—
كان الصمت يخيّم فوق سطح المدرسة كغيمة ثقيلة.
بينما وقفت ليفينيا أمام روكي داخل الصفّ الفارغ إلا منهما.
ضوء الشمس كان يتسلّل من النافذة الخلفيّة لينعكس على عيني روكي، فتبدو أكثر بريقًا…
وكأنّ قلبه يوشك أن يخرج من بين ضلوعه وهو ينتظر جوابها.
ابتلع ريقه، واقترب خطوة منها.
“ليفينيا… هل توافقين؟”
صوته بدا هادئًا، لكن رجفته فضحته.
وقفت ليفينيا ثابتة، تحبس الهواء في صدرها.
ثم قالت بثقة مصطنعة تخفي تهشّماً داخلياً:
“روكي… في الحقيقة أنا آسفة… لكن… لا يمكنني مواعدتك.”
تساقطت الكلمات كحجارة على صدره.
ارتجف جفناه، واتّسعت عيناه بدهشة موجوعة.
لم يتوقّع هذا… لم يكن يتخيّل حتّى احتمال الرفض.
“و… و… لِماذا؟” سأل بصوت مهزوم، متكسّر.
خلف الحائط، وقف مايكل، نصف جسده مختبئ، ابتسامة خفيفة تستقرّ على شفتيه.
كان يسمع كل شيء… ولسبب ما كان يشعر بالارتياح.
رفعت ليفينيا حقيبتها محاولة الهرب من الموقف:
“لا يمكنني إخبارك بالسبب… آسفة فقط.”
اندفع روكي نحوها خطوة، عينيه حزينتان بشكل يكسر القلب:
“هل… هل أنا لا أعجبك؟ أم… أم لا تحبّيني؟ أم… هل هناك أحدٌ آخر؟”
تجمّدت ليفينيا.
لم تكن تملك إجابة. ولم يكن مسموحًا لها أن تملك واحدة.
رفعت نظرها إليه وهمست: “آسفة…” ثم استدارت.
غادرت الصفّ، وصوت خطواتها يتردّد في الرواق الفارغ.
كان المكان هادئًا لدرجة أن أنفاسها نفسها أصبحت صدى.
وبينما كانت تبعد عنه، كان مايكل يسير بارتياح نحو ملعب كرة السلة.
ابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه، وكأنه انتصر في معركة لم يُعلن عنها أحد.
—
كانت الشمس تميل نحو الغروب عندما اقتربت ليفينيا من بوابة المدرسة.
همّت بالخروج، لكن شيئًا أوقفها.
فتاة.
فتاة واقفة عند البوابة، شعرها الأصفر المموّج ينسدل على كتفيها بضوء يشبه الذهب السائل.
ملامحها رائعة الجمال، كأنها خرجت من لوحة رسّامٍ مُتقن، عيناها خضراوان واسعتان،
تحملان شيئًا… مألوفًا.
ارتجفت ليفينيا. أعرفها…؟ من أين؟
التقت أعينهما للحظة، فغمر جسد ليفينيا برد غريب.
حدّقت الفتاة بها، ثم ابتسمت بخفة… ابتسامة باردة تخفي شيئًا ما.
خطت نحوها… خطوة… ثم أخرى…
لكنها لم تتوقف عندها.
تجاوزتها.
واتّجهت مباشرة نحو روكي.
وفي لحظة واحدة… ارتمت في حضنه.
تجمّد الزمن حول ليفينيا.
الهواء، الأصوات، الناس… كل شيء ذاب في الخلفية.
استدارت ببطء، عيناها تتسعان، جسدها يرتجف.
الفتاة تضمّ روكي…
و روكي يبدو مصدومًا تمامًا، يبتعد عنها وهو يقول مذعورًا:
“ليفينيا!! الأمر ليس كما تظنين!”
التفتت الفتاة الشقراء نحو ليفينيا وهي لا تزال ممسكة بروكي.
وقالت بصوت مصطنع البراءة:
“حبيبي… لمَ تبدو مصدوماً؟ وكأنها أول مرة أعانقك.”
كانت تنطق كلماتها بوضوح شديد… موجّهة مباشرة إلى ليفينيا.
تراجعت ليفينيا خطوة. ثم أخرى. ثم أدارت ظهرها.
روكي حاول اللحاق بها:
“ليفينيا!! انتظري!!”
لكن الفتاة الشقراء أمسكت بيده بقوة.
“لمَ تتصرّف هكذا؟”
انتزع روكي يده بعنف، ثم أمسكها من قميصها وسحبها نحوه، ملامحه غاضبة.
“لما أتيتِ إلى هنا؟!”
ابتسمت بغموض:
“أتيت لأراك.”
صرخ فيها:
“عودي إلى درجك! اذهبي!” ودفعها بعنف بعيدًا عنه.
