الفصل 30: أمنية ووعد (1)
«لن يشعر بالألم إلا إذا كان مستيقظًا، لذا فمن الأفضل أن يبقى فاقد الوعي.»
نهضتُ ببطءٍ واقفةً.
ارتاع الصيدلاني عندها، فانتفض وتراجع حتى كاد يسقط على ظهره.
«وأنت.»
«نـ-نعم!»
رفع يده فجأة وبدأ يهذي بأشياء لم أسأله عنها أصلًا.
«أ-أنا ماهرٌ أيضًا في صنع دواء الزكام!»
لم يكن هذا ما كنتُ سأسأله.
…مع أن دواء الزكام مهمٌّ هو الآخر.
ضيّقتُ عينيّ. «ما رأيتَه اليوم سرّ. مفهوم؟»
«نـ-نعم! سأتذكّر، سأتذكّر جيدًا، بالتأكيد!»
سجد الصيدلاني على الأرض بكامل جسده، مطأطئ الرأس.
«إذًا، قلتَ إنك تستطيع صنع دواءٍ للزكام.»
«نـ-نعم. الخادمات العاملات في دار الطب يقلن إن دوائي أفضل ما يكون. سريع وفعّال.»
«إذًا أعطني منه.»
«نـ-نعم!»
أسرع الصيدلاني إلى طاولة التحضير، تتحرّك يداه بسرعةٍ لا تكاد تُرى.
ولم يطل الوقت حتى ناولني جرعةً حمراء مُعتمة.
«أ-أمم، سمعتُ أن صاحب السمو الأمير الثالث صغير السن. الدواء آمن للأطفال، لذا أضفتُ قليلًا من شراب الفراولة.»
يا له من تفصيلٍ عديم الفائدة.
تناولتُ الدواء وحدّقتُ فيه مجددًا. «سأقولها مرةً أخرى. إن خرج أيّ شيءٍ مما حدث هنا اليوم…»
تحرّك الصيدلاني بسرعةٍ من جديد.
وقبل أن أكمل، كان قد ارتمى على الأرض مبسوطًا كاللوح.
«أ-أنا أقدّر حياتي! أقسم، أقسم أنني لن أبوح بما جرى هنا اليوم لروحٍ على وجه الأرض!»
مبالغته أخرجتني قليلًا عن هدوئي.
لكن بعد ما شهده للتو، فالأمر طبيعي.
«إن انتشرت الشائعات، فستكون أولَ من أبحثُ عنه.»
«نـ-نعم. فهمت.»
تركتُ الصيدلاني الذي بدا وكأنه يقف بين يدي الإمبراطور نفسه، وخرجتُ مسرعةً.
في البداية نويتُ أن أسرعَ الخُطا قليلًا فقط، لكنني وجدتُ نفسي أركض وأنا ألهث.
هكذا اندفعتُ نحو قصر الأمير الثالث.
بكل ما أوتيتُ من قوة، بأقصى سرعة.
«هـوووه…»
كان إدون لا يزال شاردًا، لم تستعد حواسّه توازنها من الحمّى.
فتحتُ شفتيه برفق وسقيتُه الدواء قسرًا.
«مربيّة، ماذا لو دخل في مجرى خاطئ…»
«لا تقلقي. قد لا أعرف الكثير عن التمريض، لكنني جرّعتُ الكثيرين دواءً من قبل.»
«ماذا؟»
خلافًا لقلق كاثرين، لم يسكب إدون قطرةً واحدة.
لم يبقَ سوى أن أرجو ألا تكون مهارة ذاك الصيدلاني البائس مجرد كلام.
«سموّ الأميرة إميليا، ستلتقطين الزكام إن بقيتِ هكذا.»
«لا! ليا ستبقى مع أخي!»
كانت إميليا قد تشبثت بأخيها ولم تبرح موضعها منذ قبل وصولي.
من أين ورثت تلك العِناد؟
تنهدتُ قليلًا، فحملت كاثرينُ الأميرة.
«مممف! ليا قالت إنها ستبقى مع أخي!»
«سموّ الأميرة إميليا، لنذهب لنتناول وجبةً خفيفة. المطبخ صنع كعكة العسل المفضّلة لديكِ.»
«ماذا؟ كـ-كعكة العسل؟»
انعقد حاجبا إميليا الصادقين.
كعكة العسل… أم أخوها المريض.
وهي تعضّ إصبعها، تمتمت الأميرة: «لا أستطيع… ليا يجب أن تبقى لتحمي أخي…»
«سأحرسُ الأمير إدون. فلتذهبي رجاءً.»
