الفصل 34
ساد صمت قصير.
لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة، بل اكتفيت بالتحديق بالرجل الواقف أمامي.
كان قلبي يخفق بعنف حتى بدا لي أنّ العالم من حولي صاخب، رغم أنّ المكان غارق في السكون.
“…لقد مرّ وقت طويل.”
كسر صوته الأجش الغليظ جدار الصمت.
“هك!”
ارتجفت كتفاي وأنا أتنفس باضطراب، بينما كان فمي محكماً بيده.
“هل… تتذكرينني؟”
لم يكن الجواب ضرورياً.
واك-!
فتحت ذراعي بكل ما أوتيت من قوة، وارتميت مباشرة في صدره.
شعرت لوهلة بأن صدر الزعيم قد تيبّس من المفاجأة.
لكن سرعان ما—
“…ها.”
أطبق عينيه بشدّة، وردّ بعناق دافئ، مطبقاً ذراعيه حول جسدي الصغير.
“أتيتُ… أخيراً.”
هي العبارة الوحيدة التي خطرت في ذهني، فتمتمت بها عند أذنه.
“تأخرتُ كثيراً… سامحيني.”
همس الزعيم بصوت خافت، وهو يربت براحته على ظهري برفق، كما اعتاد أن يفعل دائماً.
***
وبعدها شرع الزعيم يجهّزني للرحيل.
تفحّصني بدقة ليتأكد أنني لم أُصب بأذى، ثم لفّني بعناية بالقماش الأسود الذي أحضره، حتى لا يلحظني أحد.
رمقته باندهاش وهو يتحرك بخفة تشبه حركات الفهد.
‘لكن… ثياب الزعيم تشبه هيئة الحارس الذي أخذني من قبل؟’
لا شك أنّه تنكّر في زي أحد الجنود، وحصل على مفتاح، ثم تسلّل إلى الداخل خفية.
ومن المؤكد أنه تكبّد مشقّة عظيمة ليصل إلى هنا متخفيّاً.
‘مع ذلك، الزعيم مذهل حقاً. لمجرد أنني رميت قطعة قماش القدر التي تشاركنها، جاء مسرعاً لينقذني.’
حتى الآن، ما زال الأمر يبدو لي غير واقعي تماماً.
“أووه؟!”
فجأة، بدأ الزعيم يلفّني بالبطانية بإحكام.
أخرج وجهي قليلاً من بين الطيات، فالتقت عيناي بعينيه وهو يهمس:
“سنخرج من هنا الآن. إن خرجنا معاً مكشوفَين فسنُكتشف، لذا سأخفيك على هيئة غطاء. قوسي جسدك قدر المستطاع.”
أومأت برأسي بقوة.
“قد لا نستطيع تفادي أنظار الخدم تماماً. ربما نضطر للجري في منتصف الطريق، وعندها عليك أن تتشبثي بي أكثر.”
أومأت، وأومأت، وأومأت ثانية بجدية شديدة.
ضحك الزعيم بخفة، وربّت على رأسي مرة واحدة.
ثم حملني، وأنا مغطاة بالبطانية، وتوجّه نحو الباب.
وفجأة—
دَرَك!
انزلق باب الغرفة الجانبي مفتوحاً، على غير المتوقع.
تحرك الزعيم بسرعة خاطفة، مائلاً بجسده جانباً ورافعاً سيفه عالياً.
“!”
لكن حين اتضحت الصورة ورأى أنّ الداخل ليس سوى طفل في السابعة، توقّف سيفه في الهواء.
‘باك دوهيول؟!’
رغم ظلمة الليل، لاحظت ارتجاف جسده المتصلّب من شدة الصدمة.
تُرك-!
سقطت الأعشاب الطبية من يده على الأرض.
حينها فقط أدركت أنّه جاء ليتفقد إصابة كاحلي.
