—
السماء كانت قد انفتحت بسخاء في الساحة الخلفية للمدرسة، المطر يتساقط بغزارة على الأرضية الإسمنتية.
قطراته تتناثر على وجوههم، ليلمع شعر لفينيا الأسود تحت الضوء الرمادي، بينما عيناها متسعتان من الدهشة.
ــ “مـمـماذا؟!”
كانت كلماتها متقطعة، مخنوقة، حين سمعت اعتراف روكي.
اقترب منها أكثر، وجهه على بعد أنفاس قليلة من وجهها، عينيه تتلألآن بجدية ودفء في آن:
ــ “كما سمعتِ يا لفينيا… أريد أن أواعدك.”
ارتبكت، رفعت حاجبيها بحدة، وصوتها يخرج متلعثماً:
ــ “و… ولماذا؟!”
ابتسم بخجل، تلك الابتسامة التي بدت غريبة على وجهه الجاد عادة، وقال بصوت منخفض:
ــ “لأنني… معجب بك حقاً.”
ارتفعت حرارة وجنتيها كالجمر، قلبها ينبض بقوة حتى شعرت أنه سيخترق صدرها.
حاولت أن تنظر بعيداً، لكن عينيه كانتا مغناطيساً يجرّها للعودة.
ــ “مـ… معجب بي؟ منذ متى؟”
أخفض رأسه قليلاً، ثم قال بابتسامة مترددة:
ــ “منذ مدة طويلة. لم أجرؤ على قولها… لكنني لم أعد أحتمل. أريدك أن تكوني حبيبتي.”
كلماته سقطت عليها كصاعقة، جعلت لسانها يثقل بالكلمات.
بداخلها كانت فوضى عارمة:
لماذا الآن؟ لماذا يختار هذه اللحظة؟ لماذا لا أستطيع رفضه؟ هل أنا… هل أنا معجبة به أيضاً؟
نهضت بسرعة من جلستها، المطر ينساب على وجهها، تخفيه قطرات الماء لكن قلبها يفضح ارتباكها.
نظرت إلى روكي، الذي ما يزال جالساً على الأرض ينتظر جوابها، ثم قالت بصوت متردد:
ــ “سأخبرك لاحقاً… بأجابتي.”
استدارت فجأة وركضت مبتعدة، يداها على وجهها لتخفي احمرارها، والدموع تختلط بمياه المطر.
توقفت بعد مسافة قصيرة، وضعت يدها على صدرها، تتنفس بصعوبة:
ــ “هـ… ه… اللعنة… قلبي سينفجر! لكن… لماذا أشعر بالسعادة؟ لماذا؟!”
أما روكي، فبقي في مكانه مشدوهاً، عيناه تتبعان خطواتها حتى اختفت.
التفت على يساره، ليرى كيس النفايات الذي تركته خلفها.
زفر بخفة وقال لنفسه:
ــ “حتى في لحظة كهذه… تركت كل شيء ورحلت. هل يجدر بي رمي هذا بدلاً عنها؟”
—
الشوط الثاني
في الملعب، كان التوتر يخنق اللاعبين.
فريق ميكل بدأ الشوط الثاني مرتبكاً، الأداء هابط، التمريرات متعثرة، والخصم يزداد قوة.
في لحظة حاسمة، مرّر له صديقه الكرة، لكن تركيز ميكل كان في مكان آخر، فانزلقت من يديه ليسجل الفريق الخصم هدفاً إضافياً.
ــ “آه لا!” صرخ أحد المشجعين.
ــ “ما بال ميكل اليوم؟!” همست أخرى من الفتيات.
المدرجات غصّت بالطلاب، الهتافات تراجعت لتحل محلها همهمات القلق.
في الخارج، كانت لفينيا تركض بأقصى ما لديها، ملابسها مبللة، شعرها ملتصق بوجهها.
وصلت أخيراً إلى الملعب، وقفت عند المدخل لاهثة، عيناها تبحثان عن ميكل.
لكن حين رفعت رأسها إلى لوحة النتائج، شهقت:
ــ “خاسرون… بفارق سبع نقاط؟!”
جالت بنظرها إلى الملعب، فرأت ميكل، الذي بدا أداؤه باهتاً على غير العادة.
“ربما لم يفت الوقت بعد..”
قبضت يديها بإحكام، الغضب يمتزج بالقلق.
ــ “ما به؟! إنه ليس مستواه الحقيقي…”
اندفعت بخطوات سريعة نحو القاطع الحديدي، وسط دهشة الطلاب الذين لم يتوقعوا ظهورها.
أمسكت القضبان بيديها، ثم صرخت بأعلى صوتها، صوت اخترق صخب المباراة:
ــ “ميكل أيها الغبي! أبذل جهدك! أرهم مستواك الحقيقي! وإن خسرت… سأضربك!”
