الفصل 37: قرية الطاعون، لوكسن (2)
“نعم، في الوقت الحالي.”
“في الوقت الحالي؟”
“الشيخ العجوز يتصرف كما يشاء. قد يغلق الباب في وجوهنا.”
“ماذااا؟! وماذا سنفعل عندها؟ ماذا نفعل؟”
ما معنى “ماذا نفعل”؟ ببساطة، نأمل أن يثير إدوين اهتمامه.
“هل… هل سيعجبه أمري؟”
“لا تقلق. أنا أنوي أخذه معنا سواء أعجبك أم لا.”
تركت إدوين المرتبك خلفي، ثم التفتُّ نحو الباب.
كان باباً صغيراً بحيث يضطر الرجل البالغ إلى الانحناء لدخوله، وعليه علامة (X) صفراء كبيرة.
“الحمد لله، بما أن العلامة صفراء فهذا يعني أنه لم يمت بعد.”
“علامة؟”
“ألستَ قد رأيت الكثير من الأبواب المرسوم عليها (X) في طريقنا؟”
“بلى، رأيت.”
“العلامة الصفراء تعني أن ساكن البيت ما يزال حياً رغم إصابته بالوباء. أما إذا مات، تُستبدل بعلامة حمراء. إنها وسيلة تضليل متعمدة.”
كان الحُرّاس الذين يمرون أحياناً بدوريات في القرية يتجنبون دائماً البيوت ذات العلامة الصفراء، زاعمين أنها مشؤومة.
“رمز سرّي؟ هذا رائع جداً!”
تلألأت عينا إدوين بالفضول.
بعكس خوفه الشديد عند وصولنا، صار الآن يتصرف كطفل في عمره الطبيعي.
‘ألم يكن يرتجف منذ قليل؟ هل جميع الأطفال متقلبون هكذا؟’
هززت رأسي وعدت أنظر إلى الباب.
لكنني ترددت وأنا أرفع يدي لأطرق.
‘ما وراء هذا الباب ماضٍ يخص “كيلا أنجل”.’
كنت أعلم أن عليّ مواجهة إيان في النهاية، على الأقل لأجل الانتقام. لكنني لم أرغب أبداً في لقاء أي من الآخرين.
خصوصاً أولئك الذين قد يتحولون إلى نقطة ضعف لي.
‘لماذا؟’
لأنني أشعر بشعور سيّئ… وكأنني إن فتحت هذا الباب، لن أستطيع التوقف.
وكأن تلك الروابط المقطوعة ستزحف إلى حياتي الجديدة لتلتهمها.
“راشيل، هل هناك خطب ما؟”
“…لا شيء.”
لكن ما فائدة التردد الآن؟ لقد وعدتُ الأمير بأن أجد له معلماً، وأنا من جلبه إلى هنا.
لا مجال للعودة خالية الوفاض.
طق طق طق—
“يا هذا! أيها الشيخ!”
طق طق طق طق—
“راشيل! توقفي. ربما خرج لوهلة؟ لقد طرقنا كثيراً ولم يجب.”
“لا، هو بالداخل.” أجبتُ بيقين.
حكّ إدوين رأسه. “هل هذا الرجل يستحق كل هذا العناء حقاً؟ إلى هذه الدرجة؟”
“نعم. على الأقل، هو أذكى رجل عرفته على هذه القارة.”
“حقاً؟”
“نعم. ذكي لدرجة أن الناس كرهوه بسبب ذكائه. لهذا يعيش مختبئاً هنا.”
أليس من المفترض أن يُحترم الأذكياء؟ لماذا يُبغَض بسبب ذلك؟
ارتسمت الحيرة على وجه إدوين.
“هو يتظاهر الآن بعدم سماعنا. هذه عادته.”
طق طق طق طق—!
“راشيل، أليس من الوقاحة أن نستمر بالطرق—”
بام!
“لا بأس… افعلي ما تشائين.”
تراجع إدوين وهو يراقبني أطرق الباب بقوة وكأنني سأنسفه.
‘ما الذي يفعله العجوز بالداخل؟’
كنت على وشك كسر الباب حين—
فجأة، انفتح الباب بقوة.
“أيها الوغد—!”
فزع إدوين واختبأ خلفي.
“أي مجنون يطرق باب الناس بهذه الطريقة؟! هل تبحث عن الموت؟ من أنتما بحق الجحيم؟!”
خرج رجل مسن، شعره أبيض، يرتدي رداءً مهترئاً.
لكن رغم مظهره البالي، كان طوله يقترب من مترين، وعيناه الحادتان لا تشبهان عيني رجل عاجز.
تفحّصنا بعصبية، ثم زمجر: “ما هذا؟ ليسوا شُبّاناً بل طفلان أنوفهما يسيل! جئتما لتتسوّلا؟”
رغم أنني ما زلت أغطي رأسي بقلنسوتي، إلا أنه أدركني فوراً.
‘ما زال لسانه سليطاً كما عهدته.’
ازداد صوته حدةً عندما بقيت صامتة.
“ماذا الآن؟! تطرقين الباب ثم تقفين صامتة؟ إن لم يكن لديك عمل، فاغربي وإلا سكبتُ عليكم مياه المجاري—”
“الفيكونت ساج ريل.”
في اللحظة التي نطقتُ باسمه الكامل، اختفى التعبير الغاضب عن وجهه.
“لقد جئتُ لأستوفي الدين الذي في رقبتك… دين حياتك.”
ساد الصمت.
“ماذا… كيف تعرفين هذا؟”
اتسعت عيناه المليئتان بالتجاعيد حتى كادتا تتمزقان.
