الفصل 105 – ضيف القصر الأميري (8)
(لقد جُننت حقاً.)
لا، بل جنون كامل. كيف أسمح لنفسي بالشرود والهدف أمامي؟
أعادني إلى رشدي الخنجر المغروس على بعد خطوات قليلة.
(أن يلتقط مجرد اضطراب في تنفسي ثم يقذف خنجراً بتلك الدقة…)
لم يكن الأمر مجرد حدة حواس. لم يُلقَّب عبثاً بـ«إله الحرب».
(لا مجال للتهاون.)
كتمت أنفاسي من جديد حتى أخفيت أثري تماماً. وفي تلك اللحظة استدار كايدن ببطء نحو رجاله.
قال ببرود:
«لا شيء. خُيِّل إليّ أن أحداً هنا.»
— «مولاي؟ غيرنا؟ لقد فتشنا المكان قبل وصولكم ولم يكن فيه أحد.»
«إذن فلا بد أنه حيوان بري.»
(الاقتراب أكثر مخاطرة.)
فقد كان أكثر حدة مما توقعت، وخطوة أخرى تكفي لفضحي. لكن ربما تكفيني هذه المسافة لالتقاط ما يقولون.
أنصتُّ، لكن أصوات القصب وهي تتمايل مع الريح ابتلعت الكلمات. لم ألتقط سوى شذرات باهتة:
«… ما ذكرتم… ناجٍ من … الملك…»
«… مهما كان… لا نهاية له…»
رفع كايدن يده فجأة، فصمت الفرسان وتراجعوا عشر خطوات دفعة واحدة.
(ما الأمر؟)
خفضت جسدي بين الأعشاب أراقب. فجأة، جثا كايدن على ركبة واحدة.
(ماذا يفعل؟)
ثم رأيت: الأرض تحت ركبته كانت أغمق من محيطها، كأن النار قد أحرقتها.
وفي تلك اللحظة أحسست بحرارة لاذعة في صدري.
(أَحرِق… ولا تُبقِ حتى الرماد.)
وضعت يدي على فمي لأكتم صرخة. سال العرق من جبيني، يتساقط على التراب المظلم.
(…مستحيل.)
هذا هو المكان… المكان نفسه.
مكان مقتلي قبل عام.
حين اغتلتُ النبيل الذي كان يتفاوض مع البطريرك، وفي طريق العودة غُرِز السيف في ظهري.
ومن كان القاتل؟ أعز من أحببت… «إيان».
ارتجّ بصري وأنا أقاوم الذكرى.
ثم رأيت كايدن يلمس التراب المتفحّم. كانت التربة اليابسة تتفتت مسحوقاً بين أصابعه.
لم يقل شيئاً، لكن هيئته بدت موحشة، موغلة في الوحدة.
ثم انسكب عليه ضوء القمر…
(يبكي؟)
لم يكن وهماً. كانت دموع صامتة تنحدر من عينيه الجامدتين.
(لكن… لماذا؟)
أي شيء قد يجعل ملكاً يبكي في ضفة مهجورة من أرض غريبة؟
تمتم بكلمة واهنة، قرأت حركة شفتيه تلقائياً—فتجمّدت.
«…كايلا.»
ذلك الاسم… كان اسمي القديم.
ارتبكت، فحركتي أحدثت صوتاً. لكن لم أبالِ.
استدرت وهربت.
شعرت ربما بنظرة لاحقة تخترقني من خلفي، لكن لم أهتم. أردت الفرار فحسب—من الحريق الذي اشتعل في صدري.
عُدتُ إلى القصر وأوصدت باب غرفتي، ثم سقطت جالسة.
(كيف؟)
لم يكن يسيطر على عقلي ذكرى «إيان» أو ثأري منه، بل سؤال واحد:
(كيف عرف كايدن اسمي؟)
ربما… كان يعرفه من قبل. فأنا كنتُ قائدة تنظيم الاغتيالات الأكبر في القارة، ومن مثله يمكن أن يعرف.
