—
كانت أضواء المطعم الدافئة تتلألأ فوق الطاولات الخشبية.
فيما ارتفعت أصوات الضحك والثرثرة من زاوية احتلها فريق ميكل الرياضي.
رائحة البيتزا والمعكرونة اختلطت بدخان الشواء، والهواء كان مشبعاً بالمرح والفوضى.
المدرب جلس بجانب ميكل، يحاول جاهداً ضبط الحماس الجامح للفتيان، لكنهم لم يكفوا عن المزاح الصاخب ودق الطاولات بالأكواب.
وسط هذا الضجيج، جلست كلوي، مديرة النادي، وهي الفتاة الوحيدة بين صفوفهم.
شعرها البني ينسدل على كتفيها، وملامحها الرقيقة تخفي شيئاً من الجرأة في عينيها.
نظراتها كانت تلتقط ميكل خلسة، وكأنها تحاول أن تحفظ كل تفصيلة من حركاته:
طريقته في التهام الطعام، انحناءة كتفيه حين يضحك، وحتى تلك الشرارة العابثة في صوته حين يتحدث.
أما ميكل، فلم يكن يلاحظها قط.
كان غارقاً بين النكات والضحكات، يشاكس زملاءه بينما يمسح يده على فمه بلامبالاة.
بعيداً عن هذا المشهد، في مكان آخر تماماً.
جلست لفينيا وحدها في غرفتها.
محاطة بصمت ثقيل لا يقطعه سوى صوت أوراق ألبوم الصور وهي تقلّبها بيد مرتجفة.
قلبها خفق بقوة حين رأت صورة لم تكن هناك من قبل: ميكل، وهو يمسك بيد فتاة.
اتسعت عيناها وهي تقترب أكثر من الصورة، تتمعن في ملامح الفتاة.
لم تستغرق وقتاً طويلاً لتتذكر. همست بارتباك:
– “أعرفها… إنها كلوي… مديرة نادي ميكل.”
جسدها اقشعر، ليس لأن ميكل بجانب فتاة، بل لأن الصورة حملت معنى أعمق: هو لا يحب أن يمسك يد فتاة بتلك الطريقة أبدًا.
الكلمات خرجت منها بلا وعي:
– “هذا يعني… أنه… سيواعدها؟!”
ولاكن علاقتها مع ميكل مزال كما هي في الصور:
“الم اذهب الى المباراة اليوم، و حتى انني قمت بتغيير النتيجة. فلما علاقتي مع ميكل سوف تمحى!؟”
قبل أن تغرق أكثر في تساؤلاتها، قطع رنين الهاتف سيل أفكارها.
نظرت للشاشة، فوجدت الاسم الذي ارتجف له قلبها: ميكل.
فتحت الخط بصوت مرتعش:
– “أ… ماذا هناك؟”
– “لفينيا… هل يمكنك الخروج الآن؟” صوته كان متوترًا، يكاد يتوسل.
– “الآن؟! إنه الليل!”
– “أرجوك… بسرعة.”
صمتت لحظة، تشعر بالتردد، لكن قلبها انتصر على عقلها.
ارتدت معطفها على عجل، ونزلت الدرج بخطوات متسارعة.
عند باب البيت، كان ميكل واقفاً، وابتسامة واسعة تملأ وجهه رغم البرد القارس.
ما إن رآها حتى تقدم نحوها وعانقها بقوة مفاجئة جعلتها تختنق.
صرخت وهي تضرب ظهره:
– “عظامي! أيها الغبي! ستكسرني!”
لكنه لم يتحرك، ظل ممسكاً بها كما لو كان خائفاً أن تفلت منه.
بعد دقائق أخيراً تركها، فتراجعت لاهثة، شعرها مبعثر ووجنتاها متوردة.
– “هل جننت؟! لا أستطيع التنفس بسبك!”
ضحك بخفة، ثم تلاشت ابتسامته فجأة ليقول بجدية:
– “أنا حقاً… أشكرك لقدومك للمباراة.”
رفعت حاجبها ساخرة:
– “وإن لم أحضر؟ ماذا كنت ستفعل؟”
– “كنت سأقطع كل خيط يربطني بك… نهائياً.”
حدقت به مصدومة:
– “ماذا؟! إنها مجرد مباراة!”
رد بنبرة صلبة لم تعهدها فيه:
– “أجل، لكنها كانت تعني لي الكثير… ظننت أنك ستتخلين عني من أجل ذلك الشخص.”
دمها غلى في عروقها، لكن الكلمات علقت في حلقها. كانت على وشك أن تقول بحدة: “لا علاقة لك بحياتي! مع من اكون، او اين اذهب، انت مجرد صديق لا اكثر. “
لكنها توقفت فجأة.
تذكرت فجأة الصور، التي كانت على الالبوم.
و ادركت ان سبب خسارتها لميكل، لم يكن المباراة بل هذا الكلام الذي كانت على وشك قوله.
لتتوقف و تقول له بجدية :
– “أنت تعلم… أنك مهم لي.و لا أريد خسارتك أبداً.”
تسمرت عيناه عليها، شعر بشيء غريب يتسلل إلى قلبه. ليضحك بخفة وهو يرد:
– “وأنا أيضاً… لا أريد خسارتك.”
