المواجهة مع الأمير الثاني
“ماذا…؟”
وقف لويد جامداً للحظة، ثم التوى وجهه كوجه شيطان. أشار نحوي بإصبعه ورفع صوته:
“أتظنين أن هذه الحجة ستنفع؟! فارسي إنما أطاع أوامري، فلا خطأ في ذلك…!”
قاطعتُه بسرعة كالرصاص، قبل أن يتم كلماته:
“يا سمو الأمير لويد! إن إساءتي كانت بغرض منع القتال بين سموكما، أمّا هذا الرجل فقد دفع الأمير إدوين من غير سبب، فجريمته أعظم!”
كان صوتي مرتفعاً حتى ارتجفت أوراق الأشجار.
“فإن عاقبته أولاً، فسأقبل عقوبتي أيضاً بطيب نفس!”
احتضنتُ إدوين وانحنيت عميقاً. وبدأ الهمس بين الخدم والحضور.
“كلامها ليس خاطئاً. كيف لفارس أن يتجرأ ويدفع أميراً؟”
“مهما كان الأمير الثالث محتقراً، فذلك تجاوز…”
“حتى لو كان فارس الأمير الثاني، فدفعه هكذا أمر مفرط.”
“فارس كهذا لا يعرف الشرف. من أي فرقة هو؟”
أدرك فارس لويد أن الجو ينقلب ضده، فأمسكني من ياقة ثوبي وصاح:
“ما الذي تفوّهتِ به أيتها الوضيعة؟ جرمي لا يحكم به إلا الأمير لويد! كيف تجرئين؟!”
أجبته بصرامة:
“وكذلك أنا! جرمي لا يحكم به إلا سيدي الأمير إدوين، فأنت لا تملك حق التدخل!”
“وقحة! أتلعبين بالألفاظ!”
احمرّ وجهه غضباً، وأمسك بمعصمي ورفع سيفه. تألّق نصل السيف تحت شمس الظهيرة.
“أغخ—!”
صرخ الفارس فجأة وسقط أرضاً، وقد التوى معصمه الذي كان يمسك بالسيف.
“لا ينبغي التلويح بالسيوف باستهتار في القصر الإمبراطوري.”
صوت عميق خفيض جعل قشعريرة تسري في ظهري.
رفعت بصري ببطء، فإذا برجل يرتدي درعاً حالك السواد يقف مكان الفارس.
“هذا خطر.”
أدار السيف في يده بخفة، وكان هو السيف ذاته الذي سقط من يد الفارس.
نظرت إليه مذهولة، فيما تقدّم لويد بخطوات متجهّمة وقال بنبرة متكلّفة الاحترام:
“الملك كايدن.”
إنه ملك مملكة آدامانت الفتيّة، الملك كايدن. أومأ بخفة نحو الأمير الثاني، الذي عقد حاجبيه من بروده.
“ما الذي أتى بك، يا جلالتك؟”
ابتسم كايدن قائلاً:
“كنت مارّاً فرأيت امرأة يهاجمها أحد الأوغاد، فتدخلت.”
رغم أن الفارس كان يرتدي درعاً فضياً واضحاً، تظاهر كايدن بالجهل، كأنه يسخر من لويد.
“ذلك الرجل ليس وغداً بل فارسي!” صرخ لويد.
“أه حقاً؟” رفع كايدن حاجبيه متعجباً.
“معذرة، لكن كل ما رأيته هو وغد يلوّح بسيفه في وجه امرأة.”
شهق لويد غيظاً. فردّ كايدن بابتسامة هادئة:
“قبل أن تنتقد غيرك، أصلح شأن رجالك أولاً، يا سمو الأمير.”
“ماذا…!”
“وقبل ذلك أصلح عادتك في إصدار أوامر بقطع أيدي الناس لأتفه الأسباب.”
“أتفِه؟! كيف تجرؤ على الكلام هكذا…!”
وبينما كان لويد على وشك الانفجار، دوّى صوت جهوري:
“لويد، كيف تجرؤ على الوقاحة مع ضيف!”
“أبي…؟”
ظهر رجل في منتصف العمر، يرتدي عباءة حمراء وتاجاً مرصعاً بالجواهر. إنه الإمبراطور كافيليوس الثالث.
رغم مظهره البسيط كفلاح، إلا أن بصره كان يفيض هيبة.
“السلام على شمس الإمبراطورية!”
جثا الجميع أرضاً. حتى لويد انحنى على ركبة واحدة مرتبكاً.
