طُق  

وضعني برفق شديد على الصخرة، ثم تراجع ببطء إلى الوراء.

“أعتذر، أيها الزعيم.”

ثم ركع على ركبتيه بكل احترام باتجاه الزعيم.  

انحنت فيلسوك، التي كانت تقف بجانبه، على الفور تعبيراً عن احترامها للزعيم.

أخذ الزعيم ينظر إلى غاون، القائد الأول، وفيلسوك، القائدة الثانية، قبل أن يتكلم بعد صمت طويل.

“أنا…”  

أطلق زفيرًا محبوسًا، ثم فتح عينيه اللتين كان قد أغلقهما بإحكام، وأكمل حديثه:  

“أتذكر ذلك اليوم بوضوح. لذا، أنا أتفهم غضبكم. كما أنني أتذكر أوامري السابقة جيدًا. أعلم أن التراجع عن تلك الأوامر قد يكون صعبًا عليكم، ممن تبعوني طوال هذه المدة. لكن مع ذلك، أنا…”  

أدار الزعيم رأسه ونظر إليّ مطولاً.

قبض كفيه بقوة، وكأنه يستحضر ذكريات أيامٍ قديمة.  

“أريد إلغاء الأمر الذي أصدرته سابقاً.”

“…!”  

“أيها الزعيم!”  

حاولت فيلسوك الاعتراض، لكن الزعيم أوقفها بحركة من يده، ثم تابع حديثه:

“في الماضي، تعلمت أنا وأنتم معنى الموت مراتٍ عديدة. وهذا الموت هو ما جعلنا ما نحن عليه اليوم. أتذكر ذلك جيداً، وكذلك أنتم. ولكن بعد لقائي بهذه الطفلة، تذكرت شيئاً واحداً.”

تشوهت ملامح وجه الزعيم. حدق بيّ بعينين مرتعشتين للحظة، ثم أطلق ضحكة ساخرة خافتة.

“ما تعلمناه قبل الموت.”

“وما هو؟”  

أجاب الزعيم بهدوء على سؤال “فيلسوك” المكبوت:  

“أنتم تعرفونها. إنها الأشياء التي تعلمناها منذ ولادتنا. من أمهاتنا، وآبائنا، وأجدادنا، ومربياتنا منذ اللحظة التي تنفسنا فيها.”  

“……”  

“إنها… الحياة.”  

رفع غاون رأسه فجأة عند سماع كلام الزعيم.  

“أن نشعر بالأسف تجاه من يتألم. ألا نخدع أو نؤذي الآخرين. أن نشارك ما نملك مع الجائع. أن نحترم ونشعر بمعاناة الآخرين ونتحمل المسؤولية… وأن نعيش ونساعد ونسعى جاهدين ، حتى لو لم نكن مثاليين.”

“……”  

“و… أن نهتم بطفلة مهجورة على وشك الموت.”

نظر الزعيم إليّ بهدوء. على الرغم من مظهره الخشن، إلا أن روحه كانت مشرقة ونقية.

“هذه هي الحياة الإنسانية التي تعلمناها جميعًا، وهي أبسط مبادئ الأخلاق.”  

“……”  

“لا تدعوا رغبتكم في الانتقام تُنسيكم الحياة التي يجب أن تعيشوها. تذكروا أنكم على قيد الحياة الآن، وأنكم ستظلون كذلك في المستقبل.”

مد الزعيم يده ووضعها على رأسي.  

لذا، أنا لست من ينقذ هذه الطفلة.”

دلّك رأسي بلطف، عيناه لا تزال تحدق في عينيّ.

“بل هي من أنقذتني. هي من أنقذتكم.”

بلمسة حنونة ودافئة.

طق! 

بمجرد أن أنهى الزعيم حديثه، ركع القائد الأول غاون والقائدة الثانية فيلسوك على ركبتيهما.

“نحن آسفون، أيها الزعيم.”

“لم نستطع فهم حكمة زعيمنا العظيم. نحن آسفون.”

نظر الزعيم إليهما سريعاً وهما ينحنيان.

رفعت فيلسوك رأسها، الذي كانت قد ألصقته بالأرض، وتوسلت إليه:

“سأتقبل أي عقاب. لكن أرجوك، امنحني فرصة أخرى. سأعتني بهذه الطفلة جيداً.”

“سأتقبل أي عقاب أنا أيضاً.”

تنهد الزعيم بعمق.

“كفى. أنا أفهم رغبتكم في الانتقام. حتى أنا أشعر بالصراع عندما أنظر إلى هذه الطفلة، لذا لا أستطيع أن أقول إني على حق تماماً. كان يجب أن أشرح لكم كل هذا من قبل.”

عضت فيلسوك على شفتها محاولة كبت دموعها.

نظر إليها الزعيم وقال بهدوء:

“إذا كان الأمر صعبًا عليكِ، فلا بأس أن تتخلي عن مهمة رعاية الطفلة خلال هذه المهمة القادمة.” 

“أ، أيها الزعيم…”

أخفضت فيلسوك رأسها ويدها ترتعشان.