لكن… لِمَ قاله هناك بالذات؟ ولماذا بوجه من فقد أغلى ما يملك؟
(أكنا نعرف بعضنا؟)
قلّبت ذاكرتي ولم أجد شيئاً. لا وجه ولا اسم. لا أثر لكايدن.
(من أنت، بحق السماء؟)
عضضت شفتي وأنا أستعيد وجهه الجامد والدموع تتساقط منه.
كانت أطول ليلة في حياتي.
في تلك اللحظة، ظهر «أوريل» في بلورة الاتصال يتثاءب بعنف:
[مولاي… في هذه الساعة؟ ألا تبالغون؟]
لكن ما إن رأى صرامة ملامح سيده حتى جمد.
[هل وقع خلاف مع الإمبراطور حول المَسوخ؟]
قال كايدن ببرودة حديد:
«أظنني وجدتُه.»
[ماذا؟]
«قاتل كايلا.»
تقطب وجه أوريل بالقلق:
[مولاي، ما جدوى الانتقام لميّت؟ تلك المرأة—]
«وأظنني أستطيع العثور على كايلا أيضاً.»
اتسعت عيناه بدهشة:
[لكن الطقس السحري فشل! قلبنا القارة ولم نعثر على أي أثر…]
وقف كايدن في الظلام، يقبض كفيه. على الطاولة بجانبه صندوق صغير يتسرب منه عبق تراب محروق.
قال بصوت خافت:
«أوريل. قال الساحر: إن نجح الطقس، ترك العائد أثراً.»
[صحيح.]
«زرتُ اليوم موضع مقتل كايلا.»
[مولاي! أنتم ضيف البلاط وتتنقلون بلا إذن؟!]
«لكن هذه المرة… التراب كان دافئاً.»
لو كانت الجثة باقية لظهر الأثر عليها، لكن جسد كايلا أُبيد كلياً، أُحرِق حتى العدم.
«الجمرة ما زالت حيّة تحت الأرض.»
[… هذا يعني أنّ الطقس نجح فعلاً. فحين لا يبقى جسد، يظهر أثر الموت في موضعه.]
مدّ كايدن يده إلى الصندوق. كانت التربة دافئة، بحرارة كف إنسان.
ابتسم ابتسامة باردة وهمس:
«لم يكن لتختفي هكذا…»
تلألأ في عينيه بريق مجنون:
«مَلَكي… ملاكي لم يَزُل.»
بدأت احتفالات التأسيس رسمياً.
ازدانت العاصمة بالأنغام والروائح، تطايرت الرايات والورود في النسيم الدافئ.
وفي القصر، كانت الأجواء صاخبة: مُنح الخدم علاوات، ووُزعت لحومٌ فاخرة ونبيذ نبيل.
قالت كاثرين وهي تنظر إلى إدون وقد ارتدى حُلّة المراسم البيضاء المطرزة بالذهب:
«يا للعجب، كم تبدو رائعاً يا سمو الأمير! حقاً، الثوب جناح لصاحبه، لكنك أنت من يجعل الثوب يطير.»
كان الزي قد يُطفئ ملامح غيره، لكنه أبرز عينيه وشَعره، فبدا كدمية خزفية ناصعة.
احمرّ خجلاً وهو يحك أنفه.
تمتمت كاثرين وهي تلتفت إليّ:
«ألا توافقينني؟ لا أمير يفوق أميرنا وسامةً، أليس كذلك؟»
كنتُ شاردة حتى نادتني. أجبت بفتور:
«…صحيح.»
فنظر إدون إليّ بخيبة.
«مربيتي، أأنت بخير؟»
اقتربت كاثرين وهمست بقلق:
«لا تقولي إن شيئاً حدث تلك الليلة…؟»
«أي ليلة؟»
— «الليلة التي دخلتِ فيها غرفة جلالة ملك آدمنت… بدلاً مني.»
التعليقات لهذا الفصل " 105"