“الأمير الثاني لويد يحيّي والده!”
قال الإمبراطور بصرامة:
“لويد، ما هذا الضجيج في قصر مقدس؟”
“كنت أعاقب هذه المرأة لإهانتها لي.”
“إهانة؟ بأي صورة؟”
“حسناً…” تعثر لويد بالكلام، مدركاً أنه آثم.
تنهد الإمبراطور:
“يكفي. إن لم تُجب، سأستمع إلى غيرك.”
ثم التفت إليّ.
“انهضي.”
أطعت أمره وانحنيت. “السلام على شمس الإمبراطورية.”
“أأنتِ من صرخ قبل قليل؟”
“نعم يا جلالة الإمبراطور.”
“صوتك قوي، بلغ مسامعي وأنا في الطريق.”
“أعتذر.”
“أهو حق ما قلتِ؟ أنك حاولتِ منع شجار بين الأميرين، وأن هذا الفارس دفع الأمير إدوين بلا سبب؟”
“نعم يا جلالتك.”
قاطع الفارس مذعوراً:
“يا جلالة الإمبراطور! أنا بريء! لم أقصد—!”
تجمدت نظرات الإمبراطور كالجليد:
“ألَم أمنحك إذناً بالكلام؟”
“أ-أعتذر.”
انحنيتُ ساخرة في سري من حماقته.
“إذن تؤكدين أن جرمه أعظم من جُرمك؟”
“لم أقل إنني بريئة، لكن طلبت أن يُعاقب أولاً لأنه تعدّى على الأمير.”
“هُم.”
أومأ الإمبراطور، ثم رفع يده. تقدم حرّاسه الإمبراطوريون.
“خذوه إلى ساحة الإعدام. اقطعوا ذراعه وانزعوا عنه لقب الفروسية.”
اصفرّ وجه الفارس.
“جلالتك! أنا بريء! سمو الأمير لويد، أنقذني!”
لكن سيده قد تخلّى عنه منذ البداية.
ثم التفت الإمبراطور إلى إدوين الواقف مرتجفاً بجانبي. تأمله قليلاً ثم نظر إليّ ثانية:
“تصرفك كان وقحاً، لكن نيتك حسنة. سأصفح هذه المرة فقط.”
“أشكرك يا جلالتك.”
صرخ لويد غاضباً:
“أبي! هذه المرأة أمسكت بي ودَفعتني أيضاً! كيف…!”
“كفى، لويد.”
“أبي—!”
لكن الإمبراطور لم يغيّر حكمه.
“سأجد لك حارساً جديداً بنفسي. انتهى الأمر.”
زمجر لويد وهو يشيح بوجهه، ثم خرج بخطوات غاضبة.
قال الإمبراطور بأسف:
“مخزٍ أن يفقد الأمير سيطرته على عواطفه بهذا الشكل.”
ثم ابتسم للرجل بجانبه:
“عذراً يا جلالة الملك، لقد شهدت مشهداً بائساً.”
“لا بأس. الفتيان في مثل هذا العمر تملؤهم الحماسة.”
ذلك الرجل لم يكن سوى الملك كايدن، ملك مملكة آدامانت.
‘لم أشعر بوجوده قط.’
تذكرتُ لحظة ظهوره. حتى التواء معصم الفارس لم أستطع استباقه. هل يعقل أن إشاعة قتاله مئة وحش وحده ليست محض مبالغة؟
قال الإمبراطور:
“الجو حار، فلنكمل الحديث في القصر.”
“كما تأمرون، جلالتكم.”
حين مرّ بجانبي، انحنيتُ. فمرّ الملك كايدن بدوره، وعندها شممت رائحة مألوفة: الياسمين.
رائحة الصابون التي كنت أستعملها في حياتي السابقة، مخلوطة بلمسة نعناع خفيفة. لم يكن يُباع إلا في صيدلية صغيرة نائية… كيف يحمله ملك أجنبي؟
هذا غريب.
رفعت رأسي ببطء، وإذا بصوت منخفض يهمس وحدي:
“ظننتكِ بارعة فقط في التخفي، لكن يبدو أنكِ حادّة الذكاء أيضاً.”
تجمد وجهي. التخفي؟
رفعت بصري، فالتقت عيناي بعينيه الكهرمانيتين اللامعتين كعيني وحش. ابتسم بخفة، ثم مضى كنسمة ريح.
“إلى لقاء آخر.”
التعليقات لهذا الفصل " 24"