حين عادت إلى غرفتها، كان الألبوم بانتظارها.
فتحت صفحاته بلهفة، لتجد أن الصور تغيّرت مرة أخرى:
علاقتها مع ميكل لم تعد مظلمة كما كانت، بل صارت أكثر إشراقاً.
قفزت على سريرها، تضحك كطفلة، قلبها يخفق بسعادة غامرة.
—
في اليوم التالي.
وقفت لفينيا أمام باب الفصل، تراقب الطلاب في الداخل.
لكن عينيها كانت تبحث عن شخص واحد:
روكي.
اعترافه في الليلة السابقة ظل يثقل قلبها، يلاحقها أينما ذهبت.
فجأة جاءها صوت من خلفها:
– “لماذا تتجسسين هكذا؟”
ارتجفت، ثم همست بارتباك:
– “ششش… هناك أمر مهم.”
– “أمر مهم؟” قال الصوت باقتراب.
استدارت بخفة، لتجد وجه روكي قريباً جداً من وجهها، حتى أن شفتيهما كانتا على وشك أن تلتقيا.
شهقت وهي تتراجع للخلف بقوة، لتقع على الأرض.
– “آه! مؤلم!” صرخت وهي تمسك بمؤخرتها.
اقترب روكي، عيناه جادتان، ومد يده إليها:
– “هل أنت بخير؟”
ترددت لحظة، ثم أمسكت يده.
الحرارة تسللت إلى أصابعها، والاحمرار غزا وجهها.
أما هو، فبدا عادياً تماماً، كأن اعترافه البارحة لم يكن موجوداً.
رن الجرس، فانتفضت لفينيا بسرعة، وهرعت للخارج قبل أن يقول شيئاً.
روكي بقي واقفاً، ينظر إليها بحيرة.
وفي الزاوية الأخرى من الساحة، كان ميكل يراقب بصمت.
عينيه تضيقان وهو يتابع تصرفاتها. أدرك أن شيئاً غريباً يحدث بينها وبين روكي.
—
خلف الملعب، جلست لفينيا على العشب، مستلقية وذراعاها خلف رأسها، تحدق في السماء.
– “سحقاً… ماذا علي أن أفعل؟ أشعر بالغرابة.”
ظلّت على هذه الحال حتى ظهر وجه مألوف يطل عليها من فوق:
فريد.
بابتسامته المتكبرة وصوته المليء بالغرور.
– “هل جننتِ؟ تبدين ككلب يتأرجح في التراب.”
نهضت فجأة، وصرخت:
– “ماذا! كلب؟! سحقاً لك، أنت الكلب هنا!”
وقف أمامها ببرود، والشمس خلفه تضيء ملامحه الحادة:
– “هل أبدو قبيحاً مثلك؟ بالمناسبة، لماذا تركضين هكذا وكأنك عجوز سرقوا ممتلكاتها؟”
– “لا علاقة لك!” ردت بحدة.
استدار ليمشي، لكنها أمسكت قدمه:
– “انتظر! أريد أن أسألك شيئاً.”
جلسا معاً على العشب الرطب.
نظرت إليه بجدية:
– “هل التغيير في المستقبل يقتصر علي وحدي؟ أم يشمل كل من حولي أيضاً؟”
أجاب ببرود:
– “ربما يشمل الجميع… وربما بعواقب وخيمة لم تحسبي لها حساباً.”
اتسعت عيناها:
– “ولماذا لم تخبرني؟!”
– “ألم أقل لك أعيدي الألبوم؟ لكنك عنيدة.”
ابتسمت بخبث:
– “ههه… ربما. لكن هناك شيء غريب… كل التغييرات التي أجريها تقودني لنفس الطريق.”
– “أجل، جميع الطرق تؤدي إلى واحد.”
نهضت بحماس، تنفض الغبار عن تنورتها:
– “إذن… سأصنع طريقي بنفسي!”
ظل يتأملها وهي تبتعد، ثم تمتم بصوت خافت:
– “آمل أن تنجحي…”
—
في نهاية اليوم الدراسي.
كان الفصل شبه فارغ.
جلست لفينيا على مقعدها، تقلب دفاترها، بينما الطلاب يغادرون واحداً تلو الآخر.
ميكل وقف عند الباب، نظر إليها قائلاً:
– “الن تذهبي؟”
ابتسمت بخفة:
– “اذهب أنت… سألحق بك.”
نظر حوله، ثم لمح روكي يتقدم نحوها بخطوات ثابتة، فعقد حاجبيه، لكنّه انسحب بصمت.
اقترب روكي منها، صوته صارماً:
– “هل ستستمرين في تجنبي؟ لماذا تفعلين هذا؟”
رفعت رأسها ببطء، ثم وقفت أمامه بثقة، عيناها تلمعان بالصدق:
– “آسفة… لم أكن أتجاهلك، بل كنت خجولة من اعترافك أمس. لكن الآن… سأمنحك إجابتي.”
في الخارج، عند الباب نصف المفتوح، كان ميكل يستمع لكل كلمة.
قبضته ترتجف وهو يضغط بيده بقوة، وصدره يعلو ويهبط بغضب مكتوم.
—
التعليقات لهذا الفصل " 19"