—
كانت الغرفة تغرق في صمت عميق، سوى همسات تقليب الصفحات بين يدي لفينيا.
مستلقية على سريرها، تفتح الألبوم الذي صار أكثر من مجرد صور؛ صار لعنة معلّقة فوق رأسها.
عيناها تتسعان شيئًا فشيئًا وهي تلمح صورًا لم تحدث بعد.
صورها في ساحة المدرسة الخلفية، المطر يهطل غزيرًا، ويدها متشابكة مع يد روكي، ابتسامة سعيدة ترتسم على وجهها…
لم يكن هذا واردًا في حساباتها.
قلبت الصفحة التالية بارتباك، فإذا بها تصل إلى صورة أخرى:
الملعب، والطلاب يغادرون مدرجاته بخيبة أمل.
لوحة النتيجة المعلّقة تعلن خسارة فريق مدرستها.
عينا ميكل يملؤهما الانكسار، وهو يقف بعيدًا، متجنّبًا النظر إليها.
صرخت وهي تنتفض من على سريرها:
ـ “مستحيل! ماذا… ماذا يعني هذا؟!”
راحت تقلب الصفحات بجنون، تبحث عن أي بارقة أمل.
لكن كل صورة لاحقة كانت تؤكد شيئًا واحدًا:
علاقتها بميكل تسير نحو هاوية مظلمة، بينما صورها مع روكي تزداد.
وفي الصفحات الأخيرة، النهاية ما زالت كما هي… ثابتة، كقدر محتوم.
دفعت الألبوم بعيدًا وصفقت كفيها فوق الوسادة وهي تصرخ:
ـ “سحقًا! سحقًا على هذا المستقبل الملعون! لا أصدق!”
لكنها ما لبثت أن تجلس مستقيمة، تضع يديها على وجهها ثم تقول بصوت متحشرج، فيه نبرة تحدٍ:
ـ “ربما… ربما هذه فرصتي. ربما أستطيع تغيير مصيري هذه المرّة.”
—
مع بزوغ فجر الثلاثاء،
نهضت لفينيا باكرًا. وقفت أمام المرآة، تحدّق في انعكاسها وعينيها تلمعان بحماسة.
تمسّكت بمظلّتها السوداء، كمن يستعد لمعركة حاسمة.
دخلت أمها الغرفة على حين غرة، ورمقتها باستغراب:
ـ “مظلة؟! الطقس مشمس يا ابنتي، النشرة الجوية قالت لا أمطار اليوم.”
حركت لفينيا المظلة للوراء، و هي تقول بكل ثقة:
ـ “ستُمطر… في المساء ستمطر.”
ضحكت الأم بخفة:
ـ “أصبحتِ تهذين، لَفيني. كفي عن هذا.”
لكن لفينيا لم ترد.
كانت تعرف أن الصور لا تكذب، لكنها كانت تعقد العزم على قلب مسارها.
خرجت من البيت بخطوات متوثبة.
حين وصلت أمام منزل ميكل، تذكرت أنه لن يكون هنا اليوم؛ لديه مباراة في المساء.
ابتسمت رغم ذلك، ثم مضت نحو المدرسة وهي تقفز بين الحين والآخر كطفلة مفعمة بالطاقة، وشعرها يتمايل بحرية.
الطلاب كانوا يرمقونها بدهشة:
“ما الذي أصابها؟”
لكنها لم تكترث، كان بداخلها نداء لا يقبل التوقف:
“سوف أغير المستقبل… سوف أنجح!”
—
في الفصل،
وبينما الأستاذ يشرح الدرس بملل، كانت لفينيا ترسم خطة على دفترها بخطوط متعرجة:
ـ “كل ما علي فعله… أن أتجنب روكي اليوم. لا للساحة الخلفية. لا لأي صدفة.”
في مكان آخر، داخل غرفة تبديل الملابس، كان فريق ميكل يستعد للمباراة.
الحماس يملأ الأجواء، والعرق يلمع على جباه اللاعبين وهم يشدّون أربطتهم.
ميكل، بقلبه، لم يكن يفكر سوى بشيء واحد:
“ستكون في المدرج… ستراني.”
دخل المدرب، صوته جهوري:
ـ “اليوم يا شباب، نريد الفوز! نريد أن نثبت أن مدرستنا لا تُهزم!”
صرخوا جميعًا بحماسة:
“نعم، سنفوز!”
—
حين امتلأت المدرجات.
