بعد حادثة الحديقة
بعد الفوضى التي حدثت في الحديقة المركزية، عدنا سالمين إلى قصر الأمير الثالث.
بادرت فوراً إلى فحص إصابات الأميرة إميليا. ولحسن الحظ، لم تكن سوى كدمات شديدة على بشرتها، دون أي ضرر في العظام أو العضلات.
أن تُركل من صبي في طور النمو وتخرج بمثل هذه الإصابات فقط… فهذا بحد ذاته حظ عظيم.
“أعتذر! أعتذر كثيراً يا سمو الأميرة! لو أنني لم أغادر مكاني، لما حدث هذا أبداً!”
كانت كاثرين تذرف دموعها بغزارة وهي تنظر إلى الكدمات الداكنة على جسد الأميرة. لم تهدأ حتى انتهى العلاج. جلست بجوار السرير بوجه منتفخ من البكاء، فبدت في غاية البؤس.
قلت ببرود: “البكاء لن يشفي جروحها. توقفي الآن، وإلا أيقظتِها.”
“يا… يا مربية…”
تجاهلتُ نشيجها وأمسكت بالمرهم والمنشفة.
“لماذا تركتِ مكانك بهذه الرعونة؟”
“ه-هذا…”
“لو حدث مكروه لأحد سموّيهما، لم تكوني لتستطيعي تحمّل المسؤولية.”
انفجرت كاثرين في بكاء أشد، فشعرتُ بعدم الارتياح وأنا أنظر إلى عينيها الغارقتين في الذنب.
تنهدتُ أخيراً: “الخطأ الأكبر خطئي أنا، إذ تركتُ مكاني. ليس ذنبك وحدك.”
صرخت باكية: “لا! هذا غير صحيح! أنتِ لم ترتكبي أي خطأ! كان خطئي لأني أصررتُ أن أرافقهما…”
“يكفي. ما حدث قد حدث. ما يهم هو ألا يتكرر ثانية.”
“نعم! أعدك! لن يتكرر أبداً!”
مسحت دموعها وأومأت بعزم. فقلت: “إذن سأذهب لرؤية الأمير إدوين. سأستدعي خادمة تعتني بسمو الأميرة—”
قاطعتني: “لا، سأبقى هنا هذه الليلة.”
“ومهامك كرئيسة للخدم؟”
“سأؤديها غداً. الأطفال أجسادهم هشة، قد تصاب بالحمى لاحقاً أو تشعر بألم…”
لم ترفع بصرها عن الأميرة النائمة، وعيناها العسليتان تشعّان بالندم والأسى.
قلتُ بهدوء: “مفهوم. سأترك الأمر لكِ.” ثم غادرت الغرفة.
كان على الخاطئ طيب القلب أن ينال نصيبه من الكفارة بنفسه.
مواجهة الأمير إدوين
طرقت الباب فلم يصلني رد، ففتحت غرفة الأمير دون تردد.
كان واقفاً أمام النافذة، يحدّق في المطر المنهمر.
“يا سمو الأمير، جراحك—”
“كيف حال إميليا؟”
تحدث دون أن يلتفت، وصوته واهن لا قوة فيه.
قلت: “تلقت العلاج وغفت لتوها.”
“هل كانت إصابتها بليغة؟”
“الكدمات تبدو خطيرة، لكنها ستتعافى سريعاً.”
أومأ برأسه قليلاً.
قلت: “يجب معالجة جراحك أيضاً، يا سمو الأمير.”
“أنا بخير.”
“لقد رأيت الجرح على وجهك. دعني أضع لك المرهم—”
مددت يدي، فإذا به يصفعها بعيداً ويصرخ:
“قلت إنني بخير—!”
سقط وعاء الدواء وارتطم بالأرض محدثاً ضجة.
تجمد، وقد بدا مرتبكاً مما فعل. ثم رفع صوته بتوتر:
“قلت لكِ بخير! لِمَ الإصرار—!”
أمسكت بذقنه فجأة وقلت ببرود:
“هذا ليس وجهاً بخير.”
احمر وجهه: “م-ماذا تفعلين؟! لا يمكنك لمس وجه أمير—!”