عند كلمتي، أزهرت ملامح الأميرة كزهرة. «حقًا؟»
«نعم.»
«حسنًا! إذن آتشل، احمي أخي بدلًا مني! يجب أن تفعليها كما يجب، مفهوم؟»
«لكِ وعدي.»
وهكذا، غادرت إميليا الغرفة في حضن كاثرين.
حلّ الصمت. لم يبقَ سوى نَفَسِ الأمير يملأ المكان.
كان نَفَسه أهدأَ مما كان قبل تناول الدواء.
تحسستُ جبينه—كان أبرد بوضوح.
(يبدو أن ذلك الصيدلاني لم يكن كلّه ادّعاء).
زفرتُ زفرةً صغيرة واستندتُ إلى الكرسي.
خارج النافذة، كانت الشمس قد بدأت تميل إلى المغيب.
نزلاتُ الربيع عنيدةٌ أشد العناد.
حتى بعد تناول الدواء، ظل إدون مريضًا عدة أيام.
توقف السعال كليًا، لكن حمّاه كانت ترتفع وتهبط كل ليلة.
لذلك، اضطرت كاثرين وراشيل للتناوب على تمريضه ليلًا ونهارًا.
مضت أيام، وفي سكون الفجر الباكر حين كان الجميع نيامًا—
فتح إدون جفنيه المثقلين ببطء.
كان جسده كله كأنه ضُرب ضربًا مبرّحًا، لكنه صار الآن بخير.
ومن خلال رؤياه المموّهة، رأى شخصًا جالسًا إلى جواره.
شخصًا جلس وظهره إلى القمر، يرقبه.
«إيما؟»
سواءٌ أكان بقايا نوم أم أثر حمّى—
نطق إدون باسم من لا يمكن أن يلقاه ثانيةً.
«إيما… أنتِ؟»
وامتلأت عيناه الحزينتان بالدمع سريعًا.
«إنها أنتِ فعلًا، أليس كذلك يا إيما؟»
مدّ يده بيأس.
«لماذا… لماذا جئتِ الآن فقط؟ دعوتُ طويلًا.»
ولو في الحُلم، مرةً واحدة—توسّل أن يراها.
وحينها، أمسكت إيما بيده.
من غير أن تنطق.
«إنها أنتِ حقًا يا إيما…»
قبض إدون على اليد الباردة بقوة.
كأنه لا يريد أن يفلتها أبدًا.
وبقيا طويلًا هكذا، متشابكي الأيدي في صمت.
«إيما.»
ثم فتح الأمير فمه ببطء.
«أنا آسف.»
حين شربت الشاي المسموم الذي أرسلته الإمبراطورة الثانية وكانت تحتضر—لم يستطع أن يفعل شيئًا لها.
«أنا آسف… آسف حقًا.»
أميرٌ لا يملك شيئًا، دائمًا من يُحمى.
جبانٌ لم يستطع حماية أخته الصغيرة.
انهمرت الدموع بلا انقطاع من عيني إدون.
«كان ذنبي. كنت مخطئًا.»
خرج صوت الأمير الصغير مبحوحًا مكسورًا.
«أنا آسف… أنا آسف…»
«وعلامَ كل هذا الأسف؟»
في تلك اللحظة، تكلمت إيما لأول مرة.
كان صوتها أخفضَ وأكثرَ برودةً من ذي قبل.
لكن إدون لم يكن في حالٍ يسمح له بأن يلحظ الفارق.
«أنا… أنا آذيتُ إميليا. كما فعلتُ بكِ، يا إيما.»
أطبق الأميرُ عينيه كأن مشهدًا هالَه.
«ومَرّة أخرى، لم أستطع فعل شيء أمام أخي لويد. القتال لم يُجْدِ.»
عضّ إدون شفته.
«أنا آسف. لقد تمنّيتِ سعادتي يا إيما، لكنني لم أعد أعرف.»
كلما حاول أن يقبض على السعادة، خرجت شقاوةٌ كامنةٌ من تحتها وابتلعته.
«إيما، ما السعادة؟ لا أعرف. ماذا ينبغي أن أفعل لأكون سعيدًا؟»
ارتجفت كتفاه الصغيرتان بخِفّة.
«أمّي رحلت، وأنتِ رحلتِ أيضًا. كل من حولي ينتهي به الأمر إلى الرحيل.»
وتلك المرأة الغريبة أيضًا قالت إنها سترحل.
مع أنها ادّعت أنها دائمًا في صفه.
«…سترحل هي أيضًا. ليا سترحل يومًا ما.»
تمتم إدون وهو يُمسك بيد إيما بقوة.
«أنا خائف يا إيما.»