“لم ترَ شيئاً. هل فهمت؟”
قال الزعيم ببطء، وهو يحدق مباشرة في باك دوهيول.
ظلّ الصبي متجمداً لثوانٍ، ثم تحولت نظرته إليّ.
كنت غارقة في البطانية، ولم يظهر مني سوى عينين تطرفان بخوف.
ضغط دوهيول شفتيه بإحكام.
“اذهب.”
تنهد الزعيم بفتور، محاولاً تجاوزه.
لكن في تلك اللحظة—
“هل جئت… لإنقاذها؟”
“…….”
شدّ الزعيم قبضته، بينما وقعت عيناه على يد دوهيول الصغيرة الممسكة بأطراف ثوبه بإصرار.
كانت عينا الصبي اللامعتان تشعّان في الظلام.
“هذا صحيح، أليس كذلك؟ وإلا لما بقيت هي صامتة على هذا الحال.”
“اترك.”
“سأساعدكم.”
“……!”
“أعرف تماماً أين يتمركز الخدم. إن تبعتموني وحدي، أضمن لكم الخروج بسلام.”
ضيّق الزعيم عينيه وهو يرمق الصبي.
انعكس في جبينه المكفهرّ قلقٌ وتردد خفيف.
‘ماذا… ما الذي يحدث هنا بحق!’
كنت ملفوفة كالسوشي داخل البطانية، فأحكمت عضّتي على شفتي من التوتر.
‘باك دوهيول… تجرأ فعلاً!’
لم أتوقع منه أن يتحرك بعد كل شيء، فكان وقع ذلك عليّ صادماً.
‘إذن… هل أنا بالفعل غيّرت مسار الرواية؟’
ربما لم يكن كل شيء قد انقلب تمامًا بعد. لكن على الأقل، شعرت باليقين أنّ أفعالي بدأت تحدث تغييرًا في مجرى القصة الأصلية.
لذلك، رفعت رأسي من دون تردد، وحدّقت بثبات في الزعيم، ثم فتحت فمي.
“يجب أن تثق به.”
في تلك اللحظة، اتسعت حدقتا الزعيم اتساعًا طفيفًا.
بدا عليه شيء من الدهشة، حين تبيّن أنني أصبحت قادرة ـ وإن بشكل غير متقن ـ على الكلام.
وسرعان ما ضاقت عيناه قليلًا.
“أتعرفين ابن يونغسان؟”
“أونغ. أنا، أردت أساعده. دائمًا. لقد جُرحت أيضًا، ولكنني تلقيت العلاج أيضًا.”
“…….”
اتجه بصر الزعيم نحو كاحلي البارز قليلًا من تحت اللحاف.
الكاحل الملفوف بالقماش.
والأعشاب الطبية الملقاة على الأرض، التي جلبها باك دوهيول.
“أنه… شخص جيد.”
ارتبك باك دوهيول من كلماتي، وأخذ يزفر أنفاسًا غير منتظمة.
كان يتظاهر بالقوة وهو يقبض على يده بقوة، لكن حواف عينيه كانت قد احمرّت من جديد.
“تقدّم أنت أولًا.”
كان حكم طفل صغير لا غير.
كان يمكن للزعيم أن يتجاهله معتبرًا إياه لا قيمة له.
غير أنه أظهر تصديقًا تامًا لكلامي، فقبِل اقتراح باك دوهيول مباشرة.
أومأ باك دوهيول برأسه، وقد صار تعبير وجهه أكثر صلابة.
“تفضلوا باتّباعي.”
***
ولحسن الحظ، لم يخن باك دوهيول ثقتي به.
فقد تقدمنا وهو يقودنا بدهاء شديد إلى أماكن لا يرتادها أحد تقريبًا.
صحيح أنّ بعض المواقف الخطيرة اعترضتنا في الطريق، لكن في كل مرة كان الزعيم يستشعر الخطر أولًا، فيخفيَنا ويتحرك بحذر شديد.
