الفصل 33: إنقاذ المعلّم (1)
قالت كاثرين وهي تجلس مقابلي بامتعاض:
“مربية، هل تسمعينني؟”
لكنني لم أعرها كثير اهتمام، بل واصلت التربيت بهدوء على بطن الأميرة الصغيرة إميليا، التي كانت غارقة في نومها وقت القيلولة.
قطّبت كاثرين حاجبيها وقالت بصوت منخفض خشية أن توقظ الطفلة:
“لم أكن أعلم أنّ منصب كبيرة الخادمات مريح إلى هذا الحد.”
فأجبتها دون أن أرفع عيني:
“مريح؟ أنا مشغولة لدرجة لا تُحتمل! لقد انتزعت هذه اللحظة من جدول مزدحم فقط لأجلس معك، مربية!”
رفعتُ بصري إليها قليلاً وقلت ببرود:
“ولماذا؟”
ارتبكت كاثرين وقالت بعد تردد:
“ماذا تعنين بـ (لماذا)؟ أردتُ أن أقترب منك أكثر…”
ثم صمتت فجأة وضاقت عيناها وهي تحدّق بي:
“على ما يبدو… أنتِ حقاً لا تعرفين كيف تكسبين الأصدقاء.”
ابتسمت بسخرية خفيفة:
“أنا؟”
قالت وهي تومئ برأسها:
“هل تعلمين أن باقي الخادمات يخشينك؟ يقولون إنك مثل عاصفة ثلجية تمشي على قدمين!”
‘بالطبع… وهذا ليس السبب الوحيد،’ فكرتُ.
فبعد حادثة طرد رئيسة الخادمات السابقة، انتشرت الشائعات عني بسرعة. قيل إنني أسقطتها أرضاً وصرخت في وجهها، بينما في الحقيقة هي من تعثرت، ولم أتفوه بكلمة.
قلت ببرود:
“لستُ مضطرة أن أكون لطيفة مع بقية الخادمات.”
هزّت كاثرين رأسها وأخفضت صوتها وكأنها تكتشف سراً خطيراً:
“اعترفي فقط… ليس لديكِ أصدقاء، أليس كذلك؟”
صمتُّ للحظة، فابتسمت منتصرة:
“ها! كما توقعت! لا يوجد لديكِ أحد.”
تمتمت ببرود:
“ليس الأمر أنني لا أستطيع، بل أنا أختار ألا يكون لي أصدقاء.”
“وما الضرر في أن يكون للمرء صديق؟! ألن يكون جميلاً أن تجدي شخصاً تتحدثين معه وتفتحين له قلبك؟ أليس العيش خلف جدران من العزلة شعوراً وحيداً؟”
“الوحدة؟” ابتسمتُ بمرارة.
الحقيقة أنني عشت بين الناس طوال حياتي، ولم أستطع أبداً أن أرى وجوههم الحقيقية. فما الفرق؟ سواء كنا معاً أم منفصلين… الإنسان في النهاية وحيد.
قلت بجدية:
“كلما اقترب شخصٌ منك، زادت خطورته. ففي عالم يطعن فيه حتى الأقربون، ما الذي سيمنع الأصدقاء من فعل ذلك؟”
تطلّعت إليّ بدهشة وقالت:
“أيّ كلام هذا؟ كأنكِ خُنتِ من صديقة من قبل!”
لم أجب… لكن الحقيقة أن من خانني لم تكن صديقة، بل كان الحبيب الذي أحببته أكثر من أيّ أحد. والطعنة التي غرزها في ظهري لا تزال محفورة في ذاكرتي.
اقتربت كاثرين قليلاً وهمست:
“مع ذلك… أريد أن أكون قريبة منكِ، مربية. بل… أريد أن نصبح صديقتين.”
“أنا وأنتِ؟ صديقتان؟”
ابتسمت وقالت بحماسة طفولية:
“هل تعلمين أننا في العمر نفسه؟”
نظرت إليها متفحصة بدهشة. كانت تبدو وكأنها لم تتجاوز أوائل العشرين، فهل قصدت أنها…؟
ضحكت قائلة:
“نعم، كلتانا في الحادية والعشرين. فلنتعامل كصديقتين من الآن فصاعداً.”
ترددتُ قليلاً. نعم… تذكّرت حينها أنني لم أعد “كيلا أنجل”، زعيمة القتلة، بل “راشيل براون”، فتاة في الحادية والعشرين فقط.
‘اثنتا عشرة سنة أصغر… ربما يجب أن أعتبر نفسي محظوظة.’