صرخت الفتاة:
“لماذا تفعل بي هذا؟! أنت تعلم أني أحبك!”
ضحك روكي بخفّة مريرة، واضعًا يده على رأسه:
“حب؟ أنت تحبينني؟ توقّفي عن السخافة… أنا ذاهب.”
وقفَت في مكانها وهي تراه يغادر.
عيناها تمتّدان بخيط غضب، كأنها تتوهج داخليًا.
تمتمت بصوت مرتجف:
“أنت لي… ولن تكون لغيري.”
—
في الطريق، كانت ليفينيا تغلي غضبًا.
تشتم، تتمتم، تلوّح بيديها في الهواء كالمجنونة.
“طبعاً!! هِيَ!! اللعينة نفسها!! الشخص الذي سيخونني معه في المستقبل!! ياااه لم أتوقع أن يعرفها من الآن!!”
“يا لهما من أحمقين!! جيّد أني رفضته… رغم أني…”
توقّفت فجأة، عضت شفتها:
“رغم أني كنت… أشعر بشيء نحوه.”
ركلت الهواء، ثم الارض… ثم الصراخ انفجر منها.
الناس في الطريق بدأوا يلتفتون نحوها باستغراب.
امرأة همست لابنتها:
“انظري لهذه الفتاة… ما بها؟”
ابنتها بصوت خافت:
“تبدو كمن فقد عقله، أمي…”
وليفينيا لا تزال تهذي.
—
عندما وصلت البيت، كان الهدوء يعمّه.
رمت حقيبتها جانبًا ووجدت ورقة على الطاولة. رسالة قصيرة من أمّها:
ذهبتُ لزيارة خالتك ليومين.
“وماذا عني؟!” صرخت وهي تمزّق الورقة،
“سحقًا… أكره البقاء وحدي!”
صعدت إلى غرفتها وهي تتذمّر… لكن شيئًا جعلها تتوقف.
هناك… ضوء قوي يتسرّب من أسفل باب غرفتها.
يدها ارتجفت وهي تفتح الباب ببطء.
وشعرت كأن الهواء داخل الغرفة ليس هواءً عاديًا… بل نبض.
الضوء مصدره… الألبوم.
الألبوم يطفو في الهواء، يرتفع نحو السقف، هالة بيضاء حوله، تتراقص كشرارات.
اتّسعت عيناها.
“ما… هذا…؟”
وفجأة—
سقط الألبوم على الأرض بصوت مكتوم.
اقتربت بخطوات ثقيلة، انحنت، فتحته…
وصُدمت.
كل شيء… كل شيء في المستقبل تغيّر.
لم تعد هناك صور تدلّ على علاقة بينها وبين روكي.
لا قبلات، لا غزل، لا ارتباط…
مجرد علاقة سطحية.
في بعض الصور… ظهرت مع الفتاة الشقراء نفسها.
ترتدي زي مدرستهم.
“ماذا؟ ستنضم لمدرستنا؟! مستحيل… هذا لم يحدث!!”
بدأ قلبها ينبض بعنف.
قلبت الصفحات حتى وصلت إلى النهاية.
ثم…
توقّفت يدها.
ظهرَت صورة… لنفسها.
ميتة.
منتحرة.
شهقت… ارتعشت أصابعها…
السبب: سوء معاملة زوجها… روكي.
ارتجفت شفتاها.
أغلقت الألبوم بقوة، الدموع تتجمع في عينيها.
سقطت على الأرض وهي تهمس:
“لِماذا؟… لماذا لا أستطيع أن أكون سعيدة في مستقبلي؟ لماذا…؟”
—
حل الليل.
وكانت ليفينيا تحاول إعداد العشاء.
ولأن مهارتها في الطبخ كارثية… اشتعلت النار في المقلاة.
صرخت، سحبت المقلاة، انزلقت، ثم عمّت الفوضى المطبخ بأكمله.
وبينما كانت تنظّف الفوضى، سمعت طرقًا على الباب.
فتحت…
فوجدت مايكل واقفًا، يحمل صحنًا كبيرًا بين يديه.
نظر إليها… ثم إلى عينيها المنتفختين.
“ما أمرك؟” قال بنبرة قلقة، ثم أضاف وهو يشمّ رائحة الدخان،
“وهذه الرائحة… هههه… حرقتِ المطبخ؟”
مسحت دموعها سريعًا:
“أجل… أنت تعلم أني سيئة في الطبخ.”
دخل مايكل، وضع الصحن على الطاولة، ثم نظر إلى المطبخ الفوضوي بأسى.
جلس على الكرسي ونظر إليها نظرة هادئة، دافئة، وكأنه يفهم أكثر مما يقوله.
“أحضرتُ لكِ بعض الطعام… لتأكليه.”
—
التعليقات لهذا الفصل " 20"