خائفٌ من أن يُترك وحيدًا، بلا أحدٍ إلى جانبه.
لكن أكثر ما كان يخشاه هو أنه حتى الآن، في هذه اللحظة بالذات—
لا يملك قوةً لحماية الشخص الوحيد الباقي إلى جواره.
«…لو كنت بذكاء أخي الأكبر، أو بقوة أخي الثاني، ربما لمَا رحل أحد.»
احمرّ وجهه مجددًا، لعل الحمّى عادت.
«لماذا… لماذا أنا…! كح، كح!»
وما إن داهمه السعال حتى نهضت إيما.
فتح إدون عينيه فزعًا عند حركتها وصرخ:
«لا! لا تذهبي! لا تتركيني وحدي، إيما!»
«شش—»
استقرّت يدٌ باردة على جبين الأمير المحموم.
وعند تلك البرودة، أغمض إدون عينيه على سجية.
«لن أرحل.»
«حقًا؟ لن ترحلي حقًا؟»
«نعم.»
«حقًا؟ هل تعدين؟»
«…نعم. أعد.»
عندما سأَلها ثانيةً بصوتٍ مرتجف، هزّت رأسها ببطء.
«فنم قليلًا إذن.»
وكأن كلماتها سحر،
انزلق الأمير إلى النوم مطمئنًا،
تحت تلك الملامسة الباردة الودودة.
كان الأفضل لو أنني نسيتُ كل شيء.
«كانت تلك آخرَ أمنيات إيما.»
«أمنية، تقولين؟»
«نعم. قالت إيما إنها ترجو أن أكون سعيدًا. لعلها كانت أمنيتها الأخيرة.»
رفعتُ يدي عن جبين إدون.
«لماذا كان يجب أن تكوني أنتِ؟»
في البداية ظننتُها مجرّد تشابه أسماء. ثم رجوتُ أن تكون فقط مُسَمّاةً مثلها.
لكن في النهاية، لم أملك إلا أن أُدرك الحقيقة.
أنها الشخص نفسه الذي عرفته باسم «إيما».
الكونتيسة إيما كونراد.
مُربيّة إدون الراحلة… والمرأة التي ربّتني يومًا ما.
امرأةٌ لم يكن اسم عائلتها الأصلي «كونراد» بل «ليوشِه».
«…إذًا كذبتِ عليّ فقط لتَموتي على نحوٍ بائس كهذا.»
لا يزال آخر يوم رأيتُ فيه إيما عالقًا في ذهني.
قالت بوضوح إنها ستعود إلى مسقط رأسها لتعيش مع عائلتها الحقيقية.
وأنه لا داعي لأن أذهب لأبحث عنها بعد الآن.
—بل إنه يحظر عليّ أن أبحث عنها.
«إن أردتِ قطع العلاقة، كان يكفي أن تقولي ذلك.»
لو قالت، لتقبلتُ الأمر برحابة صدر.
ومع ذلك، أبقت الهدية التي أهديتُها لها… حتى بعد موتها.
«…اللعنة.»
تمتمتُ وأنا أنظر إلى سوار اللؤلؤ اللامع في معصم إدون.
كان تذكارًا رخيصًا اشتريتُه بأول أجرٍ من نقابة القتلة.
شراءٌ اندفاعي محض.
مع أنني ظننتُ أنني لن أراها ثانيةً، اشتريتُه لأن صورتها خطرت ببالي.
وفي اليوم الذي وعدتُ فيه سيّد النقابة ألا ألتقي إيما مجددًا—
اليومِ الذي صادفتُها فيه مرةً أخرى.
حين تعلّقت بي وهي تبكي، أعطيتُها السوار.
«كايلا، ما هذا؟»
«…عُربون. إن جئتِ به، سأحقق لكِ ثلاث أمنيات بلا ثمن.»
عند كلمتي، توقفت عن البكاء وانفجرت ضاحكة.
كانت تنظر إليّ بعينين كأنها ترى حنان طفلٍ مُرتبك عند الكبار.
«لا زلتِ صلبةً كما كنتِ. كان يمكنكِ أن تقولي إنه هدية فحسب.»
ولمّا رأت وجهي المربك، ضحِكت إيما طويلًا ومسحت دموعها.
«إذًا، هل أستطيع استخدام الأمنية الأولى؟»
«تفضّلي.»
«هل ستأتين لزيارتي؟ حتى لو لم تُظهري وجهكِ.»
يبدو أن إيما كانت تعرف جيدًا نوع العمل الذي كنتُ أعمله.
«يكفيني أن أعلم أنكِ بخير.»
التعليقات لهذا الفصل " 30"