كانت أصوات الفتيات تصدح، واللافتات تلوح في الهواء.
ميكل خرج إلى الملعب، تبادل التحية مع الخصوم، لكنه ما لبث أن رفع عينيه للمدرج.
قلبه بحث عن وجه واحد فقط… لفينيا. لكنه لم يجدها.
شعر بوخزة خيبة أمل تغرز في صدره، وتذكر وعودها: “بالطبع سأكون هناك.”
—
أما هي… فقد كان المطر يقرع النوافذ وهي واقفة في قاعة الأساتذة.
أمامها أستاذ العلوم يصرخ بعنف:
ـ “أأنتِ تُصغين إليّ، لفينيا؟!”
ـ “أجل… أجل، أستاذ.” قالت وهي تسرح بنظراتها نحو المطر.
انفجر غضبه أكثر:
ـ “كفى استهتارًا! أنت معاقبة. ستذهبين الآن لتُنظفي القسم!”
ـ “مستحيل! المباراة…”
ـ “هراء! نفّذي ما أقول!”
دخل فريد، حاملاً دفاتر، فرأى المشهد.
ليقول أستاذ العلوم ابتسم بفخر وأشار إليه:
ـ “انظري! هذا هو الطالب المثالي:
ذكي، مهذب. تعلّمي منه!”
رفعت لفينيا حاجبيها بتهكّم وهمست:
“هاااا… مهذب؟!”
فضحك فريد بخفة، محاولًا إخفاء ضحكته، بينما الأستاذ يوبّخها أكثر.
غادرت لفينيا القاعة وهي تغلي غيظًا:
ـ “سحقًا لهذا الأستاذ… سحقًا! المباراة بدأت!”
ركضت نحو القسم، نظفته بسرعة، ثم أمسكت بسلة المهملات الممتلئة.
ركضت بها إلى الخارج… توقفت عند الساحة الخلفية. أصابها تجمّد:
“لا! ليس هنا… لا أريد الاقتراب من هذه البقعة.”
لكن الأقدار كانت أسرع منها.
بينما تتردد، سمعت صوتًا مألوفًا يأتي من الظل.
كان روكي، يتحدث عبر الهاتف:
ـ “آسف… لكن لا أريد أن نعود لبعض. لقد انتهى الأمر.”
أغلق المكالمة وتنهد، يسند ظهره إلى الحائط. عيناه التقطتا ظلها على الأرض.
ـ “رأيتك.” قال بهدوء.
تصلبت مكانها بينما كانت تستدير للهروب، ثم استدارت بتوتر:
ـ “أ… روكي! مرحبًا. أعتقد أنه عليّ الذهاب الآن.”
ابتسم ابتسامة جانبية:
ـ “هل تبقين معي قليلًا؟ لدي أمر مهم اريد ان اخبرك به.”
ارتجفت أصابعها على كيس المهملات. قلبها يقاوم، لكن لسانها خانها:
ـ “أ… حسنًا… قليلًا فقط.”
جلسا بجانب الحائط، تحت زخات المطر.
تماماً كصورة.
قطرات الماء تنساب على وجنتيها، بينما قلبها يصرخ:
“عليّ الذهاب… ميكل ينتظرني.”
—
في الملعب،
كانت النتيجة كارثية. فريق ميكل متأخر بخمس نقاط، والطلاب في المدرج مذهولون من اداء فريقهم .
صافرة الحكم أعلنت نهاية الشوط الأول.
جلس ميكل على المقعد، يغطي وجهه بمنشفة.
همس لنفسه، صوته مليء بالخذلان:
ـ “لقد وعدتِ… قلتِ ستكونين هنا. لمَ لم تأتي؟! هل ذهبتِ إليه؟ هل هو أفضل مني؟!”
كانت الهزيمة أقسى من أي شيء، لكن غيابها كان أقسى من الهزيمة نفسها.
—
في الساحة الخلفية،
رفعت لفينيا رأسها لتنظر إلى روكي.
بدا شاحبًا، متعبًا، وصوته مكسور وهو يهمس:
ـ “لفينيا… لست بخير. هل… هل يمكنكِ أن تواعديني؟”
تجمد الدم في عروقها.
ارتسمت على وجهها علامات الصدمة والحيرة، بينما صوت المطر يعلو ويغطي ارتجاف أنفاسها.
لم تعرف ما تقول، شعرت وكأن المستقبل الذي حاولت تغييره انزلق من بين أصابعها مرة أخرى…
—
التعليقات لهذا الفصل " 17"