريل.”
لكن ككثير من العباقرة، كانت له غرائب.
“أثبِت أنك لستَ أيّ أحد.”
مثلاً: أنه يأخذ الأمور مع الأطفال بجدٍّ مُفرِط.
“أوه…”
ارتبك إدوين. وقد تحدّث عرقُ جبينه عن قلقه بما يكفي.
هذا العجوز السيّئ الطبع—لِمَ عليه أن يصعّب الأمور هكذا؟
“يا فيكونت ريل، ألستَ قد نسيتَ صَفْقتك معي—لا، مع سيّدة النقابة كايلا؟ دَينُ الحياة يُؤدّى دون شروط.”
“قلتُ لكِ لتوّي: أستطيعُ القفز من جُرْفٍ وأوفّيه هكذا.”
“أتمزح معي—”
هل يظن أنني قطعت كل هذا الطريق لألاعيب كهذه؟
وكدتُ أصرخ: أنا كايلا! وإن واصلت العناد رميْتُك بنفسي من ذاك الجُرْف.
وبينما كان صبري ينفد، تكلّم إدوين ببطء:
“…ما الذي عليَّ فعله لأثبت ذلك؟”
باتت ملامحه عازمة وهو يحدّق في ساج مباشرة. كان ما يزال يتصبّب عرقاً—لكن…
“ما الذي يجب أن أفعله لأُثبت أنني لست ‘أيّ أحد’… كي أصبح تلميذك يا سيّ—جَدّي—أعني، يا ساج؟”
“همم، ليس سيئاً. ظننتك ستهرب عند أول بادرة صعوبة.”
حتى أنا تفاجأت؛ فشخصية إدوين تجعل التقرب من غرباء أمراً شبه مستحيل. لكنه الآن يواجه ساج بثبات.
“بُهاها!”
قهقه ساج، وقد كان يراقبه من علٍ.
“يا أمير، كم عمرك؟”
“اثنا عشر.”
“اثنا عشر، إذن. العمر الذي يبدأ فيه العقل بالعمل كما ينبغي. ومع ذلك… أنا لا أحبّ الأذكياء.”
“هاه؟ ولماذا؟”
“لأنهم حين يكبرون ينتهي بهم الأمر أقلَّ ذكاءً مني على أيّ حال! بُهاها!”
“……”
ثم قطع الضحكَ فجأةً جمودٌ جادّ في ملامحه.
“لهذا لا أنظر هنا.”
نقر بإصبعه جبهةَ إدوين، ثم خفض يده.
“أنظر هنا بدلاً من ذلك.”
وأشار بإصبعه اليابس كغصنٍ عجوز إلى منتصف الصدر. رمق إدوين صدره مُستغرباً.
ابتسم ساج ابتسامة خفيفة، ثم فتح فجأةً الباب الخلفيّ:
“ليو! ليو! تعال إلى هنا!”
“أنا مشغول—لماذا تناديني مجدداً؟”
كان المُجيب فتىً.
“لقد كبر كثيراً.” عرفته حالاً: صبيّ لوكسن الذي ربّاه ساج عملياً.
“ماذا؟ لا يزال أمامي حطب كثير لأقطّعه.”
بدا في نحو الخامسة عشرة، يردّ بلهجةٍ حادّة وهو يرمقنا. مع ملامح شابّة، لكن عينين حادّتين وبنيةً متينة.
“آه، نسيت تعارفكما. هذا الفتى ليو. في مثل سنّك تقريباً. عملياً مساعدي.”
أزاح ليو يد ساج عن رأسه بضجر: “مساعدك؟ يا للهراء. لماذا ناديتني؟ لم أنهِ الحطب.”
“انسَ الحطب. اذهب واحفر بعض الحجارة مع هذا الفتى. ولا تنسَ الاطمئنان على أهل القرية في الطريق.”
“حاضر.”
دفع ساجُ إدوينَ إلى الخارج، فتصلّب الأمير الصغير حين واجه الفتى الواقف أمامه.
“آه، أم…”
كان ليو أطول منه برأسين كاملين. ومنه انبعثت قسوةٌ غامضة وضغطٌ أربك إدوين تماماً.