وأحيانًا أخرى:
“دوريونيم؟ ماذا تفعل في هذه الساعة المتأخرة؟”
“كنت أتمشّى. لا تقلق، فالحرس برفقتي. ادخل وارتَح.”
فقد أنقذنا باك دوهيول ببداهته، متجاوزًا الموقف بسلاسة تامة.
وهكذا تفادينا الأنظار، حتى وصلنا بسلام إلى جدار منخفض.
“يمكنكم الخروج من هنا. إذا انعطفتم يسارًا، وسلكتم مدخل الجبل، فستخرجون دون أن يلحظكم أحد.”
أرشدنا باك دوهيول بهدوء، وعيناه تلتقطان تفاصيل الزعيم وأنا معًا.
ثم قال بجديّة يطغى عليها الحزم:
“أرجو أن تخرجوا سالمين.”
ظلّ الزعيم يحدق فيه صامتًا، ثم أومأ برأسه بهدوء.
“…سأردّ لك هذا الجميل يومًا ما.”
وقبل أن يقفز الزعيم متخطّيًا الجدار، توقف فجأة.
تردّد لحظة، ثم التفت مجددًا نحو باك دوهيول.
“لكن… منذ قليل وأنت تعرج بشدة… هل أنت بخير حقًا؟”
‘باك دوهيول، هل كنت مصابًا؟!’
لشدة انحصاري تحت الأغطية، لم أستطع أن ألاحظ شيئًا من قبل!
“آه، انت مصاب؟ أين….”
أخرجت رأسي بارتباك، وأسررت بصوت منخفض، فابتسم باك دوهيول خفيفًا.
“أنا بخير. هذا لا يُذكر.”
أخفى ساقه إلى الخلف، ثم تابع بنبرة لطيفة فيها شيء من العتاب:
“لا حاجة أن يقلق الأطفال.”
‘حتى في هذا الموقف، يمازحني؟!’
“بيييه.”
تذمّرتُ وأبرمت شفتيّ بغيظ، فالتقت عيناي بعينيه.
“لنأكل الفراولة معًا مرة أخرى.”
“أووونغ.”
“أراك لاحقًا، يا طفلة الفراولة. سأكون بانتظارك.”
كلماته الممزوجة بالمزاح شدّت قلبي حتى كاد يدمع.
أومأت برأسي، فابتسم راضيًا.
أما الزعيم، فقد بدا وكأن الأمر لا يريحه، فالتفت ناظرًا إلى الفتى مرة أخرى، ثم حسم أمره ووضع يده على الجدار.
انثنى قليلًا ليستعد للقفز.
باك-!
“كخ!”
اخترق سهم طائش ظهر الزعيم من حيث لا ندري.
كان الأمر لحظيًا.
بل في اللحظة عينها التي كان يمدّ يديه ليحملني، أصابه السهم، فلم يجد وقتًا ليتفاداه.
حين رأيت دماءه الحمراء تلطّخ ظهره، ارتعش جسدي كله.
“لا… لا….”
“أمسكوه!!!”
غطّت صيحات المطاردين على صوتي المرتجف.
شدّني الزعيم سريعًا إلى صدره، ضامًّا إياي بقوة.
“هذا! لقد تنكّر بزيّ جنود الدايغام!”
“ارموه بالسهام!”
يبدو أنّ باك جو تيك قد وصل ومعه الجنود.
هوووش! هوووش!
تساقطت السهام مدرارًا من كل صوب.
لكن الزعيم، رغم إصابته، لم يبدُ عليه أدنى ارتباك، بل استلّ سيفه يصدّ السهام المتهاوية ببراعة.
واحتواني أكثر بين ذراعيه، ثم قفز خارجًا من فوق الجدار.
وانطلق يعدو بخفة الفهد، سريعًا كأن الريح تحمل خطاه.
التعليقات لهذا الفصل " 34"