…
قطع صوتها أفكاري:
“مربية، هل حصل شيء؟”
أجبتها بعد لحظة:
“فقط… أدركت كم ما زلتُ صغيرة.”
ابتسمت بحزن وهي تقول:
“في مثل عمرنا، كثير من الفتيات تزوجن وأنجبن بالفعل. أما أنا، فلا زلت هنا.”
ثم أردفت بمرارة:
“النبلاء الذين لا يملكون مالاً… لا يختلفون كثيراً عن عامة الناس.”
تنهّدت وهي تضرب الطاولة بخفة:
“آه، أريد أن أتزوج! أريد زوجاً يشبه الدب، وأطفالاً لطيفين كالأرانب!”
ضحكت بسخرية:
“ولماذا لا تلجئين لخاطبة؟”
هزّت رأسها بسرعة:
“مستحيل! لن أقبل زواجاً مدبّراً! أريد أن أتزوج عن حب.”
سألتها بهدوء:
“أليس والدكِ فيسكونت؟ ألا يكفي هذا لترتّب عائلتك زواجاً مناسباً؟”
أجابت وهي تعبس:
“كان كذلك… لكنه ضيّع كل شيء في القمار. لم يتبقَ لنا شيء سوى الاسم.”
أطرقت قليلاً. كم من الحيوات دُمّرت بسبب الطمع والمقامرة…
…
قبل أن أعلّق أكثر، شهقت كاثرين فجأة وقالت:
“آه! نسيت أن أحضر وجبة خفيفة للأمير إدون!”
كان اليوم يوم دراسته مع المعلّم في الملحق، فلابد أنه ينتظره.
فتحتُ فمي لأرد، لكن صوتاً صغيراً قطع حديثنا:
“لا داعي لذلك.”
رفعت رأسها، فشهقت كاثرين مذعورة:
“صاحب السمو إدون؟!”
وقف الأمير الصغير عند الباب، يحمل بيده رسالة. بدت على وجهه علامات الإحباط.
“المعلّم لم يأتِ. وانتظرت طويلاً… ثم جاءت خادمة وسلمتني هذه.”
فتحت الرسالة، فإذا بها عبارات متكلّفة طويلة، لكنها لا تقول إلا شيئاً واحداً: المعلّم استقال.
ابتسمت بسخرية:
“ما طريقة درامية لإعلان الانسحاب.”
صاحت كاثرين بدهشة:
“انسحب؟! لكن… لقد قبض أجر الشهر القادم سلفاً!”
تنهدتُ في داخلي. بالفعل، كان يصلح تاجراً أكثر من كونه معلّماً.
كان الأمير يمسك بكتاب التاريخ، ملامحه حزينة، وكأنه يحمّل نفسه مسؤولية انسحاب المعلّم.
نظرتُ إليه مطولاً وقلت بصرامة:
“صاحب السمو… هل ما زلتَ بحاجة إلى معلم؟”
رفع رأسه متردداً، وعيناه الصغيرتان تلمعان بأمل خافت.
“إن كنتَ بحاجة… فسأجد لك واحداً.”
فأنا، كيلا أنجل، زعيمة نقابة القتلة السابقة… لم يكن يعجزني أن أجد رجلاً مناسباً لهذه المهمة.
كان الفجر قد اقترب، والشمس لم تشرق بعد.
خرجتُ بصمت من قصر الأمير الثالث متوجهة نحو البوابة الخاصة بالخدم، وهي الوحيدة المفتوحة ليلاً ونهاراً لدخول وخروج العاملين.
وعلى الرغم من الوقت المبكر، كان المكان يعجّ بالحركة: خدم أنهوا نوبتهم يغادرون، وآخرون يدخلون لتسلّم مهامهم.
“هل حقاً سنخرج؟”
جاءني صوت خافت من جانبي. التفتُّ، فرأيت الأمير إدون متخفياً تحت عباءة وغطاء رأس، لا يستطيع كبح حماسه الطفولي.
أشرتُ إليه بإصبعي لأصمت:
“اخفض صوتك، يا صاحب السمو.”
لم يستطع أن يخفي بريق الحماس في عينيه، ثم أشار إلى العربة المجهزة عند البوابة، حيث وُضعت فوقها أكوام من الأمتعة.
“وما كل هذه الأغراض؟”
أجبته بابتسامة خفيفة:
“هدايا… لمن سيكون معلّمك القادم.”
لكن الحقيقة؟ لم تكن هدايا، بل أدوات و”وسائل” أعددتها مسبقاً.
لم يكن عليه أن يعرف ذلك.
التعليقات لهذا الفصل " 33"