الجمهور كله التفت نحوها بدهشة. همهمات، تعليقات، أصوات متقاطعة:
ــ “إنها لفينيا!”
ــ “ما بها؟ تصرخ على ميكل؟!”
ــ “يا ترى… ما العلاقة بينهما؟”
أما ميكل، فتوقف لحظة، نظر نحوها بصدمة، ثم ابتسم ابتسامة لم يسبق أن رأتها منه من قبل…
ابتسامة عميقة، مليئة بالامتنان والحب.
عندها تغير كل شيء.
—
بدأ ميكل يلعب بجدية، عاد إلى مهاراته القديمة، ينساب بين اللاعبين بخفة، يقطع الكرات ويسجل أهدافاً مذهلة.
ارتفعت أصوات الجمهور مجدداً، الحماس عاد يشتعل في القلوب.
ــ “إنه يعود!”
ــ “هذا هو ميكل الذي نعرفه!”
سجل هدفاً رائعاً، تلاه زميله بآخر.
لم يتبقَ على المباراة سوى خمس دقائق، والنتيجة ما تزال بفارق نقطتين للخصم. لكن عزيمة ميكل لم تنكسر.
حتى الثواني الأخيرة، استمر في القتال، يقود فريقه كقائد حقيقي.
وفي اللحظة الحاسمة، اخترق الدفاع، قفز، ورمى الكرة بثقة. سكنت الشباك.
الصفارة النهائية دوّت، الملعب انفجر بالهتاف:
ــ “لقد فازوا! تأهلوا للمرحلة القادمة!”
احتضن زملاؤه ميكل بحرارة، يهتفون باسمه، والجمهور يصيح باسمه:
ــ “ميكل! ميكل! أنت البطل!”
في المدرجات، وقفت لفينيا مذهولة، جسدها يرتجف.
همست بصوت مسموع بالكاد:
ــ “كـ… كـ… كيف؟! البارحة، الصور كانت واضحة… فريقه خاسر. هل… هل غيرت النتيجة فعلاً؟ هذا مريب جداً…”
—
بعد انتهاء المباراة، امتلأت قاعة الفريق بالفرح. المدرب أثنى عليهم بحرارة:
ــ “لقد كنتم رائعين! تستحقون الفوز! والآن… العشاء عليّ، في المطعم!”
ضجّ الفريق بالتصفيق والهتاف، الجميع سعداء.
اقترب ميكل من المدرب وقال:
ــ “سأعود إلى المنزل.”
ابتسم المدرب وربت على كتفه:
ــ “لا يا فتى، أنت نجم الليلة! ستأتي معنا. بدونك، لا معنى للاحتفال.”
أراد أن يعترض، لكن إصرار المدرب وزملائه حاصر إرادته.
جلس بينهم، جسده موجود، لكن قلبه في مكان آخر… عندها.
—
في الخارج، كانت لفينيا تسير مسرعة عائدة إلى منزلها.
المطر توقف، لكن الأرض ما تزال غارقة بالوحل. لم تنتبه إلى بركة كبيرة، فزلّت قدمها وسقطت بكل ثقلها.
ــ “آه!”
تلطخت ملابسها بالطين، يداها مرتجفتان، لكنها لم تتوقف.
نهضت وأكملت طريقها مسرعة، أنفاسها متقطعة، حتى وصلت إلى بيتها.
حين فتحت الباب، صرخت أمها بفزع وهي تراها مغطاة بالوحل:
ــ “ما هذا؟! ملابسك! ماذا جرى لك؟!”
رفعت لفينيا ابتسامة باهتة وقالت:
ــ “لقد… تعثرت فقط.”
اقتربت منها أمها بقلق:
ــ “هل كل شيء على ما يرام؟”
أومأت لفينيا برأسها، ابتسامتها مصطنعة:
ــ “أجل… أنا بخير أمي. سأذهب للاستحمام فوراً.”
صعدت بسرعة إلى غرفتها، دخلت الحمام، والماء الساخن ينساب فوق جسدها المرتجف.
حاولت أن تغسل الطين، لكن عقلها كان مشوشاً: اعتراف روكي، فوز ميكل، الصور التي تغيّرت… ماذا يحدث؟
بعد دقائق، خرجت بملابس نظيفة، جلست على سريرها، ويدها تمتد إلى الألبوم.
وضعته على حجرها، قلبها يخفق بقوة.
ــ “حسناً… لنرَ الآن. ماذا تغيّر؟”
فتحت الصفحات ببطء، يداها ترتجفان، وعيناها تتسعان مع كل صورة تكشفها.
—
التعليقات لهذا الفصل " 18"