أجبته بصرامة باردة: “حين تدرك خطأك، وجب أن تغضب من نفسك، لا من الآخرين. فكفّ عن صبّ غضبك على غيرك.”
ارتجفت رموشه، ثم خفض بصره. عندها فقط بدأت بمعالجة جرحه.
“لقد تلقيتَ ضربة قوية.”
“آه! يؤلمني!”
“قلتَ إنك بخير.”
تجاهلت تذمره وأتممت وضع المرهم. لم يكن مصاباً سوى في وجهه.
قلت: “اليوم ارتكبتَ خطأين يا سمو الأمير.”
رفع رأسه: “ماذا؟”
“أولاً، خرجتَ مع الأميرة من القصر دون مرافقة.”
حررت ذقنه وأكملت: “ثانياً، اندفعتَ لمهاجمة من هو أقوى منك دون خطة.”
صرخ محتجاً: “أتريدينني أن أقف جباناً؟!”
“الضعفاء يجب أن يكونوا جبناء.”
اتسعت عيناه: “لتبقى على قيد الحياة.”
زمجر: “إذن يكفي أن نعيش فقط؟ حتى وإن عوملنا كأسوأ من الحشرات، يكفي أن نبقى؟!”
أجبته دون تردد: “بالطبع. لا شيء أثمن من الحياة.”
ثم أردفت ببرود: “وتمرّد بلا معنى من شخص يجهل قدره، لا يجلب سوى نقمة الأقوياء.”
تشنج وجهه ألماً.
همست: “أما كان أجدر بك أن تتحمل حتى النهاية؟”
ارتبك: “ذاك… ذاك لأن…!”
قاطعته: “تحملتَ الإهانة الأولى والثانية لأنك استطعت. لكنك لم تستطع أن تكبح نفسك الثالثة.”
قال محتقناً: “الإهانة يمكن تجاهلها… والشاي لم يكن ساخناً أصلاً…”
فأجبته: “لست ألومك لأنك كنت جباناً. بل أقول أحسنت.”
ارتجف كتفاه. واصلْتُ: “لكن مشكلتك كانت في اندفاعك الأخير بلا خطة. لو كنت مكانك، لكنت هدّأت الأمير الثاني، وأمسكت بالأميرة، ثم وجدت سبيلاً للخروج.”
تطلعت إلى عينيه الزرقاوين وقلت:
“الوعد بحماية أحدهم ليس كلمة عابثة.”
عضّ على شفته حتى سال الدم، ثم خفض رأسه خجلاً.
قلت بصرامة: “لقد قلت إنك لا تريد أن تكون جباناً. لكن الآن، من أجل إميليا ومن أجل نفسك، الأفضل أن تكون كذلك.”
خيبة الأمير
التفتُ لأغادر، فإذا بصوته يوقفني:
“انتظري.”
رفع بصره نحوي متردداً: “كيف عرفتِ ما حدث لإميليا؟ لقد حضرتِ وأنا أتشاجر مع لويد.”
أجبته: “كنت هناك من قبل.”
اتسعت عيناه: “إذن رأيتِ كل شيء؟ ولم تتدخلي؟”
“نعم.”
انقبض وجهه كمن طُعن بالخيانة:
“لكن… أنتِ مربيتي! وعدتِ بحمايتي! لماذا تركتني؟! لماذا وقفتِ تشاهدين فقط؟!”
أمسك بثوبي برجاء. نظرت إليه بصمت. طفل نقي، ساذج، يتحدث بسهولة عن حماية الآخرين وعن رفض الجبن.
لكن كان عليه أن يتعلم ثِقَل تلك الكلمات من التجربة المريرة.
فككت يديه عن ثوبي ببطء وقلت ببرود:
“لقد ساعدتك بقدر ما أستطيع.”
كان تدخلي في صراع بين الأمراء مخاطرة تكفي لأن تُعدم عليها مربية. لولا تدخل الإمبراطور وملك آدامانت، لكنتُ هلكتُ منذ قليل.
قلت له بصدق:
“تذكر، يا سمو الأمير: ما دمت ضعيفاً، إن لم تتعلم كيف تكون جباناً، فلن تستطيع حماية نفسك… ولا أي أحد آخر.”
التعليقات لهذا الفصل " 25"