حدّق ليو في إدوين برهةً ثم استدار بلا مبالاة:
“ما بالك واقفاً؟ لن تأتي؟”
ناداه وهو يراوح بيني وبين ساج بنظره:
“ألم تسمع؟ ستأتي معي.”
“أ-أجل…”
“إن لم تفعل، سأرحل.”
“انتظر، قادم!”
نظر إليَّ نظرةً أخيرة، ولما رآني أومئ إيماءةً خفيفة لحق بليو.
ولمّا غاب الفتيان، عمّ السكون البيت.
وكان ساج أول من قطعه: “حسناً، سأختبر ما يقدر عليه الأمير الصغير لاحقاً.”
ثم عقد ذراعيه وحدّق بي: “أنتِ غريبة حقاً.”
تقدّم نحوي بضع خطواتٍ وقال متأمّلاً:
“تبدين مُرافِقة، لكنك لا تتصرفين كمَن تخدم الأمير. ولا كحاميةٍ له أيضاً.”
تمتم باستغراب صادق:
“أتيتِ بلا حرس، وتتركين الأمير يتجوّل وحده بالخارج؟ لا مُرافقٌ عاقل يفعل هذا.”
صحيح. ما لم يعرف أن هذا المكان ليس بخطورةِ ما يبدو، ما كان ليقدم على ذلك.
“أخشى أنني عاقلة تماماً، يا فيكونت ريل.”
“نبرتك أيضاً غريبة. ما أنتِ على وجه الدقة؟”
وما شأن نبرتي؟
اكتفيتُ بالصمت. عقد حاجبيه مفكراً، ثم سأل مجدداً:
“إذاً… كيف تعرفين كايلا؟”
“…رابطٌ قديم جداً يجمعنا.”
“أأنتما صديقتان؟”
“…يمكن قول ذلك.”
“لا تكذبي! أتظنينني أصدق؟ تلك الفتاة ليس لها أصدقاء! حتى أنا لا أملك!”
يا لهذا العجوز…
“صدّق ما تشاء. لكنني هنا لأن كايلا طلبتْ مني الحضور.”
قطّب وجهه ثم أمال رأسه: “همم. لا بد أنكما كنتما مقرّبتين. فمقامي هنا سرُّ دولة.”
تقبّل الشرح أسرع مما توقّعت—لا عجب، فكايلا كانت عملياً من أنقذ حياته.
‘مع ذلك، توقعتُ تشكّكاً أكثر منه.’
كان مُتعباً على غير العهد به، عالمٌ يشكّ في كل شيء… ولا يشك فيّ؟ شعورٌ مُربِك.
تردد لحظةً أخرى ثم قال: “هل ما تزال تلك الفتاة—كايلا—على قيد الحياة؟”
هل أقول: بين الحياة والموت؟ جسدُها فني، لكن روحها هنا…
“لم تمت. فلا تقلق.”
“…حقاً؟”
تبدّل وجهُه للحظات، ثم تنفّس بضجر:
“تلك الشيطانة! إن حبستني في مكان كهذا، فلتظهر على الأقل بين حينٍ وآخر! أربع سنوات بلا رسالة!”
لم أجب. اكتفيتُ بالتحديق في تجاعيد وجهه.
ذلك الوجه الذي كان يوماً ممتلئاً بالثقة والحدّة، لم يبقَ فيه الآن سوى الوحدة.
‘غريب…’
في ذاكرتي كان أشدّ فتكاً وحدةّة. أمّا الآن فملامحه متعبة.
“الناس في الخارج نسوا اسم ‘ساج ريل’ منذ زمن. هكذا هم البشر: لا ينسون أعداءهم، وينسون مُنقذيهم بسهولة.”
الآن، بدا مرهقاً فحسب.
أفنى عمره في سبيل الإمبراطورية والناس—فكان جزاؤه الجفاء.
“كنتُ أحمق. ظننتُ أنني أعلم كل شيء، لكنني في الحقيقة لم أفهم العالم قط.”
————-
Sage: تعني حكيم/فيلسوف/عالِم واسع الخبرة، وتُستعمل لقباً تشريفياً لشخصٍ تتراكم لديه الحكمة والمعرفة
التعليقات لهذا الفصل " 38"