“لا، أرجوك ثق بي. فرصة واحدة فقط. أنت تعرف جيداً مدى إخلاصي. سأعتني بالطفلة أثناء غيابك.”

تردد الزعيم للحظة، ثم أومأ برأسه بهدوء.

“سأثق بكِ.”

راقبتُ الزعيم وأنا أبتلع ريقي.

خطر ببالي أنه قد يكون مختلفاً عما تخيلتُه.

وجهه مخيف ومُهاّب.

 لكنه، على غير المتوقع، زعيم قطّاع طرق يُجيد تربية الأطفال!  

صحيحٌ أن هناك جوانب غير متوقعة فيه، لكنه في النهاية زعيم عصابة تنهب الأبرياء.

بصفته زعيم منظمة إجرامية، اعتقدتُ أنه لا يجب عليّ الاقتراب منه.

كنتُ أعتبره مجرد وسيلة للهروب من هنا…

‘هذا الشعور غريب.’

لأنه شخصٌ… غريبٌ حقاً.

شعرتُ بضيق في صدري مرة أخرى، فتحركت أصابع يدي وقدمي بعصبية.

كان لديّ شعورٌ بأنني سأفتقده نوعاً ما بعد رحيله.

* * *

“ستستغرق الرحلة حوالي عشرة أيام. تأكدوا من عدم حدوث أي مشاكل في الجبل خلال غيابي.”

“حاضر، أيها الزعيم.”

بعد كل تلك الضجة، استعدت عصابة قطاع الطرق للانطلاق إلى القرية لسرقتها، كما فعلوا في أول لقاء لنا.

كان بعضهم يجرّ العربات، بينما ركب آخرون الخيول.

‘أعلم أن هذا ليس الوقت المناسب، لكن المنظر رائع.’

كانوا يرتدون فراء حيوانات مختلفة للتدفئة في فصل الشتاء.

كان الزعيم أيضاً قد غطى الجزء العلوي من جسده بفرو نمر، وكان يحمل سيفاً كبيراً على خصره.

كان منظراً مثيراً للإعجاب، خاصة مع تساقط الثلج الخفيف من السماء.

كنتُ في حضن فيلسوك، أراقب استعدادهم للرحيل.

“بو!” 

بعد أن انتهى الزعيم من استعداده، اقترب مني.

انحنى ونظر في عينيّ، وارتسمت ابتسامة لطيفة على وجهه.

“انتظريني قليلاً. سأعود قريباً. كُل طعامك جيداً، ونَم جيداً، ولا تخرجي للخارج بمفردك، حسناً؟”

“أبو! (حسناً!)”

لا تقلق!

رفعت إبهامي في إشارة إلى الموافقة.  

اتسعت عينا الزعيم بدهشة، ثم ابتسم.

“أنتِ طفلة غريبة حقاً.”

أنتَ من يبدو غريباً بالنسبة لي.

ابتسمتُ له ابتسامة خفيفة، فمدّ يده وربّت على شعري.

أغمضتُ عينيّ ثم فتحتهما، فوجدت الزعيم قد ابتعد عني.

“إلى اللقاء.”

مع هذه الكلمة…

‘إلى اللقاء…’

شعرتُ فجأة بغرابة الكلمة.

لأنها المرة الأولى التي أسمع فيها أحداً يقول لي “إلى اللقاء”.

‘إلى اللقاء.’

كنتُ أردد هذه الكلمة في نفسي. في حياتي السابقة.

كنتُ أتخيل كيف سيكون شعوري لو قلتُ هذه الكلمة لشخصٍ ما.

كيف سيكون شعوري لو انتظرتُ عودة عائلتي إلى المنزل؟ ليس بخوفٍ، بل بانتظارٍ حقيقي.

حركة خفيفة

رفعتُ يدي ببطء.

ثم لوّحتُ بها، كما لو كنتُ أقول له “مع السلامة”.

‘إلى اللقاء.’

همستُ بها في قلبي.

دون ذرة خوف.

تلك الكلمة التي لم أنطق بها قط في حياتي السابقة، على الرغم من كل ما عانيته.

…بعد رحيل الزعيم.

بقيتُ مع فيلسوك وعمي سادونغ!

“يا قائدة! هل أحضر لكِ طعام الطفلة؟”

“ابتعدوا.”

حاول عمي سادونغ ورفاقه الاقتراب مني بعد رحيل الزعيم.

لكن فيلسوك وضعتني في مهّدي داخل خيمتها ببرود، وأمرتهم بالابتعاد.

وهكذا، وجدتُ نفسي وجهاً لوجه معها.

“…”

كانت تحدّق بيّ بصمت، بملامحَ باردة يصعب وصفها.

‘…إنها تتألم.’

أعرف هذه النظرة. في حياتي السابقة، كان أهالي ضحايا أبي ينظرون إليَّ بنفس النظرة.  

‘لا أعرف كيف أتعامل مع هذا.’  

شعرتُ بقلقٍ غريب، فابتلعتُ ريقي وارتجفت أكتافي.

“أنا…”

“…؟”

“ما زلتُ أكرهكِ.”

قالت وهي تحدّق بيّ، كلماتها حادة كالخنجر.