—
عند البوابة الرئيسية للمدرسة، كان فريد واقفًا في وضعيةٍ لا يمكن تجاهلها.
أشعة الشمس الهادئة انعكست على خصل شعره المصقولة بدقة، وقامته المنتصبة جعلته أشبه بعارض أزياء خرج للتو من لوحة فنية كلاسيكية.
بعض الطالبات تمتمْن بانبهار، وأخريات لم يجرؤن على رفع أعينهن عن مظهره المتألق.
بدا كأن المكان كله توقف ليتأمله.
لكن كل ذلك البريق تحطّم في اللحظة التي لمح فيها ما كان ينتظره:
لفينيا.
كانت تجر قدميها على الأرض وكأنها عجوز في السبعين، وجهها يتصبب عرقًا، وشعرها مبعثر من حصة الرياضة التي استنزفت طاقتها.
بدا التناقض بين مظهرها البائس وهي تتمايل من التعب، ومظهره الملكي المتأنق.
رفع فريد يده بخفة وأشار إليها بابتسامة واثقة، لتتحول أنظار الجميع نحوها دفعةً واحدة.
ارتجف وجهها، وتعابيرها انكمشت كمن ابتلع شيئًا مُرًّا.
وعندما وصلت أخيرًا أمامه، لم يستطع أن يكبح تعليقه المستفز:
ــ “ما بال هذا التعبير المقزز على وجهك؟”
أطلقت لفينيا زفرة حادة وهي ترفع عينيها إليه:
ــ “ألَا ترى أني لا أريد حتى رؤيتك؟”
ضحك بخفة، ونفخ خصلة من شعره إلى الخلف:
ــ “يا إلهي، من الذي لا يريد رؤية وسيم مثلي؟ الناس هنا سيقتلون فقط ليحظوا بواحدة من ابتساماتي.”
ثم بدأ يستعرض نفسه أمامها بحركات مفتعلة، كما لو كان يقف على منصة عرض أزياء.
كادت لفينيا أن تفقد أعصابها، لكنها تمالكت نفسها وقالت ببرود:
ــ “هل انت متأكد انك جأت للمدرسة لمراقبتي؟ لستُ مقتنعة… ربما جئت فقط لتغازل.”
ضحك فريد ضحكة مغرورة، ورفع ذقنه عاليًا:
ــ “أنا وسيم لدرجة أن كل الأعين تلاحقني، إنها ليست غلطتي. هذه هِبة، أفهمتِ؟”
تدحرجت عيناها ضجرًا وقالت:
ــ “حسنًا، حسنًا… سأذهب.”
لكن فريد لحق بها، يسير بخطوات طويلة واثقة، ثم قال فجأة:
ــ “بالمناسبة… كيف تسير أوضاع المستقبل معك؟”
توقفت، التفتت نحوه بابتسامة واثقة:
ــ “لقد حدث الكثير. غيرتُ حتى من سيقتل… أنا واثقة من نفسي الآن.”
أصابته الدهشة من نبرتها المليئة بالقوة، لكنه ظل صامتًا، يحدق في وجهها الذي انعكس عليه ضوء الشمس.
ابتسمت هي ابتسامة جانبية وأضافت:
ــ “آه، نسيت… لمَ صنعت هذا الألبوم أساسًا؟”
تصلب جسده.
لم يكن مستعدًا لهذا السؤال .
رفع رأسه للسماء كأنه يبحث عن مفرٍّ هناك، ثم قال بصوت خافت:
ــ “صنعته… من أجل شخص ما.”
اقتربت منه خطوةً بخفة، حدقت في عينيه مباشرة وسألت:
ــ “ومن هذا الشخص؟”
توتر، شعر بحرارة غريبة تزحف إلى عنقه، فرفع يده وضرب خدها بخفة وقال مرتبكًا:
ــ “وما علاقتك أنتِ؟”
صرخت لفينيا وهي تمسك خدها:
ــ “آآآه! اللعنة عليك! إنه يؤلم!”
ضحك بعض الطلاب الذين مرّوا بجانبهما، بينما حاولت هي كبح جماح غضبها.
وأثناء سيرهما،
مرّا بجانب ثنائي يمسكان أيديهما، يضحكان بانسجام.
توقفت عينا فريد عليهما للحظة أطول من اللازم. رفعت لفينيا حاجبها بسخرية وقالت:
ــ “ذلك الفتى انا اتذكره… إنه صديق روكي، ايها العجوز…. لماما تحدق!؟”
ليرد:
ــ “أيتها الحمقاء، كفاكِ ثرثرة!”
قهقهت لفينيا بخبث:
ــ “لم أكن أتوقع أنك منحرف… هل تفكر بمواعدة فتاة تصغرك بعقود؟”
مد يده نحو عنقها بخفة وهو يهمس:
ــ “كفي عن الثرثرة… و الا خنقتك الآن.”