“من أين لك معرفة هذا السر—لا، تلك العبارة تحديداً؟”
“دعنا ندخل أولاً، ثم نتحدث.”
“ماذا؟! أتظنين أنني سأدخل غريبة طرقت بابي بجنون؟”
عجوز شكاك… لكن لعل هذا ما أبقاه حيّاً حتى الآن.
“لا يهمني أنا، لكن رفيقي مرهق من الطريق.”
زمجر بازدراء—ثم وقعت عيناه على إدوين.
وعندما قابل براءته بعينيه، تغيرت ملامحه بتأفف.
“اللعنة… لهذا يُقال لا تفتح الباب للمتسولين ومعهم أطفال.”
نقر لسانه وقال: “حسناً! ادخلا قبل أن أغيّر رأيي!”
دخلت دون تردد، بينما تردّد إدوين قليلاً وهو ينظر بخوف إلى العجوز، ثم تبعني.
كان البيت كما بدا من الخارج: سقف منخفض، مساحة ضيقة، نصفها مغطى بطاولة ضخمة عليها أعشاب وأحشاء حيوانات مجففة.
كانت رائحتها النفاذة تطغى حتى على عفونة القرية بالخارج.
“اجلسا حيثما شئتما! أو على السرير إن أحببتما!”
جلستُ إدوين المتردد على السرير، ثم نزعت قلنسوتي.
التفتُّ نحو ساج، فوجدته يحدق بي بتركيز.
“هيا، تكلّمي. من أنتما بحق الجحيم؟”
“أنا—”
“وفّري كلامك! لا بد أن تلك الملعونة هي من أرسلتكِ، وأنتِ تتحدثين عن دين الحياة.”
ذلك العجوز… ما زال يضع الإجابات قبل أن يسمع الأسئلة.
“إذاً ماذا تريدين مقابل هذا الدين؟ تلك الساحرة الماكرة كايلا لا تفعل شيئاً مجاناً.”
حكّ أذنه بملل.
“هيا، انطقي. إن كان شيئاً أستطيع منحه، سأعطيه وانتهى الأمر.”
“س—”
“مشبوهة؟ بالطبع! لكن لا يهم. تلك المرأة لن تكشف عن مكاني لأي غريب.”
كنت أعلم دوماً أنه يكرهني منذ أول لقاء لنا. أو ربما لم يرد الاعتراف بعكس ذلك.
“فلنكن واضحين إذاً.”
“حسناً، لنُنهي الأمر سريعاً.”
أومأ العجوز وهو لا يبدي اهتماماً.
لكنني قاطعته: “أرجوك… كن معلماً.”
“معلّم؟ ماذا؟”
قطّب جبينه وكأنه لم يسمع جيداً.
“أي هراء هذا؟”
“ليس هراءً. أرجوك أن تصبح معلماً.”
“من دون مقدمات؟” زفر ساخطاً.
“هاه! ألم تخبرك تلك المرأة أنني قد أموت لحظة أغادر هذا المكان؟”
“أعرف. فقد كسبتَ عداوة نقابات التجارة في الإمبراطورية.”
طبعاً أعرف. بل إن رؤساء النقابات طلبوا اغتياله من منظمتنا.
“وليسوا وحدهم. مملكة الكنيسة أيضاً تعاملني كأنني قتلت إلهاً لديهم. ومع ذلك تطلبين مني هذا؟”
“لا تقلق. سيتم نقلك إلى أكثر الأماكن أمناً في الإمبراطورية.”
“أكثر مكان آمن؟ لا وجود لمكان كهذا! هراء—”
“القصر الإمبراطوري.”
ما إن نطقتُ بالكلمة حتى خيّم الصمت.
“…القصر الإمبراطوري؟ هل قلتِ القصر الإمبراطوري؟”
كرر العبارة عدة مرات ثم رمقني بحدة.
“تطلبين مني أن أكون معلماً، ويكون القصر طرفاً؟ لا تقولي إن التلميذ أمير؟”
“كما توقعت، حدسك قوي.”
“كفّي عن الهراء! أتظنين أنني سأخطو برجلي إلى ذاك الجحيم؟!”
“سوف تذهب.”
ضيّق عينيه وهو يدرس ملامحي.
“تشبهين كايلا كثيراً. تلك النظرات الخضراء المتعجرفة، ونبرة الصوت المتعالية… تماماً مثلها.”
ابتسمت بصمت بدلاً من الرد.
فأطلق تنهيدة طويلة. “تبا… لا أصدق أنني عقدت صفقة يوماً مع تلك الساحرة اللعينة.”
ثم نهض فجأة وسار نحو إدوين.
ارتبك الفتى وتراجع، لكن العجوز لم يكترث.
“حسناً… ربما أغير جوّاً. قد يكون تعليم طفل في القصر أفضل من الاختناق هنا. وأغلب الظن لم يعد أحد يتذكرني.”
تمتم وهو يتفحّص إدوين مطولاً.
“إرسال طفل إلى قرية الطاعون… هل أسميه جرأة أم حماقة؟”
أطلق صوت امتعاض عندما لمح الجبس الأسود على ذراع إدوين.
“ما هذا التنكّر السخيف؟ هل أوحت لك كايلا به؟ لم يتحسن أسلوبها أبداً. حراس البوابة كانوا سيكشفونك بسهولة. رديء للغاية.”
بعد أن انتهى من السخرية، التفت إليّ مجدداً.
“لكن، هل هذا الولد حقاً أمير؟ يبدو بطيئاً أكثر من اللازم ليكون كذلك.”
التعليقات لهذا الفصل " 37"