ــ “أيها العجوز! كم عمرك أصلًا؟”
رفع كتفيه بلا مبالاة وقال:
ــ “ثلاثة قرون.”
شهقت، وقفزت للخلف:
ــ “مــــاذاااا؟! أنت أكبر من جد جد جد جدي! هل شهدت الحروب؟ أم كنت حاضرًا حين تأسست الدول؟!”
مرر يده على وجهه متأففًا:
ــ “أجل، أجل… حضرت كل شيء. فقط اخرسي.”
واصل الاثنان السير وسط جدالهما الكوميدي.
حتى كادت سيارة مسرعة أن تصدم لفينيا وهي تلتفت للخلف.
لحسن حظها، فريد كان أسرع من البرق، جذبها بعنف إلى صدره، وصرخ غاضبًا:
ــ “هل أنتِ عمياء؟ ألا ترين أمامك؟!”
تجمدت للحظة بين ذراعيه، العرق يتساقط من جبينها وهي تهمس:
ــ “آ… آسفة.”
تركها فجأة، وتابع السير بوجهٍ متجهم، بينما هي وضعت يدها على قلبها، تدرك أنها كانت على بُعد ثانية واحدة من كارثة.
—
عادت لفينيا إلى البيت منهكة، تتأرجح بين جدرانه وكأنها مقاتلة خرجت لتوها من حرب. استقبلتها أمها بابتسامة:
ــ “لقد عاد ميكل. إنه في غرفتك، بانتظارك.”
اتسعت عيناها رعبًا.
تسللت خطواتها ببطء إلى الدرج، وصدرها يعلو ويهبط بسرعة.
فتحت الباب بهدوء شديد… وما إن دخلت حتى تجمدت مكانها.
كان ميكل جالسًا على سريرها، يفتح ألبوم الصور الجديد.
شحب وجهها، كأن نهايتها اقتربت. بالرغم من إدراكها أنه لا يستطيع رؤية الصور الخاصة بالمستقبل، إلا أن مجرد وجوده مع الألبوم جعلها تشعر بالذعر.
رفع رأسه إليها ببطء وقال:
ــ “لماذا كنتِ تخفين هذا عني؟”
تقدمت ببطء، ساقاها ترتعشان:
ــ “ممم… ماذا تقصد؟”
أغلق الألبوم بصفعة خفيفة على كفه ثم قال بصرامة:
ــ “الصور.”
تعرق جبينها أكثر، ردّت بسرعة:
ــ “هل… هل يمكنك رؤيتها؟!”
وقف فجأة، وابتسامة ماكرة ارتسمت على شفتيه.
أمسك الألبوم وضربها به على مقدمة رأسها بخفة:
ــ “أين اختفت صور طفولتنا؟ هل أضعتِها ولم تخبريني؟”
تجمدت لوهلة، ثم أطلقت تنهيدة ارتياح طويلة، قبل أن تضحك بتوتر:
ــ “أوففف… الحمد لله. لا تقلق، ذاك الألبوم القديم موجود. هذا واحد جديد فقط.”
رمقها بريبة:
ــ “ولماذا اشتريت واحدًا جديدًا؟”
ــ “هاااه؟ سؤال غريب. لأضع فيه صوري الجديدة طبعًا.”
مد يده ليأخذ الألبوم:
ــ “إذن سأحتفظ به أنا.”
صرخت وهي تنتزع الألبوم منه:
ــ “لااا! هذا لي!”
ابتسم ابتسامة بريئة، ومال برأسه مثل طفل صغير:
ــ “ألا يمكنك أن تمنحي صديق طفولتك ألبومًا واحدًا على الأقل؟ من أجل صداقتنا… أرجوكِ.”
ظل ينظر إليها بعينيه البريئتين، حتى كادت تتأثر.
لكنها تمسكت بالألبوم بكلتا يديها، وبدأت تدفعه إلى خارج الغرفة:
ــ “أخرج حالًا من غرفتي!”
توقف عند الباب، التفت إليها وقال بهدوء:
ــ “انتظري، لدي شيء أقوله.”
رفعت حاجبها بحذر:
ــ “ماذا الآن؟”
ابتسم ابتسامة عريضة، وفي صوته ثقة لم تعهدها فيه:
ــ “لدي مباراة مهمة يوم الثلاثاء. أريدك أن تأتي لتشجّعيني.”
تجمدت لحظة، ثم تراجعت خطوة للخلف وهي تقول:
ــ “آه… مباراة؟ حسنا… سأأتي. لكن لا تتوقع أن أصرخ باسمك… هذا يبعث القشعريرة.”
ضحك بخفة:
ــ “يكفيني أنك ستأتين. أتطلع لذلك.”
ثم غادر الغرفة بخطوات خفيفة.
سقطت لفينيا بعدها على الأرض، مرهقة، وضغطت الألبوم إلى صدرها وهمست:
ــ “يا إلهي… كان يومًا طويلًا حقًا.”
—
التعليقات لهذا الفصل " 16"